مجلة الرسالة/العدد 644/الأجانب في البلاد العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 644/الأجانب في البلاد العربية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 11 - 1945



للدكتور جواد علي

في الكتب اليونانية القديمة أسماء مستعمرات أنشأتها الجاليات الأجنبية في البلاد العربية. تقع أكثرها على سواحل البحر الأحمر أو السواحل الجنوبية. وقد عنى المستشرقون بالبحث عن هذه المستعمرات وعن مواقعها وآثارها. ومن أشهر هؤلاء المستشرق النمساوي الشهير المرحوم كلاسر في كتابه القيم (صورة تاريخ البلاد العربية وجغرافيتها).

وقد أُنشئت هذه المستعمرات على ما يظهر لتموين القوافل البحرية ولحراستها من هجمات قرصان البحر. ولإقامة البحارة والتجار. ولما ضعفت الأم وهزلت ولم يعد في إمكانها إمداد هذه المستعمرات بالمؤن والرجال استعرب من كان في هذه الثكنات الحربية واندمج في مجموعة القبائل العربية. وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الكلمات الأجنبية في اللغة العربية قبل ظهور الإسلام بزمان طويل ووجود بعض القبائل العربية ذات السحن الغربية في داخل شبه الجزيرة.

ومن جملة تلك المستعمرات مستعمرة (العيلاميين) المتاخمة لأرض المعينين وقد ذكرها المؤرخ (بلينيوس) الشهير في جملة الأماكن التي ذكر أسماءها في أرض المعينين.

ورأى المستشرق كلاسر أن هذه المستعمرة العيلامية هي من بقايا العيلاميين المعروفين سكنة عيلام سكنوا في هذه المنطقة بعد أن تمكن العيلاميون من الاستيلاء عليها وظلوا فيها بعد زوال دولة العيلاميين. ويأتي هذا المستشرق بدليل هو أن هذه المنطقة التي نتحدث عنها وجميع أرض عمان قد كانت في عهد المؤرخ (بلنيوس) تحت سيطرة الإرشاكيين وورد في نص الأكسومي اسم بشبه هذا الاسم هو (عظالم) من كلمة (عظلم). وقد وردت هذه التسمية في كتاب (صفة جزيرة العرب) للعالم الشهير الهمداني الاختصاصي في تاريخ اليمن. فلا يستبعد إذاً أن تكون هذه الكلمة محرفة عن التي ذكرت في كتاب (بلنيوس) المذكور.

وتعرف المستشرق المذكور على مستعمرة أخرى هي (امبلونة) وقد ذكرها بلنيوس أيضاً ويرجح أن سكانها من الملاطيين اليونانيين. وتقع في المحل المعروف باسم وادي العمود على مقربة من السواحل التي اشتهرت بالذهب وهي بلاد العسير على رأي المستشرق شبرنكر غير أن أوصاف هذا المحل لا تنطبق على الأوصاف التي ذكرها المؤرخ بلنيوس تمام الانطباق.

والأرجح أن يكون هذا المكان في الشمال بعيداً عن منطقة نفوذ السبئيين. وأحسن مكان يصلح لأن يكون محلا مناسباً لسكنى اليونانيين هو في شمال الحجاز، على سواحل البحر الأحمر حيث تبعد المنطقة عن سيطرة السبئيين وحيث يمكن الاتصال بمصر وفلسطين.

والظاهر أن سكان هذه المستعمرة من المكان الذي أنجب الفيلسوف طاليس والفيلسوف انكسمندر وانكسمانس وكان سكانه على جانب عظيم من الرقي والحضارة والذكاء. وقد ازدهرت فيه الحضارة في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد. غير أن الحزب دب إلى هذا المكان فيما بعد منذ سنة 494 قبل الميلاد فارتحل أهله وهاجروا إلى شتى الأنحاء حتى نسى المحل تماماً في عهد الإسكندر المقدوني الكبير.

واختار هؤلاء اليونانيون فرصة مناسبة هي فرصة انتقال الملك من المعينين إلى السبئيين. ففي هذا الوقت لم يكن شمال الحجاز كله بأيدي السبئيين ولم يكن لأهل اليمن أسطول قوي يسيطر على شمال البحر الأحمر فاختار اليونان ذلك المكان.

