مجلة الرسالة/العدد 642/الذرة في الصناعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 642/الذرة في الصناعة

قصة:
مجلة الرسالة - العدد 642
الذرة في الصناعة
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1945



للأستاذ خليل السالم

بعد انفجار القنبلة الذرية وحين كان صداه يرن في الأسماع، اتفق رأي الرجال الذين صفت نفوسهم ونبلت مقاصدهم بالإجماع على أن الأشياء يجب أن تنتظم لئلا يسمح لهذه الآلة المرعبة أن تستعمل في الأغراض الحربية؛ ومعنى هذا الحيلولة دون نشوب حرب جديدة. وفي الوقت عينه حارت الأسئلة على الشفاه: ما هي أغراض الخير في الكشف الجديد؟ وكيف تذلل الطاقة الكامنة في نواة الذرة لتستغل في الأغراض الصناعية؟

يختلف انطلاق الطاقة الذرية كما أفضت إليه أبحاث العلماء عما تتطلبه الصناعة من ناحيتين: الأولى أنه أغفل حساب النفقات، والثانية أن انبعاث الطاقة وقتي ومفاجئ جداً. فقد بلغت النفقات نحو نصف مليار جنيه، واشتغل في إنتاج القنبلة (125) ألف عامل لا يزال في العمل منهم (65) ألفاً بينهم نفر كبير من أفضل الأدمغة العلمية في العالم. وإنه وإن كان تقدير الطاقة المتاحة متعذر لقلة الأرقام المرشدة إلا أننا سنعطي بعض التقديرات التقريبية.

تحطم نواة الراديوم تحطيماً عضوياً تدريجياً، وتمر بها ثمانية أدوار قبل أن تتحول إلى ذرة من الرصاص، وتنطلق الطاقة الكامنة المخزونة فيها خلال هذه الأدوار فتساوي الطاقة المتحررة من أوقية راديوم الطاقة الناتجة من حرق 300 طن فحم حجري. قد تختلف هذه الطاقة عن طاقة أوقية من القنبلة الذرية ولكنها بدون شك من نف الرتبة. فإذا فرضنا أن معامل القنبلة الذرية قد أنتجت 100 باوند من العنصر الفعال تكون هذه المبالغ والجهود المنفقة قد قدمت لنا طاقة نصف مليون طن من الفحم الحجري. وعلى هذا المعدل نخسر اقتصاديا كيفما كانت أشكال استثمار الطاقة. حتى لو كان تقديرنا بعيداً عن الدقة إلا إنه يضعنا أمام مشكلة اقتصادية حقيقية.

ثم إن قوة القنبلة الذرية في التدمير والتخريب تعود في أقوى أسبابها إلى انطلاق الطاقة الفجائي. وقد لا تزيد هذه الطاقة عن طاقة بضعة ألوف من أطنان الفحم إلا أن ظهورها في مكان واحد خلال جزء بسيط من الثانية يبعث في الجو حرارة وضغوطاً موضعية هائلة تثير موجة عاصفة تكتسح كل ما يقف في طريقها.

وليس شرطاً أن تكون الطاقة عظيمة، فمثلها مثل الطفل الذي يحرك ذراعيه وساقيه عاماً بطوله ولا يكن أي خطر من بذل طاقته بهذا الشكل، ولكن لو تركزت جميع حركاته في ضربة واحدة لقتلت أقوى رجل على الأرض.

هذا التركيز في الزمان والمكان الذي يساوق انطلاق الطاقة من القنبلة الذرية أمر مرغوب فيه عندما يقصد التدمير والهدم، وهو سيئ مزعج في الصناعة، فتنحصر مشكلة المستقبل إذن في السيطرة عليه وضبطه.

ويجدر بنا قبل تناول هذه المشكلة بالبحث أن ننظر فيما حصله العلماء حتى اليوم:

أكتشف (بكرل) القوة الإشعاعية في اليورانيوم سنة 1896 وبعد ذلك ببضع سنوات استفرد آل كوري من اليورانيوم العنصر الأكثر فعالية وهو الراديوم. وسريعاً ما عرف أن الأخير يعطي قدراً من الطاقة ناقضاً بذلك كل النظريات القديمة. وانتظر البحث حتى سنة 1912 عندما وضع رذرفرد نظرية جديدة عن بناء الذرة، وبرهن بالتجربة على أن للذرة نواة صغيرة وصغيرة جداً بالنسبة للذرة نفسها التي لا تزيد أبعادها عن جزء من مائة مليون جزء من البوصة، وتكمن في هذه النواة كل كتلة الذرة وحولها تدور الكهارب (الإلكترونات). ففي الذرات الثقيلة، كذرات الراديوم مثلا، تنشطر الذرة من تلقاء نفسها، أو تتحطم كما يقول العلماء، وتقذف دقائق مع قدر من الطاقة المخزونة في النواة.

