مجلة الرسالة/العدد 646/في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
مجلة الرسالة/العدد 646/في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب
للأستاذ محمد إسعاف النشاشيى
- 17 -
ج 1 ص 181:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشاه فنمنمه بيان ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشرات ... تجلى بينها حلل المعاني
قلت: (تجلى بينها صور المعاني) كما روى أبو الفرج. وفي (أغانيه): (فنمنمه مسد فصيح) وأسد القول أصاب السداد، والشعر لإبراهيم بن العباس الصولي.
ج 19 ص 209: حدث أبو عبيدة ان يونس النحوي سئل عن جرير والفرزدق والأخطل أيهم اشعر؟ فقال: أجمعت العلماء على الأخطل. قال أبو عبيدة: فقلت لرجل إلى جنبه: سله: من هؤلاء العلماء؟ فسأله فقال: هم ميمون الأقرن، وعنبسة الفيل، وابن أبي إسحاق الحضرمي، وأبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي. هم طرقوا الكلام وماثوه لا كمن تحكون عنهم لا هم بديون ولا هم نحويون.
وجاء في الشرح: (ماثوه موثا) هذا كناية عن بحثهم المتواصل واستقرائهم المتتابع كمن مات الشيء بالشيء إذا خلطه بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر.
قلت: (ماشوه ميشا) في الأساس: ومن المجاز: وتقول: هم نقشوا الكلام وماشوه وطرقوه للنحارير في العربية.
في التاج: ماش القطن يميشه ميشا: زبدَه بعد الحلج. وزبُد القطن نفش وجود حتى يصلح لأن يغزل. وفي اللسان: طرق النجاة الصوف يطرقه طرقا ضربه، واسم ذلك العود الذي يضرب به المطرقة.
ليمون الأقرن وعنبسة الفيل وسائر من ذكرهم يونس بن حبيب البصري النحوي أن يقدموا ويؤخروا، ويعلوا وينزلوا (فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما (بين الفرزدق وجرير) وبين الأخطل؛ لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له مثل مالهما من فنونه) كما قال أبو الفرج في كتابه، وقد أوردت قضاءه في مقالاتي (خليل مردم بك وكتابه الفرزدق) في (الرسالة الغراء) في سنتها السابعة، وبينت هناك ما بينت.
وهذا قول لم أروه في تلك المقالات وهو الأديب العظيم أبي بكر محمد بن يحيى الصولي في كتابه الفائق (أخبار أبي تمام): كنت عملت (أخبار الفرزدق) وبدأت (به) وفي نيتي عمل أخبار جرير والأخطل بعده، وإنما بدأت بالفرزدق لقوة أسر كلامه، وكثره معانيه، وجميل مذهبه، ولأنه يتقدم عندي الاثنين من طبقته في شعره، أعني جريراً والأخطل، ولا أعيب من يقدم عليه إذ كنا نجد أئمة من العلماء لهم فيهم أراء مختلفة، وتقديم لبعضهم على بعض، ولكنني في حيز من يقدم الفرزدق. وابتدأت في عمل أخبار جرير، فبلغني أن قوما تضمنوا عملها حلافا على وكياداً إلي، فأمسكت عن إتمامها امتحانا لصدقهم، فمات بعض وبقى آخرون، ولم تعمل حتى الساعة. . .
ج 2 ص 269:
لو دام لي في الورى وعاتقة ... لما حفلت بدى قربى ولا رحم
ولا بكرت إلى حلو لنائله ... ولا التفت إلى شيء من النعم
قلت: (لما حفلت) حفل يحفل (ولا بكرت إلى خلق لنائله) بكر إلى شيء - من باب قعد - أتاه بكرة أو في أي وقت كان، وبكر إلى الشيء كفرح عجل كما في التاج. وخلق اسم ومصدر كما قال سيبويه في (الكتاب) أو أصله مصدر كما في الصحاح. وخلق هنا أمثلة في قول المتنبي:
ولا تشكَّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرحم
والعاتقة في الشعر - وهو لجحظة البرمكي - هي الخمر.
والمعروف خمر عاتق وعتيقة ومعتقة وعتاق. قال حسان (رضى الله عنه):
تبلت فؤادك في المنام خريدة ... تسقى الضجيع ببارد بسام
كالمسك مخلطة بماء سحابة ... أو عاتق كدم الذبيح مدام
ج 9 ص 178: فكم أهل هدته - نصر الله عزائمها - بعد الضلال، وحر استنقذته من حبائل الأقلال، ومرهق خففت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريد بوأته من حرمها أمنع المعاقل.
