مجلة الرسالة/العدد 640/الطهارة والوضوء
مجلة الرسالة/العدد 640/الطهارة والوضوء
للدكتور جواد على
الطهارة ركن من أركان الصلاة عند جميع الأديان. وتشمل طهارة الجسم، وطهارة الثياب، وطهارة الأرض. فاشترطت الديانة الرومانية على المصلي لبس الملابس النظيفة (فيلبس المستغيث ألبسة نظيفة لما وقر في الأذهان من أن الأرباب يرغبون في النظافة). واشترطت مثل هذه الشروط سائر الأديان القديمة مثل الديانة البابلية والمصرية والهندية. ويلعب الغسل دوراً هاماً في طهارة الجسد وفي بعض الطقوس ولا سيما في الديانات التي نشأت على مقربة من الماء.
وجعل الغسل العام أو الغسل الموضعي كواجب من الواجبات الشرعية حتمت الديانة (البارسية) الفارسية القديمة على الفارسي عند نهوضه من نومه صباحاً وجوب غسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثلاث مرات. ونستعمل لذلك وهي مادة طاهرة مقدسة تستخرج من عصير الأثمار وتستعمل بعد الغسل بالماء. ويجوز استخدام الحشائش الجافة لمسح أجزاء الجسم. أما الحشائش المبتلة فلا يجوز استخدامها لأن الماء طاهر ومقدس لا يجوز تنجيسه
وإذا ما ابتدأ الإنسان بغسل وجهه وعينيه ويديه وقدميه ثم أعوزه الماء وجب عليه (التيمم) بالرمل فيمسح بالرمل تلك الأجزاء لأن الرمل مادة طاهرة مطهرة ما لم تدنس. وقد ورد مثل ذلك في الشريعة الإسرائيلية، فعلى اليهودي إذا ما استيقظ في الصباح أن يغسل وجهه وعينيه ويديه، وإذا ما أعوزه الماء جاز له التيمم أيضاً.
ويبتدي المرء بالغسل عند (الفرس) باليد اليمنى وبالنصف الأيمن من الجسم دائما. وإذا أراد لبس حذائه بدأ بالرجل اليمنى ونجد مثل هذه التعليم عند اليهود أيضا.
وتتناول الطهارة طهارة الجسم من الأدران وطهارة الملابس وطهارة الأرض أو الموضع الذي يصلي عليه المؤمن. ويجب أن يتم ذلك قبل الشروع في الصلاة وإلا عدت الصلاة شرعاً باطلة. وتختلف قواعد الطهارة طبعاً باختلاف الأديان وباختلاف وجهات نظر الشعوب. إلا أنها تتفق عموماً في أساس الفكرة وهي فساد أية صلاة إذا كان المصلي على نجاسة. ولذلك وجب على المصلي إزالة كل أثر من آثار النجاسات.
ونجد مثل ذلك في الشريعة الإسلامية، فالطهارة في الإسلام شرط مبدئي من شروط صح الصلاة. وعلى المسلم إزالة كل أثر من آثار النجاسة عليه الغسل إن كان ذلك واجباً عليه. وعادة الغسل من الجنابة عادة كانت معروفة في الجاهلية وقد أقرها الإسلام. وعليه فضلا عن ذلك أن يتوضأ قبل البدء بالصلاة - والوضوء ضرب من ضروب الطهارة - وإلا لن تصح له صلاة.