فالراديوم يعطي الطاقة من تلقاء نفسه ولكن ببطيء شديد. وليس لدينا إلا قدر ضئيل من العنصر نفسه.

أما الخطوة الثانية فقد خطاها رذرفرد وتلاميذه، ونخص بالذكر العلامة السر جيمس شادويك، إذ تبين أن قذف نوى العناصر بدقائق ألفا السريعة يغلق النوى ويحولها إلى نوى لعناصر جديدة. فاستعملت قذائف أخرى؛ وفي بعض الأحيان تحررت الطاقة النووية؛ إلا أن طريقة رذرفرد هذه لم تؤثر إلا في الذرات المفردة، وتم العمل في نطاق ضيق، وحرارة الطاقة المنطلقة لم تزد عن حرارة شرارة. بعدها أصبح انطلاق الطاقة ممكناً نظرياً؛ وبرغم أن فلق ذرات قليلة استلزم جهداً عظيما فإن لذة العلماء بالبحث كانت نظرية بحثه أكثر منها عملية تطبيقية.

وفي سنة 1939 أحدث العلماء نوعاً جديداً من التغير النووي. ولا يمكن أن يعزى الفضل إلى شخص واحد دون غمط حق الآخرين وفضلهم. . . فكانت القذائف هي النيوترونات. . . فانفلقت ذرة اليورانيوم إلى شطرين أو أكثر، وسميت هذه العملية بالانقسام النووي ونتج عن الانشطار نيوترونات جديدة ظن أنها تستطيع تحت ظروف مناسبة أن تشطر ذرات أخرى. . . فأي عدد ضئيل من الانقسامات الأصلية سيفضي إلى سلسلة طويلة متتابعة تهشم كل ذرات الكتلة كالنار المشتعلة التي تلتهم كل ما حولها. وحققت الأبحاث الأخيرة هذا الظن وأثبتت التجارب صحته.

لم تنجح التجارب الأولى لأن لليورانيوم ثلاثة اصناء (جمع صنو). خواصها الكيميائية متماثلة ولكنها تختلف في أوزانها الذرية، ويدعو رجل العلم هذه الأصناء (النظائر). ولمحض الصدف اكتشف أن نظيراً واحداً مقداره أقل من 1 % من اليورانيوم الطبيعي تتأثر ذراته، أما ذرات النظيرين الآخرين فلا تتأثر، وأكثر من هذا أنها تقف في طريق التفاعل وتقطع السلسلة. فكان الواجب الباهظ الملقى على أكتاف العلماء في أمريكا هو عزل هذا النظير المطلوب (يورانيوم 135).

وهكذا يتلخص تاريخ ما وصلنا إليه في خطوات ابتدأت باكتشاف المواد التي تنقسم نواها من تلقاء نفسها، ثم تهشيم بضع ذرات هنا وهناك في مجموعة من ملايين ملايين الذرات، ثم فلق النواة إلى شطرين يصاحبه تحرير الطاقة. ثم تحضير مادة ما يكاد يبتدئ انشطار الذرة فيها حتى يجري سريعاً من ذرة إلى أخرى كالنار المندلعة في مدينة خشبية.

وسريعاً ما يلحظ أنه لا فرق كبيراً بين تحطيم بعض الذرات بعد بذل جهود مضنية كبيرة وتحطيم عدد كبير منها في انفجار واحد متسلسل. فكأنه المتفجرات التي لا تتأثر إذا أصيبت برفق، وتنفجر ملتهبة إذا أصيبت بعنف. ولكن لا تستطيع أن تفرض عليها الاحتراق البطيء لتعطي طاقتها بطريقة مضبوطة مقيدة

وحتى الآن لم يبذل أي جهد لحل المشكلة الماثلة. فلا يمكننا تخفيف نظير اليورانيوم 235 من السيطرة على التفاعل كما يبدو لأول وهلة، ذلك أن النظائر الأخرى تكبح انطلاق الطاقة الذاتي. وتقترح طريقة أخرى نفسها علينا: هي سحق اليورانيوم الفعال إلى حبيبات دقيقة ناعمة نعلقها في الهواء أو في سائل ما وعندئذ يقتضي ترتيب هذه الحبيبات لتنفجر واحدة أو قليل منها فقط في آن واحد. وقد يستعصي امتلاك الطاقة في هذه الحالة أيضاً.

