مجلة الرسالة/العدد 639/نظرية كونفوشيوس الدينية
مجلة الرسالة/العدد 639/نظرية كونفوشيوس الدينية
للأستاذ أبو بكر هوغانجين الصيني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
وكان يعيب على من قدم القرابين إلى أرواح غير آبائه. يقول في الفصل الثاني من كتاب الحوار:
(من قدم القرابين إلى الأرواح التي لا تستحقها فهو متملق، ومن رأى الصالحات ولم يعملها فهو جبان). وكان يقدم الآلهة والأرواح على نفسه ويفاخر بمن عمل بهذا المبدأ. يقول في الفصل الثامن من الكتاب:
(ما عرفت في الملك يو مثلبة فإنه كان يتناول من لمطعم والمشرب الشيء البسيط ويقدم إلى الأرواح والآلهة ما هو في غاية اللذة، وكانت بذلته ثياباً أخلاقاً وكانت ملابسه الخاصة بالشعائر والطقوس في غاية الجمال، وكان يسكن في بيت حقير ويبذل قصارى جهده في حفر الترع والخنادق. ما عرفت فيه مثلبة.
لكن كونفوشيوس لا يحب أن يتملق الإنسان أرواح الأموات والآلهة بكثرة القرابين وشدة التقرب إليها بل يجب الابتعاد عنها:
(سأل فان جيه أحد تلاميذه عن الحكمة فقال له الأستاذ: الحكمة هي القيام بالواجبات للمجتمع الإنساني والاحترام لأرواح الموتى والآلهة مع الابتعاد عنها). السادس من الكتاب.
وكان يرى تقديس الآلهة بالإخلاص والامتثال لأوامرها بالتحلي بالفضائل والاجتناب عن نواهيها بالتخلي عن الرذائل:
(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو (أحد تلاميذه) أن يسترحم له الآلهة فقال الأستاذ هل في ذلك أصل؟ فأجابه: نعم، لقد ذكر في كتاب التكهن القديم: (أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد) أي بالفضائل والآداب التي يتخلق بها (السابع من الكتاب).
وكان يرى احترام الموتى كاحترام الأحياء بل احترام الأحياء أوجب وألزم من احترام الأموات:
(سأل جي لو (أحد تلاميذه) عن خدمة أرواح الموتى فقال له الأستاذ: لم نقدر على خدم الأحياء فكيف نقدر على خدمة الأموال؟ وقال جي لو: أسال حضرتك مجترئاً عن الممات. قال الأستاذ: لم نعلم الحياة فكيف نعلم الممات؟) الحادي عشر من الكتاب.
5 - نظرية كونفوشيوس في الآله الأعلى: السماء:
يحكي كونفوشيوس عن نفسه أنه يعرف قضاء الله وقدره وهو ابن خمسين (الفصل الثاني من كتاب الحوار) فكانت أعماله حينئذ لا تخرج عن أوامر الله وحدوده أبداً، وكان يقدسه أعظم تقديس ويتقيه أشد تقوى، وكان يتخلق بأخلاقه ويمثل صفاته في حركاته وسكناته، وكان الله مثلا أعلى في أعماله في حياته، وكان كل تعاليمه مبنية على معرفته في السماء معرفة تامة واعتقاده فيها اعتقاداً جازماً ما كان يتصدى لتعليم الناس ونشر الحق في العالم، فالله مصدر علمه وغايته الأسمى:
(قال الأستاذ: أريد ألا أتكلم، قال تس كونغ. إن لم تكلم حضرتك فإذا نروى عنك نحن معشر التلاميذ؟ قال: هل تتكلم السماء، إنما تعاقب الفصول الأربعة وتنشأ الأشياء متوالية ماذا تقول السماء؟) السابع عشر من الكتاب.
(قال الأستاذ: والهفاه! لا يعرفني أحد. فقال تس كونغ: ماذا تعني حضرتك بعدم معرفة أحد لك؟ قال الأستاذ: لا أتذمر من السماء ولا أتفجر بالناس وإنما أدرس الأمور السلفية لأصل بها إلى الأمور العلوية لعل الذي يعرفني هو السماء!) الرابع عشر منه.
يسعى الفيلسوف كونفوشيوس لتعليم الناس وهو يعلم أنه لا يعرفه إلا الله فلا يجزع ولا يغضب إذا قامت العراقيل في نشر الحق ولا يتأخر في ذلك ما دام الله معه.
تأسف كونفوشيوس كثيرا جداً حينما توفى بين يون نابغة تلاميذه يقول: وا أسفاه لقد توفتني السماء! لقد توفتني السماء! وإنما قال ذلك لأن الحق قد فقد أحد ناصريه وأشد دعاته وأقوى ناشريه وأصدق عامليه لكنه يستسلم لقضاء الله وقدره لا يجزع ولا يفزع يقول في الفصل العشرين من كتاب الحوار:
(من لم يعلم القضاء والقدر يمكن أن يصبح رجلا كامل الخلق).
