مجلة الرسالة/العدد 644/نقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 644/نقد

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1945



النشيد السوري

للأستاذ علي الطنطاوي

ناظم هذا النشيد أديب كبير، وصديق كريم، وهو يعلم أن ليس

له عندي إلا الإجلال والتوقير، وأن الشاعر (وإن نبغ) يسبق

تارة ويقصر، وأن النقد (وإن قسا) لا يصدر عن حقد، ولا

يرمي إلى تحقير، وإن مصلحة الوطن بإصلاح النشيد تسوغ

مفاجأة الصديق الكبير بنقد هذا النشيد

(علي)

كانت نشأتنا الأولى في عهد العثمانيين، وكانت لهم أناشيد يلقونها علينا باللسان التركي، لذا لم نكن نفهم معانيها الضخمة إلا بالترجمة، والترجمة لا تحمل دائماً المعنى كله، فلقد كانت تهزنا ألحانها القوية المثيرة التي وضعت لتكون لمشاة الجيش قوة وعوناً. وكنا إذا أنشدناها سائرين لا نستطيع أن نقف، وإذا تلوناها واقفين سرنا، وإن قرأناها قاعدين حركنا، من غير قصد منا، أيدينا أرجلنا - وإنها لتحرك الحجر! ثم جاء عهد فيصل، وكان عهد ازدهار وحياة، ونشاط بدا في كل شيء، فنشطت فيه الأناشيد العربية من عقالها، فترجمت أكثر الأناشيد التركية فكان منها نشيد:

أنا أمي لم تلدني ... إلا للحرب العوان

بنغمته القوية، ولحنه العاصف - وكان أسير أناشيد ذلك الزمان وأشهرها نشيد: (أيها المولى العظيم)، الذي اعتبر النشيد الوطني السوري بل العربي، على هلهلة أسلوبه، وضعف معانيه، يليه في الشهرة والذيوع نشيد:

أنت سوريا بلادي ... أنت عنوان الفخامة

كل من يأتيك يوماً ... طامعاً يلقى حمامه لفخري بك البارودي، وهو نشيد ضعيف النسج، متهافت البناء، لكن معانيه في الذروة، واشتهرت أناشيد أخرى منها نشيد:

(سيروا للمجد طراً سيروا للحرب، واستعيدوا بالمواضي دولة العرب)؛ ونشيد طلاب المدرسة الحربية: (نحن جند الله شبان البلاد)، وهو من خيرها لفظاً ومعنى، وقد جمعها (الفلاح العربي) في رسالتيه المعروفتين في تلك الأيام.

ثم لما قضى الله قضاءه فينا في (ميسلون)، ووقعت الواقعة، ودخل العدو ديارنا، منعت هذه الأناشيد كلها، إلا أن تردد همساً، واشتهر يومئذ نشيد الأستاذ أديب التقى رحمه الله: (في كل صوب حشدت عساكر مدججون)، الذي يصور فيه موقعة ميسلون، فكان ينشد وراء الأبواب، وحيث لا يسمعه الغاصبون، وهو نشيد جيد لحنه حزين مؤثر.

وانقطع بعد ذلك سبيل الأناشيد الوطنية، حتى قدم علينا من العراق الكشافون في العهد الوطني الأول (سنة 1936) فأخذنا منهم نشيدين اشتهرا فينا وسارا بيننا، حتى كان الطفل الذي لم يتعلم بعد الكلام يدير في حلقه كلمات منهما، وهما (هذا الوطن حق له أن يفتدى بالدماء والمهج) و (نحن كشاف العراق)، والشعر فيهما ليس بذاك، واللحن فظيع هو أشبه بصراخ لا دلالة له، منه باللحن الذي يؤثر في الأعصاب ويحرك القلب، ولكنهما مع ذلك نشيدان قويان

ووضعت على أثر ذلك أناشيد جيدة منه (نحن الشباب لنا الغد)، ولكن يعيب لحنه هذه الصيحة المؤنثة في آخر البيت، عند تكرار (نحن الشباب)، فهي صيحة عجوز ثاكل كان لها الأمس لا صيحة شباب لهم الغد، والنشيد العظيم حقاً في نظمه ولحنه، ولفظه ومعناه، نشيد: (موطني) لفقيد الشعر إبراهيم طوقان - رحمه الله - ومن أجودها لحناً نشيد الأستاذ حسني كنعان: (أيها الكشاف بادر وارتق أوج العلا)؛ ولحنه نموذج للألحان الحماسية - نسجل هذا للتاريخ!

وصحت النية على وضع نشيد للجمهورية السورية، وكانت مسابقة، ولجنة وجائزة، ثم عدل عن ذلك واختير النشيد الذي قدمه هذا الأديب الكبير، فلما قرأناه علمنا أنه لوحظ باختياره اسم الشاعر ومنزلته، وإنه لهما لا لبراعة الشعر فرض علينا هذا النشيد، واحتملناه سنين، غير أنه لا يصح أن نحتمله الآن، وقد تم استقلالنا، أو هو قد أشرف على التمام، واستقبلنا عهداً من حياتنا جديداً، ولا بد من بيان عيب هذا النشيد لنستبدل به:

الأصل في النشيد الوطني أن يكون على لسان المتكلم، لأن الأمة هي التي تردده وتنطق به، وهذا النشيد موجه إلى حماة الديار، مطلعه:

حماة الديار ... عليكم السلام

أبت أن تذل ... النفوس الكرام

فمن الذي يقول هذا الكلام، ومن المخاطب به؟ إن كان ينطق به الشباب وهم حماة الديار، لم يعقل أن ينادوا أنفسهم، ويسلموا عليها، وليس هذا من (التجريد) الذي كان يألفه شعراء العرب؛ وإن كان يقوله غير الشعب لم يكن مقبولا. لأن النشيد يوضع ليقوله الشعب، ويترجم به عن آماله ومطامحه.

