مجلة الرسالة/العدد 646/مين دى بيران
مجلة الرسالة/العدد 646/مين دى بيران
(1766 - 1824)
فيلسوف المذهب الروحي في العصر الحديث
للأستاذ زكريا إبراهيم
مين دى بيران فيلسوف فرنسي ممتاز، أدرك الباحثون قيمته بعد وفاته، فاهتموا بنشر مؤلفاته، واعتنوا بدراسة فلسفته. وقد ذاعت شهرته على اثر ذلك، فلقي مذهبه رواجاً كبيراً بين الأوساط الفلسفية التي أقبلت على دراسته.
والفكرة الأساسية التي تقوم عليها مذهب (دى بيران) هي أن الحقيقة الجوهرية الأولى ليست (الذات) باعتبارها مريدة، أي (الروح) باعتبارها فاعلة. فما يكون جوهر الإنسان، إنما هو الإرادة. والإرادة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، لان الإنسان لا يحيى ويحس ويشعر فحسب بل هو يفكر ويريد ويفعل. وإذا كان الإنسان يدرك ذاته، فان لا يدرك هذه الذات فلا باعتبار أنها علة، وقوة، وإرادة، وجهد، وفعل. ومعنى هذا أن نقطة البدء في كل معرفة حقيقية، إنما هي تلك الواقعة الأولية للشعور أو الوعي الإنساني، وهي الحس الباطن أو التجربة الباطنة. وفي هذه البداية يتفق دى بيران مع فخته اتفاقاً كبيرا، حتى لقد سمى كوزان فيلسوفنا باسم: (فخته الفرنسي).
غير أن دى بيران يستبدل بفكرة فخته عن (الفعل) فكرة أخرى جيدة هي فكرة (الجهد). فالواقعة الأولية عند مين دى بيران ليست هي (الإحساس المجرد) الذي يقول به كوندياك وليست هي (الفكر) بالمعنى الذي قصد إليه ديكارت، بل هي (المجهود) الذي يقوم عليه إدراك الذات لنفسها.
ولما كانت الواقعة الأولية للذات هي إدراكها لنفسها، من حيث هي قوة حرة، تعمل وتشرع في الحركة، بإرادتها الخاصة؛ فان الصواب (في نظر دى بيران) لا أن نقول (كما قال ديكارت): (أنا أفكر، فأنا إذن موجود) أو بعبارة أخرى: (أنا أدرك نفسي باعتباري حرة، فأنا إذن علة موجودة بالفعل). وفي موضع آخر نجد مين دى بيران يصحح مقال ديكارت فيقول: (إذا كان ديكارت قد توهم أنه اهتدى إلى المبدأ الأول لكل علم حين قال: (أنا أفكر، فأنا إذن شيء موجود، أو جوهر مفكر)، فان في استطاعتنا أن نقول - تصويباً لهذه العبارة - وبالاستناد إلى شهادة الحس الباطن التي لا ترد: (أنا أفعل، أنا أريد، أو أنا أتعقل الفعل في ذاتي، فأنا إذن أدرك نفسي كعلة، وإذن فأنا موجود، أو أنا كائن باعتباري علة أو قوة).
هذه الحقيقة الأولى التي يؤكدها دى بيران بكل قوة (حين يقول إن الذات تدرك نفسها باعتبار أنها مجهود، وإرادة، وفعل) تدلنا على أن فيلسوفنا هذا كان المؤسس الأعظم للمذهب الروحي في العصر الحديث؛ وهو المذهب الذي ساعد على تقدم علم النفس ونظرية المعرفة، العلوم الخلقية على وجه العموم، في نهاية القرن التاسع عشر. والواقع أننا إذا نظرنا بيران، سواء من الناحية الذاتية أو من الناحية الموضوعية، فإننا نجد أنه من أعظم المفكرين اللذين قادونا إلى الناحية الباطنة في الإنسان. بل ربما كان بيران أعظم فلاسفية المذهب الروحي في فرنسا. وهو بالفعل قد توفر على التوسع في المذهب الروحي الذي أقامه أستاذه (ليبنتس)، فأظهرنا على الإنسان (في حقيقة الأمر) ليس ألعوبة في اثر الأقدار، أو عبداً ذليلاً للضرورة المستبدة، بل هو ذات مريدة فاعلة، لا تستمد نشاطها وقدرتها على الفعل من الأشياء الخارجية، بل من جهدها الإرادي ونشاطها الذاتي، أعني من الإرادة)
والنفس الإنسانية - في نظر بيران - لا تتمثل باعتبارها ذاتاً فاعلة، إلا بالممارسة لقوتها الخاصة؛ ما دامت هذه الممارسة حرة غير خاضعة لأية ضرورة أو قوة خارجية، أي ما دامت غير متوقفة على قوى الطبيعة الخارجية.
وقد فرق بيران بين الإنسان والحيوان من جهة، وبين الإنسان والله من جهة أخرى. غير أنه لم يقصد بهذه التفرقة أن يقيم هوات غير معبورة بين الحيوان والإنسان، أو بين الإنسان والله. وإنما الذي اهتم به بيران وقصد إليه فعلا، هو أن يقرر تلك الحقيقة الهامة عنده، وهي أن الحياة الإنسانية بمعنى الكلمة إنما هي تلك التي تعلو على المستوى الحيواني، وما يميز الحياة الحيوانية (في نظره) هو أنها تخضع للانفعالات العمياء؛ أعني أنها لا تتميز بالحرية والإرادة والاختيار. وعلى الرغم من أن بيران لا ينزل بالحيوان إلى درجة (الآلة)، كما فعل ديكارت، فإنه يعتبر أن الحيوان يحيا دون أن يعرف ما هي حياته، ويشعر دون أن يعرف انه يشعر، أي بعبارة أخرى ليست لدية (ذات) أو (إنية).
أما الحياة الإنسانية فإنها تبدأ حيث تنتهي الحياة الحيوانية، أي حيث يبدأ الشعور بالذات، أو التجربة الباطنة التي تدرك فيها الذات نفسها على أنها قوة فاعلة وإرادة حرة. وبعبارة أخرى فإن الإنسان يحيا حياة إنسانية خالصة، إلا بقدر ما يتحرر من الضرورة العمياء، والأهواء الأنانية. والحيوانية داخلة في الحياة الإنسانية، نظراً لان الانفعال موجود في الإنسان إلى جوار الفعل؛ ولكن في استطاعته الإنسان أن يشارك في حياة غير إنسانية، هي حياة الروح التي تعلو على الحياة البشرية. وفي هذا الصدد يتفق بيران مع نيتشه الذي يقول: إن الإنسان وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى - وما يميز الحياة الإنسانية بالنسبة إلى الحياة الحيوانية والحياة الروحية، هو النشاط والشخصية وحرية الفعل؛ أعني المجهود الذي يبذله الإنسان في مقاومة الأهواء، وتنمية قواه النفسية، من أجل الوصول إلى حياة إنسانية بمعنى الكلمة. أما بالنسبة إلى ما هو دون الإنسان أو ما هو فوق الإنسان، فليس ثمة جهاد أو صراع، لأنه ليس ثمة جهد أو مقاومة -.
والحياة الإنسانية هي في أعلى صورها تحرر من نير الأهواء والانفعالات، وتجاوز لمرتبة الحياة الحيوانية، وارتفاع إلى مرتبة الحياة الروحية.
زكريا إبراهيم
مدرس الفلسفة بمدرسة السويس الثانوية