مجلة الرسالة/العدد 641/من قصص جحا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 641/من قصص جحا

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1945


3 - الغريق الناجي

للأستاذ كامل الكيلاني

(صفحة مختارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين ابن ثلبت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه).

(. . . منذ مائتين وألف من السنين كان (عبد الله دجين ابن ثابت) يسير خارج المدينة وقد ساد الظلام الكون، فكاد يحجب الطريق عن العيون، لولا بصيص ضئيل من ضياء النجوم، كانت ترسله السماء إلى الأرض، كما يرسل الرجاء نوره إلى ظلمات النفس، فيكشف من يأسها الحالك، ويفتح لها طريقاً نيراً تسله في ظلمات الحياة.

وساد الصمت وخيم السكون لولا نقيق الضفادع المرحة، منبعثاً من ضفة النهر، وجلس (عبد الله دجين) هادئ النفس مطمئناً، برغم ما لقيه في ذلك اليوم من الكوارث والأحداث. ولولا أن بعض ما حل به من المصائب قد أصاب غيره لما وجد العزاء إلى نفسه سبيلاً، ولضاقت عليه الدنيا بما رحبت، ودارت به الأرض قائماً.

تسألني ماذا لقي (دجين) من النكبات. فاعلم - حفظك الله ورعاك وسلمك من كل سوء - أن بعض الأشرار قد أحرق بيته. وأن الزمن تنكر له فاستهدفت أسرته للجوع والمرض. ولم يكد أصحابه يرون ما حل به من الملمات حتى هجروه وابتعدوا عنه بعد أن كانوا يتوددون إليه ويلتمسون معونته. وانقبضت أيديهم عنه بعد انبساطها، فلم تمتد إليه بالمساعدة يد واحد من أصدقائه وأصفيائه الذين كان يدخرهم للنوائب ويستبقيهم للشدائد ولم يكن ينقصه شيء ليكون أتعس خلق الله إنسانا.

ولولا عطف جارته (زبيدة) المحسنة على زوجه وولديه لهلكوا جوعا، ولكن الله لطف بهم فسخرها لهم لتتعهدهم في أيام النحس والشقاء.

وقد لقي (دجين) تلك الخطوب والنكبات باسم الثغر وضاح الجبين، مملوء القلب بنور اليقين. ولعلك تدهش إذا قلت لك إنه كان يشعر في تلك الليلة بطمأنينة وثقة لا حد لهما.

وكانت الضفادع قد سكتت حين رأته قادماً عليها، فلما أستقر به الجلوس على ضفة النهر، عاودتها الشجاعة، فأنست به واطمأنت إليه، وأقبلت عليه وقد استولت عليه البهجة فراحت تقفز في الفضاء وترفع أصواتها بما تملكه من قبيح الغناء.

وأحس (أبو الغصن) صوت جسم يسقط في الماء، وسمع استغاثة خافتة ضعيفة تنبعث في أثر الصوت طالبة النجدة والغوث.

فخف (دجين) إلى النهر، واندفع إلى مكان الغريق حتى إذا داناه، أسرع أليه، فألقى بنفسه إلى الماء في غير تردد ولا وجل، وما زال يسبح جاهداً حتى عثرت يداه بطرف ثوب فأمسك به وجذبه اليه، وما زال به حتى أنقذ صاحبه من الغرق وحمله إلى الشاطئ.

وما كاد يتأمل وجه ذلك التاعس المشرف على الغرق، بعد أن كتب الله سلامته على يديه، حتى أبصر شيخاً زري الهيئة مغمى عليه. وما لبث الشيخ أن أفاق من غشيته فشخص إلى (دجين) بعينين صغيرتين يظللهما حاجبان كثيفان، ثم قال له بصوت متهدج يكاد يختنق من البكاء.

(شكراً لك يا أخي، على ما أسديته إلي من صنيع، لقد خاطرت بحياتك لتنقذ حياتي ولولا ذلك لكان الهلاك نصيبي.