منازل عز لو يحل ابن مزنة ... بها لسلا عماله من منازل وجاء في الشرح: ابن مزنة المطر. قلت: (فكم تائه أو حائر أو ضال أو ضليل أو مضلل هدته بعد الضلال)؛ وابن مزنة هو الهلال.
في الصحاح: ويقال للهلال: ابن مزنة قال:
كأن ابن مزنتها جانحا ... فسيط لدى الأفق من خنصر
وقيل للهلال لبن مزنة لأنه يخرج من خلال السحاب، حكى ذلك عن ثعلب كما في التاج. ونسب البيت في اللسان والتاج إلى عمرو بن قميئة. والفسيط هو القلامة، في الأساس: ما لفلان مقدار فسيط، وأنشد يعقوب: كأن ابن مزنتها البيت.
ج 15 ص 207: لأبي علي المنطقي:
في البرق لي شاغل عن لمعة البرق ... بدا وكان متى ما يبد لي يشق
منفرا سرب نومي عن مراتعه ... كأنما اشتق معناه من الأرق
أخو ثنايا التي بالقلب مذ ظعنت ... أضعاف ما بوشاحيها من القلق
ما كان يسرق من حرز الجفون كرى ... لو انه من لماها غير مسترق
وجاء في الشرح: البرق الأول مكان والثاني برق السحاب.
قلت: (في البرق لي شاغل عن لمعة البُرَق) (لو أنه من لماها غير مسترق) والبرق الأول هو البرق المعروف واللفظة الثانية هي جمع برقة.
في اللسان: اللمعة الموضع الذي يكثر فيه الحلي، ولا يقال لها لمعة حتى تبيض، وقيل: لا تكون اللمعة إلا من الطريفة والصليان إذا يبسا، تقول العرب: وقعنا في لمعة من نصي وصليان أي في بقعة منها ذات وضح لما نبت فيها من النصي وتجمع لُمعا.
والبرقة (وجمعها برق) ذات حجارة وتراب، وحجارتها الغالب عليها البياض، وفيها حجارة حمر وسود، والتراب ابيض وأعفر وهو يبرق لك بلون حجارتها وترابها، وإنما برقها اختلاف ألوانها وتبت أسنادها وظهورها البقل والشجر نباتاً كثيرا، يكون إلى جنبها الروض أحياناً.
ومما رواه أبو الفرج في هذا البرق السائق قول أبي قطيفة:
إذا يرقت نحو الحجاز سحابة ... دعا الشوق منى برقها المتيامن
وقول ابن ميادة: أرقت لبرق لا يفتر لامعه ... بشهب الربى والليل قد نام هاجعه
أرقت له من بعد ما نام صحبتي ... وأعجبني إيماضه وتتابعه
وقول إبراهيم بن اليزيدي:
ماذا بقلبي من اليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردنَّ أو دمشق ... لأن من أهوى بذاك الأفق
وروت هذين البيتين (نهاية الأرب).
ج 2 ص 73: وقال (الصابي) في غلام له اسمه رشد اسود:
قد قال رشد وهو اسود للذي ... ببياضه يعلو علو الحائن
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن منى فيه خالا زانه ... ولو أن منه في خالا شانني
وجاء في الشرح: ويروى باليتيمة استعلى علو مباين.
قلت: (بياضه استعلى علو الخاتن) في المقامة الثامنة والثلاثين المروية للحريري: قال فقربه الوالي لبيانه الفاتن، حتى احله مقعد الخاتن.
في (نهاية الأرب): قال بشار وأجاد:
يكون الخال في خدنقي ... فيكسبه الملاحة والجمالا
ويونقه لأعين مبصريه ... فكيف إذا رأيت اللون خالا
في (الوفيات) هذا الخبر البارع في السواد:
قال إبراهيم بن المهدي: قال لي المأمون وقد دخلت عليه بعد العفو عني: أنت الخليفة الأسود؟ فقلت يا أمير المؤمنين، أنا الذي مننت عليه بالعفو، وقد قال عبد الحسحاس:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود الخلق إني ابيض الخلق
فقال لي: يا عم، أخرجك الهزل إلى الجلد، وأنشد يقول:
ليس يزري السواد بالرجل الشهم (م) ... ولا بالفتى الأديب الأريب
إن يكن للسواد فيك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي!
قلت: - ولا قول إلا الحق -: إن السواد عند الله وعند الطبيعة والحقيقة هو كالبياض، والبياض لد السواد، والأحمر أخو الأصفر، والبيئة - يا أخا العرب - هي التي قد لونت، وهي التي قد شكلت ونوعت، وصورت ما صورت؛ فلا يروق ذو لون على ذي لون، وليس في الدنيا عبد وحر، ولن يشين المرء لونه - يا أيها الغربي - لكنه يشينه تلونه. . .