وليس من المستبعد ذلك فقد كان سكان قد أنشئوا حوالي الثمانين مستعمرة انتشرت في ساحة واسعة على البحر الأسود وعلى بحر مرمرة وعلى سواحل البحر الأبيض. وأنشئوا لهم مستعمرة في مصر في عهد الفرعون حيث ألفوا أسطولا قوياً دخلوا به نهر النيل وسكنوا في أرض اختاروها سميت باسم مستعمرة نكراطيس

فمن الجائز كما يقول المستشرق مورتيس أن يلتجئ جماعة من هؤلاء إلى الفرس بعد تخريب مستعمراتهم التي أنشئوها في مصر وأن يطلبوا حمايتهم، وأن ينتقلوا إلى موضع آخر فاختاروا محلا لا يبعد كثيراً عن مصر ولا يعرضهم في نفس الوقت إلى اضطهاد المصريين، هو المكان الذي أسسوا فيه مستعمرة

وورد في تاريخ هيرودوتس نقطة مهمة جداً تخص هذا الموضوع أثناء بحثه عن داريوس الكبير ملك الفرس ذكر أن هذا الملك حمل الملطيين معه أسرى إلى سوسه حيث عاملهم معاملة حسنة ثم أسكنهم مدينة أمب التي أنشأها على سواحل بحر الإريتريا في النقطة التي يلتقي فيها نهر دجلة بهذا البحر. أما المدينة نفسها مدينة ملطية فقد استولى عليها الفرس.

أما موقع مدينة على حد وصف هيرودوتس فيجب أن يكون على الخليج الفارسي حيث يصب نهر دجلة فيه لا على البحر الأحمر كما يظهر ذلك من وصف الروماني بلينوس إذ من المعلوم أن مصب نهر دجلة في ذلك الخليج.

على كل فسواء كان موقع أو على الخليج الفارسي أو على البحر الأحمر فإن النتيجة واحدة وهي أن اليونانيين كانوا قد سكنوا مدينة أنشئت في بلاد عربية وعاشوا فيها وتاجروا، ثم اندمجوا بعد ذلك واختلطوا بالوطنيين.

والأرجح أن يكون محل تلك المستعمرة على سواحل البحر الأحمر في شمال الحجاز. وفي أقوال (288 ق. م) ما يؤيد هذا الرأي. وأصبح هذا المحل في عهد (بلنيوس) تحت سيطرة الحكومة السبئية. ولما ضعف نفوذ هذه الحكومة تغلبت القبائل المتوحشة على هذا المكان كما يظهر ذلك من أقوال مؤلف كتاب فصار التجار يتجنبون جهد الإمكان هذا المكان. يقول المستشرق كلاسر: كانت هذه المنطقة ملتقى مختلف القبائل. نقطة يجتمع فيها التجار من كل مكان. وقد كانت معروفة عند الكتاب اليونانيين والرومانيين وقد ذكر بطليموس أسماء عدة قبائل نزلت هذا المحل.

وتحدث ديودورس الصقلي عن شعب دبن كان يسكن على سواحل البحر الأحمر في موضع يصح أن يكون في عسير. وهذا الشعب لا يضيف أحدا من الغرباء إلا إذا كان الغريب من أو لاعتقاده وهذا يرجع إلى أسطورة قديمة إن هذه الشعوب الثلاثة ترجع في النسب إلى جد واحد هو هرقل

وفي العهد القديم اسم موضع دعي (ياوآن) ذكر في جملة الأماكن التي كانت تتاجر مع مدينة صور. تدل القرائن على أن المقصود منه موضع من المواضع الواقعة في جنوب البلاد العربية ولعل ذلك في اليمن، وقد يكون اسم قبيلة من القبائل العربية وتطلق كلمة في أكثر آيات العهد القديم على اليونانيين، فهل يمكن أن نجد صلة بين الاسمين؟

قال بعض المستشرقين: المعقول أن يكون هذا الموضع اسم مستعمرة كان اليونانيون قد سكنوا فيها بدافع المتجارة. لاسيما وقد ثبت عندنا أن الأجانب كانوا قد أسسوا لهم المستعمرات في مختلف أنحاء شبه الجزيرة. فمن المعقول أيضاً أن يكون موضع تلك المستعمرة في (جينة) الذي ذكره الهمداني في عداد الأماكن الواقعة في أراضي (جهينة) الواقعة بين حرة النار وبين الربذة وقد ورد ذكره أيضاً عند البكري في جملة الأماكن التي مر بها الرسول حينما غزا بني قريظة ثم بني لحيان.