ثم إن هذا السلام المنكر، من منكر القول، وهو بلهجة أروام الإسكندرية وأرناؤوط الشام أشبه. وليس يليق بهذا المكان، ولا محل له في البلاغة، هذا إذا كان للسلام ورده داع ولا داعي له هنا أصلا.

ثم يقول بعد هذا:

عرين العروبة ... بيت حرام

وعرش الشموس ... حمى لا يضام

فلا يعرف السامع ما عرين العروبة هذا، أهو الجزيرة أم مصر أم الشام أم العراق؟ ولا يعرف المسلم (بيتاً حراماً) إنما يعرف البيت الحرام، لا ثاني له، فهذا التنكير أولا، وابتذال اسم البيت الحرام في كل مكان ثانياً، كلاهما قبيح. وما هو هذا العرش، والنشيد نشيد جمهورية؟ أفنظمه ليكون النشيد الرسمي لبني أمية وأي شموس هذه؟ وما هذا الإبهام حيث لا يحسن إلا التصريح والتوضيح؟ يأتي بعد ذلك هذا المقطع العجيب:

ربوع الشام ... بروج العلاء

تحاكي السماء ... بعالي السناء

وأرض زهت ... بالشموس الوضاء

سماء لعمرك ... أو كالسماء

أما (بروج العلاء) هذه فتصح في كل أرض يريد أن يبالغ في مدحها القائل، ولا تدل على ميزة للشام لا تصفها بصفة فيها، ولا تعرف بها الغريب عنها، ولا يحبها إلى أبنائها، فهي كمراثي الأستاذ علي الجارم التي تصلح لغازي وللإسكندر المكدوني وللشيخ المراغي، لأنها تهد الجبال وتبكي السماء، وتقيم القيامة، أو ترسل على الدنيا قنبلة ذرية، لا بحجم البيضة، بل بحجم الفيل، ثم لا تذكر المرثيّ بشيء مما كان عليه. وهذا استطراد نعتذر إلى الشاعر الكبير علي الجارم بك منه، فقد جرته المناسبة.

وما دامت الشام بروج العلاء، وكان ذلك قد تقرر لدى السامع فما معنى كونها تحاكي السماء، وبروج العلاء هي السماء في إفهام الناس كلهم، وهل السماء، أسنى سنا من البروج؟ المسألة تحتاج إلى خبير فلكي.

ثم إن الضياء هو السنا بالقصر وأما السناء بالمد فهو الارتفاع، ومن هنا أطلق على المجد مجازاً، فصار معنى قوله (بعالي السناء) برفيع الارتفاع، وهو الحشو نفسه، وهو إذا قبل في القصيدة لا يقبل في النشيد، لأن النشيد كلمات معدودة وألفاظ محدودة، لا يجوز أن يذهب لفظ واحد منها من غير أن يدل على شيء. وهو بعد أن جعلها بروج العلاء التي تحاكي السماء، عاد فهبط بها فجهلها (أرضاً زهت) ولكن بالشموس الوضاء! وما فهمت إلى اليوم ما يريد بهذه الشموس التي يرددها ولا يشبع من ذكرها، إن كان يريد الحقيقة فهي شمس واحدة ما خلق الله سواها، وأن كأن يقصد المجاز، فليذكر ما يدل عليه ويصرف الفكر إليه، وما كل سامع للنشيد أو تالٍ يستطيع أن يجد له التأويل، هذا إذا كان له ذا الكلام العجيب تخريج أو تأويل.

وأعجب العجب، وأقبح القبح، وأن يعود بعد كل ما مر، فيجعلها سماء، ثم ينزل بها فيجعلها كالسماء، وهذا ضد ما عليه البلغاء في كل عصر، وفي كل أمة ولا أحسب ذوقاً في الدنيا يسيغه، عدا عن هذا الحشو في كلمة (لعمرك)، وعمر من هذا الذي يحلف به؟ ولمن هذا الخطاب؟ والمفروض في النشيد كما بينت أن ينطق به الشعب كله؟!

وما هو مغزى هذا كله، وما دلالته، وأي مجد للشام يذكر، وأي عاطفة تثير؟ لا شيء إلا هذه المناقشة المزعجة في الشام: هل هي بروج العلاء تشابه السماء برفيع الارتفاع؟ أم هي أرض ولكن زهت بالشموس؟ أم هي سماء (وحياة عمرك. . .) أم كالسماء؟ هذه هي المشكلة الوطنية الكبرى، ملأ النشيد بذكرها، وهذه هي آمال الوطن ومطامحه، والله المستعان!

وباقي النشيد لا يختلف كثيراً عما ذكرت منه على حين أن النشيد يجب أن يكون موضوعاً على لسان الشعب، وأن يكون قوي العبارة، خالياً من الحشو، واضحاً كل الوضوح، صالحاً لكل زمان، معبراً عن آمال الشعب وآلامه ومطامحه، مثيراً نخوته وحماسته، مشيراً إلى ماضيه وأمجاده، وجمال أرضه ودياره، إلى غير ذلك مما يوصل إلى الغاية من وضع النشيد، وهي إثارة العزة الوطنية في النفوس، وأن يختار له النغم القوي من غير خشونة، العاطفي بلا ضعف. وحياة النشيد بلحنه وما يهز هذا اللحن من أوتار القلوب، ويحرك من أعصاب السامعين، فإذا كان لنا نشيد يشتمل على هذا كله. . . وألا فلا تقولوا: لنا نشيد!!

علي الطنطاوي