ذلك أن انطلاق طاقة يمكنها تبخير قدر كبير من الماء لحظة واحدة يضع في وجه المهندس الفني مشاكل معقدة متعددة. أضف إلى ذلك أن الإشعاعات التي تتحرر كما تتحرر الحرارة من ذبذبات الانشطار المتكرر بين جزئي النواة مجهولة الأثر في معدن الآلة التي تحتوي على العنصر الفعال.

تدور في ذهني مجالات استخدام الطاقة الذرية بعد السيطرة عليها فأرى منها تدفئة المنازل وتوليد البخار والحصول على انفجار معتدل في أسطوانة كما في آلة الاحتراق الداخلي، واستعمال عاصفة القوة في محركات الدسر أو تدوير المراوح. . . وفي كل هذه الإمكانيات يجب الحصول على قدر ضئيل من العامل المتفجر ثم توزيع الطاقة الموضعية المنطلقة حتى يكون مقدارها عملياً في حيز محدود دون أن تحدث كارثة.

ومن يدري فربما يجيء استثمار الطاقة عن طريق أخرى. فمنذ 300 سنة اكتشف البارود أول متفجر حربي، وبذلت محاولات جمة لتشغيل آلة بقوته ولكنها فشلت، غير أن هذا لم يحل دون أن يستعمل نوع آخر من المتفجرات لتسيير كل آلات الاحتراق الداخلي وهو مزيج من بخار البترول والهواء أو ما يشبه المزيج لأننا نستطيع ضبطه والتحكم فيه بسهولة، فمن الممكن أو المؤكد، كما يخيل لبعض الناس، أننا سنكتشف تفاعلات ذرية تستمر وتمتد بنفسها وتكون السيطرة عليها والتصرف بها أكثر سهولة ويسراً.

نحن أمام كيمياء جديدة ستبتدئ. فالكيمياء القديمة المعروفة في الكتب المدرسية تبحث الذرات واتحاد الذرات كاملة غير مجزأة. أما الكيمياء الجديدة فستبحث نوى الذرات وبنائها وفلقها. ومع أن عدداً قليلا من الدقائق يكمن في نوى الذرات إلا أن سلوكها فرع جديد من العلم. وسترى السنون القليلة المقتبلة نتائج مدهشة جديدة باهرة.

ليست مشكلة استثمار الطاقة الذرية جديدة إذ انطوت عليها أدمغة العلماء منذ أن بين رذرفرد وأتباعه أن النواة مخزن للطاقة ينتظر طرق التحرير المناسبة.

وفي سنة 1927 كتبت (إن دراسة النواة كيمياء وفيزياء جديدتان نطرق بابهما اليوم. . . حقيقة هذا العلم يبحث أصغر الأجسام التي يتصورها العقل. ولكنه سينتج منبعاً للطاقة يبذ كل مناجم الفحم في العالم. . . فهل نستطيع تحرير هذه الطاقة بكميات وافرة وافية، وإذا استطعنا فهل نستطيع ضبطها والتحكم بها؟) لقد أجابت الأيام عن السؤال الأول بالإيجاب والثاني لا يزال بالانتظار.

لقد انقضى خمسون عاماً قبل أن يتقدم العلم من كشف القوة الإشعاعية إلى العجيبة الحاضرة، وانقضى خمسة وعشرون عاماً رأت تقدمنا من تحطيم نوى الذرات على نطاق ضيق إلى هذا التحطيم المريع الذي أذل اليابان وألقاها صاغرة راكعة. واليوم يقف تحصيلنا العلمي في الذروة، وتنتظم أعمال العلماء والفرق العلمية على أساس ثوري جديد. ولا يجسر أحد أن يرى بعد احتمال استعمال القوة الذرية في المصانع بعد خمسة وعشرين عاما أو بعد عشرة أعوام، وإننا لنرجو أن نستعملها لترفيه سعادة الجنس البشري وزيادة رخائه وطمأنينته وضمانه الاجتماعي.

خليل السالم