وذكرت أسماء مستعمرات أخرى أنشئت في مختلف أنحاء بلاد العرب. مثل أريتوزا ولاريزا ومستعمرة كلسيس وغيرها. لم يذكر (بلنيوس) أماكنها بالضبط ولم يحدد مواقعها. فلا ندري أكان يقصد من مدينة لاريزا مثلا مدينة لرسا أو لرسام التي ذكرت في النصوص الآشورية، أو أنه قصد محلا آخر. ولا ندري أكان يقصد من أريتوزا المحل الذي ذكره هو وهو بحيرة كان نهر دجلة يمونها بالماء أم لا.

على أن هذه الأسماء الثلاثة هي من الأسماء اليونانية التي طالما يتكرر ذكرها في الشرق، وهي أسماء مدن حديثة أنشأها اليونانيون في الشرق لإعادة ذكرى المدن اليونانية القديمة. فهناك مدينة أريتوزا وهي مدينة أنشئت في سوريا قديماً بين حمص وحماة. وأطلق اكزينوفون اسم لاريزا على قسم من أقسام مدينة نينوى القديمة وربما عنى بذلك ريزن وهنالك محل آخر عرف بهذا الاسم يقع في منطقة أبامين في الشمال الغربي من (حماة) وأما كلكيس فهو الاسم القديم لمدينة (قنسرين) في جنوب حلب واسم مدينة أخرى تقع في جنوب البقاع بيكا يرى اصطيفان البيزنطي أن مؤسسها ملك يعرف باسم موفكسوس العربي، وكان يطلق على هذا المحل (عين غار) وعرفت اختصاراً في الأيام المتأخرة باسم (عنغار)

واشتهر أحد ملوك السلوقيين وهو نيكاطور السلوقي ببناء المدن وقد بنى ثلاث مدن حديثة في فلسطين حملت نفس الأسماء المتقدمة الثلاثة. ولا يستبعد أن يكون هذا الملك قد أنشأ ثلاث مستعمرات بهذه الأسماء على سواحل البحر الأحمر لحماية الخطوط البحرية ولتموين السفن. ولما انتزع البطالسة أرض فلسطين من خلفاء هذا الملك كانت هذه المستعمرات في جملة ما أخذ منهم.

وورد في النصوص اليونانية اسم أي جزيرة الدوريين. فهل لهذه الجزيرة علاقة باليونانيين الدوريين وهل حل هؤلاء في شبه جزيرة العرب؟

يقول المستشرق موريتس: لا نستطيع أن نقول شيئاً جازماً في هذا الباب، على أن هنالك جزيرة ورد اسمها في نقشي رستم لداريوس باسم والظاهر أنها جزيرة سقطرة وهنالك جزيرة حل بها اليونانيون بقرون عديدة قبل الميلاد يرى أنها هذه الجزيرة نفسها فلا يستبعد أن تكون جزيرة سقطرة إحدى الجزر التي نزل بها اليونانيون. ويستشهد المستشرق بدليل ما ذكره المسعودي عن استيلاء الإسكندر المقدوني على هذه الجزيرة بإشارة من الفيلسوف المشهور أرسطو إليه. وما ذكره المسعودي أيضاً من وجود النصرانية في هذه الجزيرة أيضاً، وهو قول يؤيده بعض الكتبة اليونانيين حتى قيل إن اللغة اليونانية كانت معروفة في هذه الجزيرة إلى القرن السادس الميلاد.

وورد في (نقشي رستم) اسم محل دعي بوتا في ضمن جدول أسماء الأماكن التي خضعت لهذا الملك. يرى المستشرق كلاسر أنه مستعمرة من مستعمرات اليونان الأيونيين الذين كانوا يسمون بهذا الاسم أيضاً. وحاول التوفيق بين هذه الكلمة وبين كلمة فودا التي وردت في نص المؤرخ بلنيوس والتي عين محلها. وعلى هذه الفرضية تكون مستعمرة مستعمرة يونانية من جملة المستعمرات التي أنشأها اليونانيون على سواحل البحر الأحمر.