(يقول تسي هسيا: إنني قد سمعت أن الحياة والممات كلها بالقضاء والقدر، والمال والجاه كلها في يد السماء). الثاني عشر من الكتاب.
يعتقد كونفوشيوس بوجود الله القادر المريد الذي قدر الأشياء في الدنيا لا بغيرها إلا هو: (قال الأستاذ: إن انتشرت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر وإن ضاعت سنتي كان ذلك من القضاء والقدر، فماذا يستطيع كونغ بي ليو أن يعمله مع القضاء والقدر؟) الرابع عشر منه.
ويعتقد الأستاذ أن الإنسان الصالح يجب أن يتقي قضاء الله وقدره، ومعنى ذلك أنه لا يعصى أوامره ولأجل أن أقوال الأنبياء، والكبار مبينة لأوامر الله كانت الأقوال يجب أن يعمل بها أيضاً:
(قال كونفوشيوس: للرجل الكامل الخلق مخافات ثلاث: مخافة القضاء والقدر، ومخافة كبار الدولة، ومخافة أقوال الأنبياء. وأما الرجل الناقص الخلق فلا يعرف القضاء والقدر ولا يخافه ويزدري بكبار الدولة ويستهزئ بأقوال الأنبياء) السادس عشر منه.
6 - صفات الله في نظر كونفوشيوس
إذا دققنا البحث فيما اعتقده كونفوشيوس في الإله الأعلى - السماء - فيما يحتويه كتاب الحوار وجدناه يصف الله بالصفات الآتية:
(1) يعتقد أن الله قادر مدبر جبار عزيز لا يغير إرادته أحد ولا يقدر أحد على مخالفة القدر والقضاء:
(قال الأستاذ: قد خلقت السماء في نفسي هذه الفضائل فأي شر يمكن أن يريده بي هوان طي؟) السابع من الكتاب.
(لما وقع الأستاذ في الخوف من أهل كوانغ قال:
ألم تكن الثقافات والآداب عندي هنا بعد أن توفي الملك وين؟ إن كانت السماء تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب ما كان لي نصيب منها وإن لم تكن تريد أن تضمحل هذه الثقافات والآداب فماذا يمكن أهل كوانغ أن يعملوا بي؟).
تبين مما سقناه أن كونفوشيوس كان مضطهداً لأعدائه أعداء الحق لكنه يعرف أن الله معه وأن الحق لابد أن يظهر وإن كره الكافرون المنكرون، وإن ما أراده الله وقدره لا يمكن أن يتغير ويتبدل، وإن قوة الإنسان وإن بلغت أشدها لا يمكن أن تحول إرادة الله وقدره أبداً، وهذه العقائد راسخة في نفس كونفوشيوس دافعة إلى العمل من دون جزع ولا خوف وهي عقائد دينية متينة.
(2) يعتقد أن الله علم بكل شئ لا ينخدع ولا يغتر:
(لما اشتد مرض الأستاذ جعل تس لو يمثل تلاميذه خدماً له رسميين. ولما تناقص مرضه قال: طالما يخدع تس لو. ليس لي خادم رسمي فإن تظاهرت بأن لي خدماً رسميين فمن ذا الذي أخدعه؟ هل أخدع السماء؟) التاسع من الكتاب.
(3) يعتقد أن الله يجزي الأعمال أن خيراً فخير وإن شراً فشر. وإن كانت الأعمال موافقة لأوامر الله وإرادته كانت خيرا وإلا كانت شراً فيجزي الأولى بالسعادة والنعيم في الدنيا والثانية بالعذاب والشقاوة فيها:
(لما زار الأستاذ الأميرة نان تس (المشهورة بفسادها) مخط تس لو فحلف الأستاذ قائلا: لو ارتكبت ما لا يليق غضبت علي السماء! غضبت علي السماء!) السادس من الكتاب.
هذا كلام إنما يدل على أن الأمور المنكرة يجزيها الله بالعذاب والشقاوة وبقطع دابر فاعلها.
(سأل وانغ سون قائلا: ما معنى هذا المثل: التملق لإله التنور أفضل من التملق لإله الزوية الغربية الجنوبية من البيت؟ قال الأستاذ: كلا! من أجزم نحو السماء فلا محل له بالدعاء). الثالث من الكتاب.
يدل هذا القول على أن السماء لها الحق في الجزاء بالخير والشر، وأنها تجزي الأعمال السيئة التي تخالف أوامر السماء وإرادتها بالشر والعذاب وأنه لا يستخيرها من يخالف أوامرها لا يستغفرها ولا يطلب منها رحمة ولا نعمة.
(لما اشتد مرض الأستاذ طلب منه تسن لو أن يسترحم له الآلهة. فقال الأستاذ: هل في ذلك أصل فأجابه نعم! لقد ذكر في كتاب التكهن القديم: أسترحم لك آلهة السماء والأرض. قال الأستاذ: لقد استرحمت منذ زمن بعيد). السابع من الكتاب.