على أنني لا أدري - على التحقيق - اجميلا صنعت معي أم قبيحاً؟ ولا أعلم اليقين من أمري: أخيراً صنعت بي أم شراً)

فقال (دجين): (أكنت تقصد عامداً إلى إغراق نفسك هذه الليلة؟)

فقال الشيخ: (أستغفر الله! ذلك ما لا يدور ببال عاقل كريم! لقد زلت قدمي وأنا أمشي على الجسر فهويت إلى النهر، وحملني التيار في ظلام الليل الحالك، فكنت لولاك من المغرقين)

فقال (دجين): فما بالك تندم على نجاتك، ولا تحمد الله على سلامتك؟)

فقال الشيخ في أسلوب حزين يفيض مرارة واكتئابا: الحمد لله على كل حال! فإن كل ما ينالنا من خير أو شر مقدر علينا لا حيلة لنا في دفعه، ولا سلطان لنا عليه قال (دجين) (فما يحزنك من الدنيا؟)

قال الشيخ: (مثل لنفسك شيخاً مثلي ماتت أسرته جميعاً: زوجه وأولاده وبناته واخوته وعشيرته، وأقاربه الأدنون والأبعدون، فاصبح في شيخوخته يعيش بلا أسرة، ولا يجد في العالم كله قلباً يهفو إليه أو يعطف عليه، ولا يظفر بمورد يعيش منه، وقد حمل من أعباء السنين سبعين. كيف يكون شعور مثل هذا الرجل الفاني إذا هيأت له المصادفة أن يغرق، ثم كتبت له السلامة مرة أخرى؟ أتراه يسعد بذلك أم يشقى؟ وهل يبتهج باسترداد حياته؟ أم يأسف لخلاصه ونجاته؟ إن للفتى والشاب - من أمثالك - آمالا كباراً يسعيان إلى تحقيقها والظفر بها فإذا بلغا ما بلغت من السنين وذرف (أي: زاد) على السبعين فأي أمل يبقى لهما في الحياة، وأي مطلب يسعيان له ويتمنيانه؟

فقال (دجين) يناجي نفسه في صوت خافت: (ما بال هذا الشيخ يستنكر البقاء ويلعن الحياة!)

وكان سمع الشيخ مرهفاً، فلم تفلت منه تلك الهمسة، فقال لدجين قولة الواثق المتثبت مما يقول:

(كلا - يا صاحبي - لا تسيء ظنك بي فما أنا بمبغض للبقاء ولا كاره للحياة! كلا لا أستنكرها كما ظننت، ولا ألعنها كما توهمت! بل أنا أحتقر من يفعل ذلك أشد الاحتقار. وقد عشت طول حياتي مؤمناً بالله مستسلما لقضائه وقدره، مفوضاً أمري له. يقبض روحي متى اقتضت إرادته ذلك. ولم يمنعني ذلك عن السعي في مناكب الأرض في طلب الرزق. ولكنها تأوه محزون، وكلمة حمقاء سبقت إلى لساني فنطق بها في ساعة يأس، دون أن يتدبر عقلي مغزاها، أو يثبت فكري من معناها!

ثم أطرق الشيخ، وكأنه خجل مما فاه به لسانه من كلمات الخور والضعف فطأطأ رأسه برهة. ولكن (دجينا) قطع صمته عليه حين سأله:

(من الرجل؟) فقال: (أنا لعلع بن دعدع) وكنيتي (أبو شعشع). فخبرني أنت ما بالك منفرداً في مثل هذا الوقت وفي مثل هذه الصحراء الموحشة؟ وما بالك تؤثر العزلة والانفراد في ظلام الليل، كأنما تفر من أبناء جنسك! ولئن صحت فراستي فما أنت بسعيد في حياتك قط) فقال (دجين): (كلا يا صاحبي - فإن السعادة لم تفارق نفسي قط، وما أذكر أنني شعرت بالتعاسة يوما واحداً طول عمري، على كثرة ما أصابني من المحن والمصائب والآلام؛ فإن الحزن والسرور - فيما أرى - يتعاقبان على الإنسان كما يتعاقب عليه الليل والنهار.

ولو أردنا أن نستديم السرور أو الحزن لعجزنا عن ذلك كما يعجز من يحاول أن يستديم الليل أو النهار. ألا ترى كيف تتعاقب علينا الفصول الأربعة في أثناء السنة: فتمر بنا صيفاً يتلوه خريف، وشتاء يتلوه ربيع؟ كذلك يتعاقب علينا الحزن والفرح، والانقباض والانبساط، واليأس والرجاء، والشدة والرخاء، والعسر واليسر، والفقر والغنى، والظلمة والنور، والمرض والصحة.