وفي (نقش رستم) لداريوس أسماء أخرى كثيرة حاول المستشرق كلاسر أن يجد أماكنها في شبه جزيرة العرب من كلمة استبردا حتى كلمة بوتا وهو يجهد نفسه في ذلك إجهاداً بيناً، ويأتي باحتمالات قد تكون بعيدة لتأييد وجهة نظره. فيحاول مثلا أن يجد مناسبة بين عبارة (واليونانيين الذين يحملون على رؤوسهم غطاء مصنوعاً من الشعر) وهي عبارة وردت في نص (نقشي رستم) وبين عبارة وردت في كتاب (صفة جزيرة العرب) للهمداني عن أهل مخلاف المعافر وما والاه من استعمالهم للسكينية في الرأس.

كان اليونانيون على رأس المستشرقين كلاسر وعلى ما يظهر من بعض الملاحظات الواردة في المصادر اليونانية القديمة وفي جملتها (الأوديسة) على اتصال دائم بالعرب وذلك منذ أزمنة بعيدة قبل المسيح. والظاهر أن اتصالهم هذا كان عن طريق القوافل البحرية التي كانت تدخل في المياه العربية، وقد تركت تلك الرحلات البحرية انطباعات مخيفة في نفوس اليونانيين ظهرت في الأساطير التي رووها عن بلاد العرب فيما بعد.

وفي المصادر العربية إشارات وردت عرضاً فيها تأييد لما تقدم. غير أن البحث لا يستقيم في الوقت الحاضر إلا بعد زمان حينما يتسنى للعلماء إجراء حفريات علمية وتنقيبات أثرية في أماكن مختلفة من الجزيرة العربية، وبعد دراسة النصوص اليونانية والرومانية والفارسية والحبشية وتحليلها وتدقيقها تدقيقاً علمياً صحيحاً. وسيظهر للأمة العربية تاريخ جديد تماماً عن العهد المظلم الذي سبق عهد الإسلام والذي نجهله تمام الجهل.

قد يجل لنا هذا البحث مشكلة عويصة قديمة هي مشكلة وجود كثير من الكلمات اليونانية والفارسية والأكسومية (الحبشية) في اللغة العربية قبل مجيء الإسلام. وقد ثبت وجود ذلك ثبوتاً لاشك فيه؛ ثم مشكلة تشابه بعض الأساطير والعقائد التي كان يدين بها العرب مع الأساطير والعبادات المعروفة في السابق عند اليونانيين والفرس.

ثم مشكلة أخرى هي وجود بعض القبائل العربية القديمة التي كانت تمتاز من أغلب القبائل العربية بصفات ومميزات لا يمكن أن تكون من صفات ومميزات الجنس العربي؛ مثل زرقة العيون وحمرة الوجه وبياضه ولون الشعر وشكل الأنف والجمجمة وطول القامة وغير ذلك مما ذكر عن بعض القبائل العربية القديمة وهي قبائل ربما كانت قد استعربت واندمجت في العرب ونسيت أصلها والوطن الذي جاءت منه.

ثم مشكلة أسماء بعض القبائل وعاداتها وتقاليدها ثم أصنامها وما شاكل ذلك؛ فكل هذه نقاط غامضة ستحل متى ما عرفنا بأن هنالك جاليات أجنبية كانت تنزل في بلاد العرب ولكن سرعان ما تندمج في هذا المحيط الجديد وتختلط بأهله وسكانه.

وفي التاريخ أمثلة ربما تؤيد هذا الرأي وتقويه، فقبائل اليهود التي حلت في خيبر ويهود بنو النضير وبنو فيينقاع ثم قبائل اليهود التي نزلت في اليمن بعد خراب المعبد على يد الرومان، ثم القبائل اليهودية التي نزلت على شواطئ الفرات والتي كونت مستعمرات (الكالوته) هنالك وهي أشبه ما تكون بحكومات المدن ثم القبائل السريانية المختلفة؛ كل هذه استعربت وانتسبت إلى أصل عربي وافتخرت بالعرب مع أنها لم تكن من هذا الأصل.

وما بالنا نذهب بعيداً وعشائر (الصليب) أو (الصلبة) وهي عشائر تتكلم العربية وتعيش عيشة بدو العرب في البوادي على رأي أكثر الباحثين من أصل لا يمت إلى العرب بصلة قد يكون من أصل مسيحي استعرب وتبدى. وقل مثل ذلك عن الفرس والأتراك الذين اندمجوا في العرب ونسو أصولهم وعدوا أنفسهم من أقحاح العرب.

جواد علي