يدل هذا الكلام على أن الأمراض عذاب الله الذي يجزي به الأعمال الفاسدة، كما انتشرت هذه الفكرة عند قدماء الصينيين، وكذلك استرحام آلهة السماء والأرض عند المصائب عادة من عاداتهم لقديمة لكن كونفوشيوس يعرف أنه على حق في كل أعماله لم يخرج عن حدود الله ولم يخالف أوامره أبداً فلذلك أجاب تلميذه بقوله: لقد استرحمت منذ زمن بعيد. لأنه ينكر فائدة الاسترحام للعاصي والشرير الذي لا يمتثل بأوامر الله ولا يجتنب عن نواهيه وهو معتقد اعتقاداً جازماً أن الاسترحام إنما بالأعمال الصالحة والأفعال الحسنة لا بالعبادة ولا بالقرابين. يقول جوان تس أحد العلماء المعاصرين لكونفوشيوس: (مرض كونفوشيوس فأراد تس كونغ أن يتكهن له فقال له كونفوشيوس: على رسلك! أنني لا أجترئ ولا أتقدم في مجلس وكان اعتكافي وحياتي كما إذا كانت في أيام الصوم وكان طعامي وشرابي كما إذا كانا للقربان فقد تكهنت منذ زمن بعيد). هذا الكلام قريب مما في كتاب الحوار أتينا به ليوضح المعنى الذي نحن بصدده.
7 - الخاتمة
هذه هي خلاصة مذهب الكونفوشيوسية في الآلهة والملائكة والأرواح والإله الأعلى وهو السماء، وهذا المذهب ليس بجديد بالنسبة إلى عقائد القدماء الصينيين بل هو عينها ولم يكن كونفوشيوس بمجدد للدين القديم لأهل تلك الأزمان الغابرة بل هو قاص لما يحتويه وحاكيه على ضوء من العلم الذي يعرفه في ذلك الوقت وقد قال بنفسه:
(إني راوية غير منشئ ومصدق للسلف ولذا أشبه نفسي مجترئاً بصالحنا القديم بانغ). السابع منه.
فهو في هذه الناحية من المحافظين على التقاليد القديمة والمقلدين لما عليه الآباء.
والمذهب الكونفوشيوسي منتشر في أنحاء الصين كلها معمول به إلى الآن؛ وهو الذي يسمى بالديانة الكونفوشيوسية وهو في الحقيقة الدين الصيني القديم كما بينا.
والآن قبل أن نختم هذه المقالة يجب أن يدرك القارئ العزيز ثلاثة أمور متصلة بالموضوع وهي:
(1) أن مل لخصنا من المذهب الكونفوشيوسي في الإله والآلهة كله من كتاب الحوار الذي دونه تلاميذه أو تلاميذ تلاميذه. وأما الكتب القديمة التي لخصها الأستاذ الفيلسوف كونفوشيوس فقد ذكرت فيها هذه النظريات وزيادات كثيرة تبين صفات السماء وغيرها من الآلهة أكثر وأوضح، فإذا سنحت لي الفرص فقد اكتب عنها مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
(2) نظرية ألوهية السماء موجودة في الأمم القديمة، وكذلك نظرية وجود إله أعلى خالق الكون ومدبره موجودة في الأديان المنتشرة، ليست الصين هي التي تتكلم عنها وحدها ولا كونفوشيوس ينشرها وحده. لقد وجدت أيام كونفوشيوس فلاسفة كبار في الصين وغيرها يبحثون عن هذه المسألة فإذا أتيحت لي الفرصة فسأكتب عن فلسفة لوز في نظرية الإله الظاهر بنفسه المتبين بأفعاله وهو الطبيعة نفسها ونظرية ميز في الإله الكامل الصفات الفاعل الأفعال العليم القدير الذي يشبه ما جاء في الإسلام كثيراً جداً وآراء الفلاسفة الصينيين الآخرين إن شاء الله تعالى.
(3) النقطة الأخيرة التي أريد أن أبينها هي أن عبادة الكونفوشيوسيين وصيامهم ليستا كما جاء في الدين الإسلامي فهم يعبدون الآلهة والأرواح بثلاث سجدات مع ركعة واحدة أو تسع سجدات مع ركعات ثلاث وهم يصومون عن أكل اللحوم والأفعال الفاحشة والأقوال الكاذبة لا بسين لباساً وقراً بعد غسل جديد معتكفين في المنزل وقتاً من الزمن ثم يعبدون في المنزل أو المعبد بعد صيام ساعات أو أيام ويقدمون القرابين وهم في ذلك كله كالبوذيين الذين يعبدون الأصنام مع فرق أن الأولين ليست لهم التماثيل وقد ينصبون النصب الخشبية التي كتبت عليها أسماء الذين يعبدونهم أو نقشت عليها كلمة (عرش السماء والأرض والملك والآباء والأساتذة) ويعبدونهم كأنهم حاضرون.
أبو بكر هوغانجين الصيني