مجلة الرسالة/العدد 645/الفن عام
مجلة الرسالة/العدد 645/الفن عام
نعم. لكن بأي معنى؟
للأستاذ عباس محمود العقاد
(سير كنيث ماكنزي كلارك) هو في الوقت الحاضر أكبر النقاد في فن التصوير بالبلاد الإنجليزية.
وقد تولى إدارة المتاحف الوطنية الكبرى عدة سنوات وهو لم يتجاوز الثلاثين، وبلغ هذه المنزلة الرفيعة في عالم الفن ولما يتجاوز اليوم الثالثة والأربعين.
كتب هذا النقادة العالمي في إحدى الصحف اللندنية بحثاً بدل عنوانه على فحواه وهو (أن الفن ليس لكل إنسان).
ولا نطيل في تلخيص آرائه لأننا قد نستغني عن الإطالة في تلخيصها بمثلين اثنين من أمثلة المتكررة فيهما الكفاية فيما أراد البيان عنه.
إحداهما أن المتحف الوطني اشترى سنة 1840 صورة لفان آيك بثلثمائة وثلاثين جنيها إنجليزياً واشترى معها صورة لجيدو بألف وستمائة جنيه. . . والآن تقدر الأولى بثلثمائة ألف جنيه لو سمح ببيعها، ولا تزيد قيمة الأخرى على الثلاثين.
أما المثل الثاني فهو نتيجة استفتاء لهواة الصور في مجموعة من القطع الفنية الخالدة ومعها بعض القطع التي لا تعلو على طبقة الصور المعدة للإعلان وترويج البضائع.
بيع من هذه المجموعة ثمانون ألف نسخ، وكان أربعة أخماس الصور المعروضة فيها من آيات الفن الكبرى، وما بقي من المجموعة أخلاط وأو شاب.
والذين سئلوا عن رأيهم في أبدع هذه الصور جميعاً هم بطبيعة الحال هواة الفن الذين يسهل على أحدهم بذل الثمن الغالي في كتب التصوير.
ومع هذه أحصيت الأجوبة فإذا بالصور الست المفضلة كلها من غير الآيات الفنية الكبرى، مع أنها تبلغ أربعة الأخماس من صور المجموعة وليست هي بالقلة التائهة بين زحام تضل فيه الأذواق والآراء.
ونعتقد أن المثلين يتكرران في كل بيئة وفي كل فن من الفنون الجميلة، وأن النتيجة لا تختلف عن هذه النتيجة كبير اختلاف.
وإنما يلفت النظر في المثلين أن الغلطة في المثل الأول غلطة نقاد مختصين بالتقويم والتقدير في المتاحف العالمية المعدودة، وأن الغلطة في المثل الثاني غلطة جمهور غفير ولكنه هو جمهور الفن على كل حال.
فما الذي يفهم من هذين المثلين؟
لا يفهم منهما أن ذوق الفن حظ شائع بين سواد الناس، ولا أنه ذوق خاص بالعلية في عصر واحد.
فكيف يقال إذا إن (الفن عام) وإنه تراث عالمي أو تراث إنساني يقاس بمقياس الإنسانية جمعاء؟.
إنما يقال هذا بمعنى واحد لا معنى سواه.
وهو أن الفن (عام) بمعنى أنه للخاصة في جميع الأزمان وليس للخاصة في زمن واحد أو بيئة واحدة.
فإذا كان كذلك كان (إنسانياً) وكان عاماً بهذا المعنى دون غيره، لأن اتفاق الخاصة على استحسانه في كل زمن هو الدليل على أنه قائم على المزايا الإنسانية التي تنال بالفطرة المهذبة، ولا ترجع إلى الأسباب الموقوتة التي ترفع إلى منزلة الخاصة أحياناً في بعض العصور من لا يستحقون التمييز والترجيح.
فإذا كان العمل يروق الخاصة في بعض العصور ولا يروق الخواص في العصور الأخرى فذلك هو الدليل القاطع على أنه لا يروقهم لمزية إنسانية باقية، ولكنه يروقهم لسبب من سببين عارضين: أحدهما أن نزوة من النزوات التي تطغي على العقول والأذواق في بعض الأحوال قد طغت على أولئك الخاصة فأضلتهم عن سواء السبيل، والآخر أنها خاصة مزيفة قد صعدت إلى مكان العلية والسراة لعيب من عيوب المجتمع الذي برزت فيه.
فمن قال إن (الفن عام) لا يصح أن يعني بكلامه هذا أنه خلق للعامة وكل من يعقل أو لا يعقل على السواء، وإنما يستقيم كلامه على وجه واحد وهو أن الفن الرفيع إنساني لأنه يعجب الممتازين من بني الإنسان في جميع العصور.