وقد نص القرآن الكريم على كيفية الوضوء والتيمم. وفصلت كتب الفقه ذلك تفصيلا. وبحثت وبحثاً مستفيضاً في الماء والغسل والنجاسات. وقد توسعت الكتب في هذا الباب وتفننت كلما تقدم المسلمون في الحضارة وأمعنوا في المدنية. وتكاد تتقارب أفكار اليهود بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة مع أفكار المسلمين تمام التقارب. على أن اليهود وإن تساهلوا فيما بعد في الشروط التي تجب في المصلى بالنسبة إلى الطهارة، وفي كثير من القيود الثقيلة التي كانت عندهم في عهودهم الأولى. غير أن كتبهم الدينية كانت قد امتلأت بهذه القيود. وفي (المشنا) وهو الكتاب الجامع لأحكام اليهود ومعظم فقههم والمفسر لكثير من قواعد التوراة وتعاليم المعلمين والذي بدأ به (هيليل - اليهودي البابلي فصول طويلة عن شرائط الطهارة في الصلاة أهملت فيما بعد وسقطت عملياً من الاستعمال سقطت هذه قبل ظهور الرسول بزمن طويل. وأغلب الظن أنها تركت بعد سقوط الهيكل بأيدي الرومان إذا تسامح اليهود منذ ذلك الحين في كثير من أحكام دينهم الصعبة. وإن كان المستشرق اليهودي المرحوم (ميتوخ) يؤكد أن يهود جزيرة العرب ويهود الحبشة ظلوا مخلصين لهذه التعاليم مطيعين لها حتى زمن ظهور الرسول وغرضه من ذلك على ما يظهر هو البرهنة على أن النبي كان قد اقتبس من تعاليم هؤلاء اليهود. وقد عرفنا رأي هذا المستشرق في الموضوع.
ويقول هذا المستشرق أيضاً (وأما الشروط التي نصت على أن الصلاة يجب ألا تقام في محل نجس، أو في محل قذر، وأن الملابس يجب أن تكون وفقاً للأحكام التي حددتها والمقاييس التي وضعتها بحيث لا يجوز جزء من الجسم الذي يعتبر في حدود العورة فإن المسلمين في هذا الباب هم كاليهود تماماً)
أمر القرآن بالوضوء وقد ورد ذلك الأمر في سورة المائدة وسورة المائدة من السور المدنية إلا الآية الثالثة فإنها نزلت بعرفات في حجة الوداع. ومعنى هذا أن الأمر بالوضوء إنما كان بعد هجرة الرسول إلى المدينة. أي أن الوضوء لم يكن مفروضاً بمكة؛ وهذا ما يتعارض مع الأحاديث المعروفة والأخبار الكثيرة التي تنص على أن الوضوء قد فرض مع الصلاة.
ففي كتب السير (أن الصلاة حين افترضت على رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله ﷺ ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله ﷺ كما رأى جبريل توضأ ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله ﷺ بصلاته ثم أنصرف جبريل. . .) وهو خبر مشهود.
ويفهم من هذا الخبر أن الأمر بالوضوء إنما كان بمكة مع الصلاة. في حين أن النص القرآني وهو نص مدني يأمر بالصلاة في المدينة بعد هجرة الرسول. وهذا يعني أن الأمر بالوضوء لم يكن قد نزل إلا بعد نزول الأمر بالصلاة بزمان. ويترتب على ذلك أن صلاة الرسول من حين أمر بالصلاة إلى حين نزول الآية كانت بغير وضوء.
وجاء في السيرة الحلبية (ومشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وأن ذلك كان يوم نزول جبريل باقرأ، وهو مخالف لقول أبن حزم لم يشرع الوضوء إلا بالمدينة. ومما يرد ما قاله أبن حزم نقل أبن عبد البراتفاق أهل السير على أنه لم يصل قط إلا بوضوء)
والذي يفهم من قول صاحب السيرة أن العالم أبن حزم كان يعتقد بأن فرض الوضوء كان بالمدينة لما يعرف من أن الآية مدنية. وقد انتبه العلماء إلى ذلك. ويخيل إلى أن ذلك كان متأخراً. فحاول أكثرهم التمسك بالخبر والتوفيق بينه وبين الآية وتحايلوا في التأويل والفرضيات ليبرهنوا على أن صلاة الرسول الأولى لم تكن بغير وضوء. فقالوا (إنه لم يشرع وجوباً إلا في المدينة وإنه كان قبل ذلك مندوباً وهو قول بعض المالكية. أي أنه مكي بالفرض مدني بالتلاوة واعتمدوا في تأويلاتهم هذه على بعض الأخبار الغامضة وهي في حد ذاتها أخبار لا قيمة لها بالنظر إلى نص القرآن.
