مجلة الرسالة/العدد 639/من الأدب القومي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 639/من الأدب القومي:

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 10 - 1945



يوم. . . ويوم. . .!

للأستاذ شكري فيصل

(إلى الذين يتساءلون: أين أنا؟. . . إلى الذين عشت معهم، في

غفلة الدنيا، على مقاعد الجامعة ورحابها. . .)

- 1 -

شهدتك، أيها الخفاق، تتعالى فوق الثكنات الكبرى التي تحتاط دمشق. . . واكتحلت عيناني بالأمل المزدهر على نسمات الريح وخفقات القلوب. . . واستمعت إلى حفيفك الناعم يقص حديث السنين الخوالي. . . ولم تتمالك عيناي، أيها الخفاق، أن تفترا عن الدمعات المندية التي لمحت من وراء غشائها الرقيق مراحل قصتك الدامية. . . لقد ذكرت فيصلا والملك، والفرنسيين والهلك، والصفحات الحلك السوداء التي جللت ثرى الوطن فاستعبرت. . . والعبرات، يا علمي، العبرات التي كانت تنفر كالعزم الحديد في عيون الآلاف المتحلقة من حواليك كل ما ملك الناس في أصيل الرابع والعشرين من تموز

- 2 -

وأين يوم من يوم، أيها الخفاق، منذ خمسة وعشرين عاماً آب الناس إلى بيوتهم تقطعهم الحسرات: الشهادات على أفواههم، والجراحات في أجسادهم، والدماء من خلفهم ومن بين أيديهم، وملك فيصل النضير يجتاحه الغزاة العتاة كما تجتاح الزوبعة الروض الممرع. . . واليوم، بعد هذه السنين الطوال العجاف، لا تظل البيوتات رجلا أو امرأة، شاباً أو فتاة. . . لقد خرج الناس تهزج لهم المنى، وتغني لهم الأحلام: الزغردات على أفواههم، والعزمات ملء برودهم، ومجد أمية من وراء العصور يتلألأ في أذهانهم. . . ومضوا يملئون الطرقات إلى الثكنة العسكرية الكبرى، إلى ثكنة (الحميدية)، وانتشروا يتدفقون على عرض الدروب، ويتدافعون على حفافي الشوارع، ويتزاحمون على أطراف الأرصفة!

إنه يومك، يا علمي، كانت انتزعتك اليد الغاصبة لتحيل ألوانك، وتخفت لمعانك، وتمز عروتك الوثقى. . . ولكن من دمائنا بعض ألوانك، يا علمي، ففديناك. . . ومن بريق أعيننا لمعانك فحفظناك. . . وعلى عراك هذه الوثقى تآلفت قلوبنا والتقت أفئدتنا. . . فكنت خفقتها التي لا تني، ونهضتها التي لا تفتر، وعزمتها التي لا تكل!

- 3 -

وحين وقفت هذه الجموع المؤلفة، يا علمي، كنا نحن. . . هؤلاء الشباب المتفتحين على عبوس الأيام، والمتقلبين في كالحات الليالي. . . نرمق ساريتك القائمة كالساعد المفتول. . . أنها وحدها هي التي كانت قيد نواظرنا فلم نتحول عنها. . . لم تأسرنا روعة المكان، ولم تأخذنا ضخامة البنيان، ولم تلهنا الآلاف المتدفقة، فلقد استحال كل شيء في نفوسنا بسمة تحييك، وخفقة تناجيك، وذكريات تواكبك. . . وركزت أبصارنا في شرفتك العريضة في نظرات من الرجاء العريض، والرغبات المستوفزة، والأمل الوثاب. . . ولم نعد نحن. . . نحن الذين تعاورتهم السنون بالجدب، وتعاهدتهم الحياة بالمصاعب، وإنما رحبت بنا مطارح الأحلام، وسمت بنا واسعات الأماني، وبدلنا دنيانا بدنيا أخرى. . . فشهدنا في نشوة لذة الأطلال الخرائب جنة ممرعة، والأسى الغالب فرحة محققة، والأحزان المقيمة بهجة مونقة. . . لقد تفتح لنا المستقبل عن وطن مهاب، تملك، أنت وحدك يا علمي، أرفع ذراه، وتتوسد أعلى رباه، وتقف في شم صخوره وشوامخه، وتمر بك نسماته تضمخها بالمجد وتعطرها بالإباء، وتبعث بها إلى هؤلاء الذين يفتدونك طاهرة لم تلوثها خفقات غاصب ولا نفثات دخيل!