فقال الشيخ: (ما سمعت في كلامي أحسن من حديثك، ولا أحكم من رأيك. ولئن صح ظني ليكونن لك شأن عظيم في حياتك وبعد مماتك. فمن تكون أيها السيد الكريم؟).

فقال: (أنا عبد الله دجين بن ثابت)، وكنيتي: أبو الغصن، ولقبي: جحا).

فقال لعلع: (وما صناعتك؟)

فقال دجين: (كنت بالأمس، تاجراً كبيراً يشار إليه بالبنان، ولكن حريقاً شب في بيتي ومخزني - منذ أيام - أتى على كل أملك من أثاث وبضائع، فلم يبق لي - مما ملكت - كثيراً ولا قليلا، ولقد تداركنا الله بلطفه ورحمته، فسلم كل من في الدار: سلمت زوجي وولدي وابنتي. فشكراً لله على لطفه بنا. ولقد كدنا نهلك جوعا لولا جارتنا الكريمة التي مدت إلينا يد المعونة، وتكفلت بإطعام زوجي وولدي.

أما الجاني الذي أوقد النار في بيتي ومخزني فقد فر، ولم يقف له أحد على أثر:

فقال الشيخ لعلع: (لقد أنستني مصائبك - يا أبا الغصن - كل ما لقيت في حياتي من أحداث والآم. ثم ارتعش جسم الشيخ، فقال وهو يصرف نابه: (كيف تكون الدنيا إذا خلت من أهل المساعدة والعون من كرام المحسنين).

فظن (دجين) أن الشيخ يرتجف مثله ألماً، لالتصاق ثيابهما المبللة بأعضاء جسميهما. وحسبه يستجديه المعونة فقال: (دعنا من حديث الأحزان، فليس منه فائدة، وسينقضي وقت الشدة - إذا صبرنا لها - ثم يعقبها وقت الرخاء، فتنسينا بهجته جميع ما كابدناه من مصائب وآلام، ومتى صبر الإنسان لجهد نازلة أصابته، ووطن نفسه على احتمالها وابتسم للكوارث والنكبات غير هياب ولا وجل، لم تلبث أن تنجلي عنه وينساها كما نسى غيرها من المصائب والآلام. والعاقل هو من يرضى بأحكام القضاء، فلا يستسلم للضعف، واثقا أن لكل شدة مدة ثم ينقضي معها، فإذا صمد لها غلبها وانتصر عليها، ثم صمت قليلا، واستأنف حديثه قائلا: هلم يا أبا شعشع فاتبعني إلى داري فإنك واجد فيها - على ضيقها - مكانا تأوي اليه، وسنحضر لك بعض الحشائش والأعشاب توقدها لتجفف ثيابك المبتلة. فأطرق (لعلع) لحظة، ثم قال لدجين (قبلت ضيافتك، يا أبا الغصن، ولعل الله - سبحانه - يوفقني ذات يوم إلى أداء هذا الدين الجميل إليك).

فقال (دجين): (إن في صنع المعروف لذة يتضاءل أمامها كل جزاء مهما عظم، وتصغر بالقياس إليها كل مكافأة مهما جلت. وحسبي سرورا أن يمكنني الله من القيام بواجب الضيافة، دون نظر إلى جزاء أو شكر.

إن خير ما يكافأ به المحسن - يا سيدي - هو شعوره بأنه أدى واجبه، وفرحه بقدرته على فعل الجميل، وحسب الطيب مكافأة له أنه طيب. هلم فاعتمد ذراعي واتكئ عليها لتساعدك على السير).

فقال (لعلع): (ما أبعد نظرك، وأحكم رأيك، وأصدق نيتك، وأسلم طوبتك! إني لأتنبأ لك بالفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. وسيتولى الله - سبحانه - حمايتك، ويخلد على مر الزمان اسمك وسمعتك، ويسخر لك الإنس والجن لمعاونتك وخدمتك، ويجعلهم طوع مشيئتك، ورهن إشارتك)

ثم مشى كلاهما في ضوء النجوم المتألقة في السماء، يلفهما ظلام الليل، ويؤنسهما نقيق الضفادع، ويحوطهما الله برعايته، ويكلؤهما بعنايته.

كامل كيلاني