مجلة الرسالة/العدد 641/الشباب الخالد
مجلة الرسالة/العدد 641/الشباب الخالد
توطئة دراسات في الأدب والنثر
للأستاذ جورج سلستي
ليس الشباب العمر ما أعني، وعمر الشباب كعمر الورود سرعان ما تبلوه الحياة بالأعاصير فيذوي!
ولا الربيع - شباب الطبيعة - وهو ما إن يرود برونقه النضر حتى تصّوحه لافجات السمائم!
ولا شباب الدول ذوات الحول والطول وهو مهما يطل لا بد له أن يدول! فالخريف كامن في أعقاب هذه جميعاً وإنما ثمة شباب لا يدركه الخريف: شباب لا يعروه الهرم ولا يدب إليه وهن الكبير.
شباب غيساني، أبدي السني والرواء، دائم الوضاءة والحسن، يعدو الزمن العصيب فما يطاوله بحدثانه، ويدور الدهر الحريب فما يديل من ريعانه!
شباب يزدري بسطوة العفاء، ويهزأ بعاديات الفناء، لأنه ينبض أبداً بمضاء القوة وعزة الحياة وزهو الخلود!
شباب شاخت الدول وباد منها ما باد ولم تدل دولته. واندرست جلائل المعالم كما عفت روائع الآثار وهو أبداً ريق الصبا يطاول بعزته السماء ويتحدى بخلوده الأزل!
ذلكم الشباب المؤبد هو شباب الفن الرفيع، شباب الأدب: يهرم الكون وهو غض وتبلى جدة الدهر، وهو زاه نضير، وليس كالأدب ما يتخطى هامات الأجيال بأبهةٍ وجلال، محتفظاً بسحره الأخاذ وروعته القدسية. وإن العلم ليتبدل من حال إلى حال، بل إن من نظرياته ما أنقلب رأسا على عقب بتقدم العصر وارتقاء الفكر، وإن ما كان يحسب فيه حقيقة ثابتة لا مراء فيها في جيل، نقضه الجيل الذي تلاه. وقد ينقض العلم غدا ما يبرمه العلماء اليوم، في حين أن نفثات هوراس وهوميروس وفرجيل ودانتي وملتون والمعري وشكسبير وأترابهم من الشعراء والأدباء الأفذاذ لتجد فيها النفوس في اليوم الحاضر ما وجدته من قبل نفوس الأمس البعيد الغار من متعة ولذة وأنس، ولسوف تتناقلها الأفواه في مؤتنف الأيام كما كانت تتناقلها الألسن في سالفات الأعوام، ولسوف يظل يتلوا الناس آيات الشعر والأدب ما دام فيهم من تستهويه لفتات الخاطر المشبوب، وومضات الذهن المتوقد، وعذوبة المنطق المعسول، وستنشد أهازيج الهوى التي تغنى بها سليمان الحكيم كما تتلى غزليات ابن المعتز ووجدانيات ابن زيدون؛ وإن العالم ليستمتع بها - على قدم العهد - كما يستمتع بروائع دي موسه، وبدائع لامرتين، وطوائف الأخطل الصغير، وستبقى أبدا نزهة الأرواح ومتعة النفوس ما دام للناس قلوب تخفق، وأكباد تحن، ومهج تتشوق.
وتقدير الأدب ليس بالبدعة المستحدثة في التاريخ، فقد عرف الأقدمون له جلال القدر ورفعة المنزلة فبوءوه حرمات التقديس. ومن البدائه المأثورة أن العرب في الجاهلية كتبت على القباطي بماء الذهب مختاراتها من روائع الشعر الحي وعلقتها بالكعبة تقديرا لها وتعظيما.
وإن الإغريق قد كتبوا بالذهب على جدران معبد أثينا في لمنوس القصيدة العصماء التي قالها بندار زعيم الشعر الغنائي في مدح دياجوراس
وهل كان الملوك والأمراء يبذلون المال والهبات على الشعراء الأفذاذ بمثل ذيالك السخاء العظيم لولا طمعهم في خلود الذكر في القصائد الرنانة التي كانت على ألسنة الناس كالمثل الشرود؟!