- 4 -

وحين دخلنا، يا علمي، باب الثكنة الكبرى، كانت محاجرنا تفيض بالدموع، ومن خلال ألقها الصافي كانت تنسحب الذكريات الحلوة المريرة: أولئك الذين استشهدوا على حفافي الوادي في ميسلون، وفي ثرى الغوطة في دمشق، وأرباض الجبل في أرض بني معروف، ومعاقل الشمال في حلب. . . وهؤلاء الذين ذهب بهم الغدر في الطرقات، واستبد بهم اللؤم في الشوارع، وانتزعهم السلاح المعربد من فرشهم. . . وجماعات وأفراد كانت السجون قبورهم، والكهوف لحودهم، والمنافي آخر عهدهم بالحياة. . . وأمهات سبق إليهن الثكل، وأطفال عدا عليهم اليتم، وأسر باكرها الخراب، وبيوت سطا عليها العذاب. . . أولئك جميعاً كانوا كأنما تتمثل لنا مصارعهم في سبيلك، يا علمي، فلا يبكينا الأسى، ولا تنال منا الأحزان، وأنا يبكينا أن تلفهم الأكفان الحمر قبل أن يشهدوا سناك الزاهي، وجبهتك الناصعة، ورفرفتك التي تحدث حديث المجد، وتقص سيرة الكرامة، وتروي نبأ الأبطال والبطولات!

- 5 -

وفي الساحة الكبرى، وقفنا نشهد - أيها الخفاق - ظفر الحق، وانتصار العقيدة. . . لطالما وقف في هذه الساحة طغاة يرطنون ويعجمون، ويصيحون ويصرخون. . . لطالما جلدوا الأبرياء، وأهانوا الأحرار، وثكلوا بالمستضعفين. . . لا النبل يهزهم، فقد ذاب في صدأ نفوسهم جوهر النبل. . . ولا الشرف يردعهم، فقد ذهبت يد الظلم بحلية الشرف. . . ولا المشاعر الإنسانية تختلج في أفئدتهم، فلم يبق فيهم أفئدة تختلج فيها مشاعر، وإنما هي مغاور تنفث السم، وتتلظى بالكيد، وتتوسل بالانتقام. . .

واليوم، اليوم يا علمي، تشهد الساحة الكبرى خلقاً آخر وحفلا جديداً. . . أنها لا تحس وطء الأقدام، ولا ثقل النفوس، ولا حلكة الظلم. . . أنها لا تجد زمجرة الانتقام ولا استطالة البغي، وليس عليها الساعة أوداج تنتفخ بالغيظ، وعروق تتغزر بالحقد. . . أنها تذكر ماضيها، وتدركانها تعود للشعب الخير، والجماعة النبيلة. . . أن رمالها تتراقص، وأنها لتتناغى فرحة طروباً كأنما تغني معها الريح أروع الأناشيد: أنشودة الأرض حين تظفر بأبنائها الطيبين. . .!

- 6 -

. . . لن أنسى، يا علمي، هذه اللحظات الخاطفة، حين امتد الزمان، فغطى دمشق: ربيبته التي علمته الخلود، بالصمت الملذ الناعم، ونشر عليها رداء من السكون الهادئ العميق. . . ثم بعث فيها صوتاً واحداً، فيه الحياة عريضة كريمة، وفيه الأمل ريان مخضلا، وفيه الفرحة قوية عميقة. . . وأثار ذراها خفقة عنيفة نشيطة، خفقت معها قلوب، وعاشت معها نفوس، وازدهرت بها أماني، ما كان أقربها إلى الذبول. . . فإما الصوت فصوت البوق البشير، وأما الخفقة فتجاوبك مع الريح، يا علمي الحبيب!

والآن. . . حين أمضي أيها الخفاق، في هذا الشارع النضر المتسع الرحاب، في طريق (كيوان) و (الربوة) تنسق بي الخطى مع طائفة من رجالنا المخضرمين. . . أنهم شهدوا في مثل هذا اليوم وهذه الساعة وهذا الطريق، الجيوش المعتدية الظافرة تدخل دمشق دخول الجبارين، فأغمضوا أعينهم على القذى، وشدوا قلوبهم على الألم، وانطووا في نفوسهم على حرقة لاذعة!

واليوم. . . اليوم تكتحل أعينهم بالموقف الخالد، فيشهدون الفرق الوطنية الظافرة تحفظ على دمشق جبروتها وكرامتها وعزتها. أنهم ليستعبرون عبرة الفرح، وتتفتح قلوبهم على شذى (الغبطة) وتعود إليهم نفوسهم راضية جذلة. . .

يا ما أمتع حديثهم، يا علمي، أنه حديث الصبر المظفر، والعقيدة المنتصرة!

لعينيك، يا علمي، لألوانك الزاهية، ونجومك الزاهرة، وبريقك الحلو. . . هذه العزمات المتدفقة كهذا النهر، النقية كهذه السماء، الرائعة كهذا المساء!

أنك بضعة قلوبنا، يا علمي، فاخفق في ذرى الوطن حارساً وأميناً. . . ولتتحدث نسائمك إلى شهداء ميسلون تحمل لهم الحياة والفرحة. . .!

(دمشق)

شكري فيصل