مجلة الرسالة/العدد 65/الأزمة والغلاء!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 65/الأزمة والغلاء!

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1934


مضت أربعة اعوام، وريح الأزمة الاقتصادية العالمية تهب على مصر بقوة، تضاعفها وتذكيها الظروف المحلية، وملايين الزراع والفلاحين يرون جهودهم وآمالهم تذهب هباء، ومحاصيلهم تباع بأبخس الاثمان، والدين يرهقهم، والحاجة تنذرهم بشرالعواقب، وباقي الطبقات تشاطرهم هذا البؤس الاقتصادي. ولما كانت الحياة الاقتصادية كلها متصلة النواحي، وكان الإنتاج والاستهلاك مرتبطين أشد الارتباط، فقد اضطر الناس إلى الاقتصاد بحكم الضرورة والنزول على أحكام الأزمة؛ وكان في هبوط نفقات العيش بعض التنفس، ولا سيما للطبقات الفقيرة، ولكن الضيق لبث مع ذلك يرهق كل الطبقات.

وإذا كانت الأزمات الاقتصادية محنا شعبية عامة تعانيها جميع الطبقات، فإنها تغدو في كثير من الأحيان ميداناً لنشاط بعض المستغلين الذين لا ذمة لهم، والذين لا تزدهر ثرواتهم إلا في أيام المحنة والضيق. وكذلك وقع خلل الأزمة الأخيرة، فقد ظهر المستغلون في الميدان، فظهر المصطنع في حاجات العيش الضرورية، وهي التي تشتري من المزارع والفلاح بأبخس الأثمان، وصرخ الناس غير مرة، ولكن ماذا يجدي الصراخ والحكومة لا تعنى بأمر المستغلين والمضاربين؟

واشتدت وطأة الغلاء منذ أسابيع، وظهرت بنوع خاص في أثمان الخبز - قوت الشعب - واللحم، والزبد، وغيرها من ضرورات العيش، وضج الناس ولا سيما الطبقات الفقيرة من هذا العنت الذي لا تبرره ظروف الأزمة، ولا يتناسب مع نتائجها، واتجهوا ببصرهم إلى الحكومة لكي تتدخل لحمايتهم وإنقاذهم من شره المضاربين والمستغلين. خصوصاً وأن هذا الارتفاع الطارئ في أثمان الحبوب، وهو الذي ترتبت عليه هذه الموجة من الغلاء، لم يرتفع إلا بعد أن خرج معظم المحصول من يد المزارع والفلاح، فلن يفيد منه سوى القليل.

فماذا فعلت الحكومة؟ قررت أن تشتري ربع مليون أردب من القمح الأسترالي لتستدرك - على ما صرح به رئيس الوزراء - النقص في المحصول المحلي، ولتنذر بذلك الضاربين والمستغلين بأنها سوف تضرب على يدهم إذا لم يقفوا عند حد الاعتدال.

ومن حق الشعب أن يتطلع في مثل هذا المأزق إلى حكومته، والحكومات في جميع الأمم المتمدينة تضطلع بمهمة محاربة الغلاء المصطنع أو الحقيقي، وتسن لذلك القوانين الرادعة إذا اقتضى الأمر، وكثير من الحكومات والبلديات يتولى الإشراف على تموين الشعب، فيحدد وزن الخبز ونوعه وأثمانه، ويتخذ غير ذلك من الإجراءات الكفيلة بالضرب على أيدي المحتكرين والمستغلين؛ وإذا فليس علينا لوم إذا نحن تطلعنا إلى الحكومة لتتخذ ما يجب من الوسائل لحماية المستهلكين ومكافحة الغلاء، ولحفظ التوازن المعقول بين ما يجنيه المزارع من محصوله، وما يقتضيه التاجر من المستهلك ثمناً لوساطته. وليس من وسائل الحماية الناجعة أن تستورد الحكومة مقداراً محدوداً من القمح الأجنبي على نحو ما قررت، ولكن الوسيلة الأولى هي أن تخفض الرسوم الجمركية على الحبوب الأجنبية، وهى التي رفعت في وقت كانت فيه وفرة المحصول المحلي تبعث إلى هبوطالأثمان هبوطاً شديداً.

لتتخذ الحكومة هذه الخطوة وغيرها مما تراه ضرورياً لدرء كارثة جديدة تنذر ملايين الفقراء بالجوع، ولا يستفيد منها سوى قلة من المحتكرين والوسطاء، على أن هنالك عاملاً آخر لم يتوفر لدينا بعد، ذلك هو المقاومة الشعبية، فمن الواجب أن نعود أنفسنا هذه المقاومة التي لابد منها في مثل هذه الظروف. ولو أن الجمهور يعني بالحرص على حقوقه الشعبية، لكانت المقاومة الفردية والشعبية في مثل هذه الأحوال خير وسيلة للحماية. ولو عني كل فرد بأن يقتصد حيثما وجب الاقتصاد، وأن يحرم نفسه بعض الكماليات وقت الضرورة، وأن يجرب جميع الوسائل الممكنة لمقاومة طغيان المحتكر، وإنقاص منسوب الاستهلاك، لكانت حاجته إلى حماية الحكومة في مثل هذه الظروف اقل بكثير مما نشهد اليوم، إذ لا حول لجمهورنا ولا قوة إلا أن تنجده الحكومة، وإذا أجابته فإنها لا تستطيع أن تذهب معه دائما إلى حيث يريد

وهذا ظرف يستطيع الجمهور فيه أن يبدي إلى جانب ما يمكن أن تقوم به الحكومة شيئاً من المقاومة الفردية الحكيمة، فإذا استطاع أن يفعل فانه يبرهن على حيويته، وعلى أنه حريص على حقوقه، وأنه لا يذعن لنير المؤتمرين به من رهط المستغلين والمستفيدين الذين يعملون على سلبه دون أفة، ويبرهن أخيراً على أنه ليس عالة مطلقة على حكومته في جميع شئونه ومرافقه.