ونحن نقول العامة والخاصة في مسائل الفن والأدب، ونقصد بهما العامة والخاصة في الأذواق والأخلاق والملكات، ولا نقصد بهما عامة العرف الاجتماعي أو خاصة الأوضاع والتقاليد.
فالغني قد يكون من أحقر العامة في أذواقه وأخلاقه وملكاته، والفقير قد يكون من أرفع الخاصة في تلك المزايا الإنسانية العليا، وقد يكون هو مبدع الآيات الغوالي في الأدب والتصوير والموسيقى والتمثيل كما حدث ويحدث إلى آخر الزمان.
بل نحن نرى أن العامية أوسع نطاقاً من فوارق الغنى والفقر والذكاء والغباء.
فقد يكون الرجل خاصة في الهندسة وعامة في الشعر والكتابة، وقد يكون خاصة في الأدب وعامة في الموسيقى والتصوير، وقد يكون خاصة في فقه اللغة وعامة في أذواق الفنون، وقد يكون خاصة في الخلق والإنتاج وعامة في النقد والشرح والتفسير.
لأن الإنسان الذي يرتقي إلى مرتبة الخاصة في جميع المحاسن الإنسانية غير موجود ولا يتأتى له وجود.
والمقصود على هذا بخواص الفنون والآداب هم أولئك الذين يحسبون فهمها ويملكون وسائلهم وموازين الترجيح فيها.
وعلى هذا الاعتبار يصح أن يقال كما قال أناتول فرانس إن الجمال الفني سهل وإنه على قدر سهولته يكون نصيبه من الجمال.
فأسهل الفنون هو أجمل الفنون.
ولكن ينبغي قبل ذلك أن تسأل: سهل هو على أي الناس؟
فلو كان المقصود أن تكون سهلا على جميع الناس لخرج من الفنون العليا فن المتنبي وأبي العلاء وابن الرومي والبحتري وهو مر وجيتي وشكسبير، وارتقى إلى ذروة هذه الفنون كل نظام من سوقة الجماهير يطربهم بالأزجال والمواويل.
ولكن المقصود بالسهولة هم أولئك الذين استعدوا بفطرتهم وتهذيبهم لفهم الجمال الرفيع في آيات مبدعيه والمعبرين عنه من الشعراء والأدباء والفنانين.
وعلى هذا المعنى أيضاً يقال إن (الفن عام) لأنه يعم كل من تهيأ بفطرته وتهذيبه، وكلاهما من صفات بني الإنسان، وليسا من الصفات المستعارة للآدميين من خارج الحياة الآدمية.
والأمر بعد أوضح من أن يحتاج إلى عناء في إثباته وتمييز صوابه من خطئه.
لآن الحقيقة التي لا مراء فيها أن الأذكياء أكثر من الأغبياء، وأن أصحاب الأذواق أكثر من المحرومين منها، وأن دقائق البلاغة وأسرار الجمال أخفى من البلاغة الشائعة والجمال المبذول، وأن الإنسان بالفطرة والتعليم معاً أرجح من الإنسان بالتعليم وحده أو بالفطرة وحدها.
ومع ثبوت هذه الحقيقة واستغنائها عن اللجاجة في إقامة البرهان على صحتها لا تكون الدعوة إلى تجريد الفنون من الخاص والعام، ومن الرفيع والوضيع، إلا مسخاً للمزايا وهبوطاً للصاعدين وتسوية بين الذي هو أدنى والذي هو خير.
ولم نر قوياً وهب له الله الصحة يتمارض لأن في الخلق مرضى وضعفاء.
ولم نر ذكياً رفيع الذهن يحرم على نفسه الارتفاع إلى ذراه لأن في الخلق أغبياء لا يطاولونه إذا ارتفع ذلك الارتفاع.
ولم نر صحيحاً موفور الاشتهاء للمآكل أكل الممعودين، لأن الممعودين لا يهضمون كل ما يهضم من الطعام.
فلماذا نحرم على النوابغ والموهوبين أن يفكروا في شيء لا يقوى على التفكير فيه من حرموا النبوغ وهبات الخلق والابتكار؟
ألان الطعام أرفع وأكمل من الذوق والفكر والشعور؟ ألان الارتفاع والامتياز حرام والشيء الوحيد المباح هو الانحدار والتساوي بين نزلاء الحضيض؟
ليقل ذلك من ينفعه أن ينحدر الصاعدون، وأن تخلو الدنيا من التفوق والرجحان.
وإذا قالوه فلا سبيل لهم إلى تحقيقه إلا بقوة الحيوان دون قوة الإنسان.
أما الإنسان فهو لا يقول هذا ولا يستريح إلى سماعه، ولا يأبى أن يكون الفن عاماً لا يستأثر به أناس بغير الحق والاستعداد، ولكنه يأبى أن يعم ليسقط فيه الرفيع إلى منزله الوضيع، لأن زواله خير من بقائه على هذه الحال.
عباس محمود العقاد