قالوا بأن (مشروعية الوضوء كانت مع مشروعية الصلاة التي هي غير الخمس وإن ذلك كان يوم جبريل باقرأ) ثم تراهم يقولون (بأن الغسل كان واجباً عليه لكل صلاة فسخ بالحدث الأصغر تخفيفاً فصار الوضوء ثم نسخ الوضوء لكل صلاة).
وهذا ما يتعارض مع قولهم السابق بالطبع إذ يعني هذا أن النبي كان يغتسل أولا للوضوء ولما شق عليه ذلك خفف عنه بالوضوء بالنسبة للحديث الأصغر. وظل الغسل مشروعاً بالنسبة للحدث الأكبر فقط وعلى المسلمين حتى اليوم.
ومعنى هذا أيضاً أن الوضوء لم يكن مفروضاً مع الصلاة مباشرة، بل كان النبي يغتسل أولا لكل صلاة، ثم خفف ذلك عنه بالوضوء. وقد كان هذا الغسل بمثابة طهارة عامة للجسم قبل الشروع في الصلاة. وكان عرب الجاهلية يفعلون ذلك قبل الطواف بالبيت. ثم نسخ الغسل بالوضوء. والظاهر أن هذا النسخ كان بالمدينة، فأصبح النبي والمسلمون يتوضأون من حين نزول الآية بدل الغسل.
وعندما نزلت الآية كان النبي وأصحابه يتوضأون لكل صلاة وقد شق عليهم ذلك فيما بعد، فلما كان يوم الفتح صلى الرسول الصلوات الخمس بوضوء واحد (فقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال عمداً فعلته يا عمر للإشارة إلى جواز الاقتصار على وضوء واحد للصلوات الخمس). ثم خفف الوضوء بالتيمم عند فقدان الماء. وقد نص على ذلك القرآن الكريم. فنرى من ذلك إذاً أن الأحكام الإسلامية كانت تسير من عسر إلى يسر، ومن صعب إلى سهل، حسب مقتضيات الظروف والأحوال.
وتشبه قضية الوضوء قضية قراءة سورة الفاتحة في الصلاة. إذ الفاتحة في الصلاة ركن من أركان الصلاة على أكثر الأقوال لحديث عبادة بن الصامت (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ولحديث أبي هريرة (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج. . .) وما دامت الفاتحة ركناً من أركان الصلاة فقد وجب أن يكون نزول الفاتحة مع نزول الأمر بالصلاة في يوم واحد. والحال إن نزول السورة كان بعد ذلك بمدة.
فسورة الفاتحة مكية وقيل مدنية وقيل مكية مدنية، وعل كل فهي سورة متأخرة عن الصلاة. ولا يعقل أبداً أن تكون ركنا من أركان الصلاة قبل عهد النزول، إذا فالفاتحة ركن منذ عهد النزول. وكذلك كان الوضوء فأهمل الفقهاء ذلك والمحدثون، وتصور الناس أن ذلك كان منذ أقدم عهود الصلاة. وهنالك إشارة وردت في الإتقان هي (أن جبريل حين حولت القبلة أخبر رسول الله ﷺ أن الفاتحة ركن في الصلاة).
ونجن نعرف أن تحويل القبلة كان بالمدينة بعد الهجرة بستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً. فإذا صح قول صاحب الإتقان وجب أن يكون ذلك في المدينة وبعد الهجرة كما رأيت. ولذلك فلا عبرة لكلام من قال (لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير فاتحة). ترى من ذلك أن كثيراً ممن الأحكام المعروفة لم يفحص حتى الآن فحصاً تاريخياً. والحق (إن الإسلام كان كلما ازداد ظهوراً وتمكن في القلوب ازدادت الفرائض وتتابعت إلى أن تمت بآخر آية من آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو فوق كل مرجع آخر في الإسلام.
جواد علي