وإنها والله لصفقة خاسرة للشعر أن تشتري روائعه الخالدات بمتاع منفوق.
يروي التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال لبعض أولاد سنان ممدوح زهير بن أبي سلمى:
(أنشدني بعض مدائح زهير في أبيك) فأنشده. فقال عمر: (إنه كان ليحسن فيكم القول) فقال ابن سنان: (ونحن كنا نجزل له العطاء). فقال عمر قوله المأثور الخالد: (قد ذهب ما أعطيتموه وبقى ما أعطاكم!).
ألا طيب الله ثراك يا أمير المؤمنين وكرم مثواك. فقد زكيت الفن الرفيع بشهادتك الخالصة التي أديتها لوجه الحق مختارا فشتان بين ما يذهب كالزبد جفاء وما يمكث في الأرض ويبقى ماكرَّ الجديدان.
وبعد. فسر خلود الأدب قائم في كونه رسائل الأرواح في جلاء الحق والحب والخير والجمال، ومرآة تتجلى فيها سرائر النفوس ونزعات الأهواء، فهو لذلك من خصائص كل أمة في كل جيل رهفت في بنيها الأحاسيس وذكت الخواطر، وسمت الأرواح. وإن نفس كل امرئ لتظل تهفو إلى الأدب المائع والفن الرائع ما دامت طليقة من إسار المادة وجشع الأثرة وعبودية الروح. وما ركود الأدب في عهد من عهود التاريخ إلا دليل على فقدان القيم الروحية لدى أبناء ذلك العهد المشؤوم. وما ازدهار الأدب في حقبة من الحقب إلا دليل الشعور بالكرامة، وصقل النفس، ورهف الحس، وسمو الروح والتقرب من بلوغ الكمال. فإن أعوز المصلح أن يعترف إلى مقدار التهذيب عند شعب من الشعوب، وأين هو من كرم الخلق فليسبر مدى تذوق بنيه للأدب الرفيع، فقد كان الأدب الرفيع وسيبقى أبد الدهر مقياس الرقي عند الأفراد والأمم على السواء.
ولئن كانت النفوس تنزع بطبيعتها للشرور وتميل للغرور فإن الفنون - على أنواعها - كفيلة بالتلطيف من حدة النزوات وقمينة بتنمية الفضائل، وإن الأدب من الفنون بنوع خاص يصقل النفوس، ويرهف منها الأحاسيس ويحبب إليها الشهامة والإباء والعزة والنبل.
ولقد كان الخلفاء في الإسلام كما كان الملوك والأمراء في الجاهلية يوصون الآباء بتثقيف البنين الشعر والأدب لتسمو أخلاقهم وتدمث طباعهم. وقد بلغ من إعجاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (بلامية العرب) للشنفري الشاعر العداء المشهور أن قال:
(علموا أولادكم لامية العرب فإنها تعلم مكارم الأخلاق)
وقال أيضاً رضي الله عنه:
(تعلموا الشعر فإن فيه محاسن تبتغى).
ولله در من قال:
وما هو إلا القول يسرى فتغتدي ... له غُرَرٌ في أوجه ومواسمُ
ولولا خلال سنها الشعر ما درى ... بناةُ المعالي كيف تُبنى المكارمُ
وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
(الأدب حلى في الغنى، كنز عند الحاجة، عون على المروءة، مؤنس في الوحدة، تعمر به القلوب الواهية وتنفذ به الأبصار الكليلة ويدرك به الطالبون ما يحاولون)
وقال معاوية بن أبي سفيان:
(اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر دأبكم فما حملتني على الإقامة ليلة الهدير بصفين وأنا أريد الهرب لشدة البلوى إلا أبيات عمرو بن الأطنابة التي يقول فيها:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عرض صحيح
وهل الأمجاد لولا الأدب الحي إلا أطلال؟
فقد مرت بتاريخ البشرية عصور يذكر فيها الفاتح واللعنة في أثر اسمه على الأفواه، والحاكم الداهية وبسمة الامتعاض والاشمئزاز تعلو الثغور، والسياسي الأريب وإمارات النفور تبدو على الأسارير، وذلك لأن أمجاد هؤلاء جميعاً لم تقم إلا على الدم المطلول أو الوعد الممطول أو العرض المبذول، ولقد دالت هاتيك الأمجاد ولم يبق إلا مجد الأدب. ألا رحم الله ابن الرومي القائل:
(أرى الشعر يحيي الناس والمجد بالذي=تبقيه أرواح له عطرات
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات)
تلكم هي منزلة الأدب في النفوس ومكانته في القلوب، وذلكم أثره البعيد في الناس.