في (أساس البلاغة) لجار الله: ورجل متلون: مختلف الأخلاق.
ج 7 ص 151: أبو محمد القاسم بن احمد الأندلسي قال:
وجدت في مسائل نحوية تنسب إلى ابن جنى: لم أسمع لأبي علي (الفارسي) شعراً قط إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر، أبو علي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فان خاطري لا يواتيني على قوله مع تحققي للعلوم التي هي من موارده. فقال له ذلك الرجل: فما قلت قط منه شيئاً البتة؟ فقال: ما أعهد لي شعراً إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعاب
ولم أخضب مخافة هجر خل ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا
ولكن الشيب بدا ذميم ... فصيرت الخصاب له عقاب
فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال، لأني كتبتها عن المفاوهة، ولم أنقل ألفاظها.
وجاء في الشرح: كانت (المفاوهة) في الأصل (المفاوضة) قلت: الأصل صحيح، ومفاوضة العلماء محادثتهم ومذكراتهم، والمفاوهة: المقاولة والمناطقة، فهي تحكى المحادثة والمذاكرة.
وقد ضبطت (البتة) في هذا الخبر وفي مواضع أخر في الكتاب بهمزة مقطوعة أو بألف القطع، وقد وجدتها في البخاري والكامل وكتاب سيبويه والصحاح وغير ذلك بألف الوصل، ولم أعثر على نص للأئمة القدماء فيها، فمن وجده تقرب إلى العلم بنشره في (الرسالة) مشكوراً. وهذا ما قاله التاج:
(ولا افعله البتة) بقطع الهمزة كما في نسختنا، وضبط الصحاح بوصلها، ونقل شيخنا عن الدمامينى في شرح التسهيل: زعم في اللباب انه سمع في البتة قطع الهمزة، وقال شارحه في العباب: إنه المسموع. قال البدر: ولا أعرف ذلك من جهة غيرهما، وبالغ في رده وتعقبه، وتصدى لذلك أيضاً عبد الملك العصامي في حاشيته على شرح القطر للمصنف.
قال ابن خلكان: كنت مرة رأيت في المنام سنة (648) وأنا يومئذ بمدينة القاهرة كأنني قد خرجت إلى قليوت، ودخلت إلى مشهد بها فوجد له شعثاً، وهو عمارة قديمة، ورأيت به ثلاثة أشخاص مقيمين مجاورين، فسألتهم عن المشهد وأنا متعجب لحسن بنائه وإتقان تشييده: ترى هذه عمارة من؟ فقالوا: لا نعلم ثم قال أحدهم: إن الشيخ أبا علي الفارسي جاور في هذا المشهد سنين عديدة، وتفاوضنا في حديثه، فقال: وله مع فضائله شعر حسن، فقلت له: ما وقفت له على شعر، فقال: وأنا أنشدك من شعره، ثم أنشدني بصوت رقيق إلى غاية ثلاث أبيات، واستيقظت في اثر الإنشاد، ولذة صوته في سمعي، وعلق على خاطري منها البيت الأخير وهو:
الناس في الخير لا يرضون عن أحد ... فكيف ظنك سيموا الشر أو ساموا
ج 18 ص 286: قال (الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب):
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
قلت: (من قيل وقال) (أو إصلاح حال)
ج 19 ص 202:
كأن القلب ليلة قيل يغذى ... بليلى العامرية أو يراحُ
قطاة غرها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح
قلت: (غرها شرك) كما روى الكامل والحماسة والأغاني وفس التبريزي. وقد نسب الشعر في الإرشاد والحماسة إلى نصيب بن رياح. وقال صاحب الكامل: أحسبه توبة، وقال أبو الحسن الأخفش: يقال: إنه لمجنون بنى عامر وهو الصواب، وعزى في الأغاني في موضعين إلى (المجنون) فضاع - والحالة هذه - قائله.
مما قيل في (مجنون ليلى) في (الأغاني):
عن المدائن عن ابن دأب قال: قلت لرجل من بنى عامر: أتعرف المجنون وتروى من شعره شيئاً؟ قال: أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير، فقلت ليس هؤلاء أعني، إنما أعني المجنون بنى عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات، بنو عامر أغلط أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها، فأما نزار فلا.
عن أيوب بن عباية أن فتى من بنى مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر، وبنسبة إلى المجنون، وإنه عمل له أخباراً، وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.