فلا غرو إذن أن يخلد على الدهر ولا بدع أن يسلم على الزمن! وكيف لا يظل غض الإهاب بيان يستروح فيه الناس أعراف الجنة وأنسام الخلد، ويرون فيه ربيعاً سرمدياً منضر الجنبات، منور الحواشي؛ بيان سمح ينفس عن القلب المكروب، ويروح عن الفكر المجهود، ويمتع النفس اللاغبة، ويسمو بالروح من حضيض الغبراء إلى ذرى الجوزاء ويحلق بها في دنيا غير الدنيا وعالم غير هذا العالم. دنيا زاخرة بأطياف الأماني الغرر والأحلام الوضاء. وعالم رحب الأجواء، نير الرؤى، رخي النفحات، عباق النسمات بالأرج المحيى والشذى المعطار.
وهل الدنيا إلا صحراء لاهبة واحتها المخضلة هبات الفن السامي ونتاج العبقرية الخلاقة؟!
وهل العيش لولا تلكم النفثات العذارى التي يطرف العالم بها أرباب الفن وعباقرة الأدب إلا الشقاء الحرور، والغناء الفادح والوصب الممض؟!
كان الحسن البصري يقول ما مؤداه: الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس الأدباء ومساجلات العلماء ومطارحات الشعراء.
ألا قدَّس الله سرك يا حسن، يا مجتلي النور في البيان السمح والمنطق المعسول.
(اسمعوا أيها الناس وعوا) على حد تعبير خطيب العرب وحكيمها وحكمها قس بن ساعدة الأيادي.
إنما الأدب عصارة القرائح وفيه تتجلى خلاصة الثقافات، وإنه لمستودع الحكمة والحكمة يا كرام الناس كرسالات الأنبياء من وحي السماء وما توحيه السماء لا يموت. وهل تعوزكم الأدلة والبينات وبين أيديكم الكتب المنزلة تهتفون بآياتها الساحرة آناء الليل وأطراف النهار؟
تلك الآيات التي تخشع عند تلاوتها النفوس خشعة الإكبار والإجلال والتقدير لهيمنتها على المشاعر واستحواذها على العقول والألباب حتى لكأنها السحر، بل أنها لكذلك وإن من البيان لسحراً.
سبحان رب العرش وتعالت كلمتك. ما كان قولك الحق ليحتاج إلى الأيمان البالغة تؤيده لولا أن في الناس أدعياء مارقين كالوليد بن المغيرة ينكرون نعمتك ويكذبون آياتك ويقولون عنها ضلة وزيفاً (إنها أساطير الأولين) فأقسمت - ويا لرهبة القسم العظيم (ن، والقلم وما يسطرون). تثبيتاً لبيانك الخالد وتنويهاً بالقلم وبأربابه رافعي علم حكمتك السامية بين الناس. وحكمتك هي الحق اليقين التي بها يهتدون.
أشهد اللهم أنك أنت الشاعر الأعظم، وأن أنبيائك المرسلين الأطهار أئمة الشعراء والأدباء أجمعين.
وأشهد أن للفن شباباً غضيراً يتحير في قسماته النورانية ماء الخلود.
(بيروت)
جورج سلستي