انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 636/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 636/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 09 - 1945



لؤلؤة الحب

للكاتب الإنكليزي هـ. جـ. ويلز

بقلم الأستاذ عيسى حليم

من رأي الباحثين في علم الأخلاق أن اللؤلؤة هي أقرب الحجارة الكريمة المتبلورة إلى النفس، لأنها أثر من آثار الألم لكائن حي، وليس في طاقتي التعليق على هذا القول، لأن سحر الجواهر لا يحرك أي وتر من أوتار روحي، وبريقها الرجراج لا يؤثر في على الإطلاق، كما إنه ليس بوسعي أن أقطع برأي حول ذلك الجمال المتطاول: هل لؤلؤة الحب أشجى القصص، أم هي خرافة شائقة عن خلود الجمال؟

إن دارسي النثر الفارسي في العصور الوسطى قد ألفوا هذه القصة والجدال الدائر حولها. والقصة قصيرة، إلا أن تفسيرها يشغل حيزاً كبيراً في أدب تلك الحقبة. فلقد عدت قطعة شعرية كما يجوز اعتبارها كناية تشير إلى هذا أو إلى ذاك. وساهم رجال الدين نصيب وافر في تأويلها، وعنوا بها بوجه خاص كقصة تلقى ضوءاً على بعث الأجسام بعد الموت، ويضرب بها المثل أولئك المشتغلون بالفن والجمال، وكثيرون يعتبرونها مجرد تعبير جريء عن حقيقة بسيطة

جرت حوادث القصة في شمال الهند، وهي أصلح تربة للحب السامي في جميع بقاع العالم، فهي بلاد الشمس الوهاجة والبحيرات والأدغال الكثيفة والتلال والأودية الخصبة، وهناك توشك الجبال الشاهقة أن تنطح قبة السماء، أجل هناك القمم والأخاديد حيث الثلج الدائم الصعب المنال، في هاتيك الربوع كان يعيش أمي في مقتبل العمر يطيعه الجميع. وفي يوم ما التقى بفتاة طلقة المحيا، جمالها قيد النواظر بحيث يعجز عنه الوصف، فجعلها ملكته واضعاً قلبه عند قدميها. كان الحب الموثق متبادلا بينهما، مليئاً بالمسرات وبالسعادة لدرجة لم يحلم بها أحد من قبل. ومكثا يتفيآن ظل الهناءة، موفوري السعادة لمدة سنة وبضعة شهور، ثم. . . فجأة ماتت بلدغة سامة، بينما كانت تطوف في أرجاء إحدى الخمائل. . .!

أجل، ماتت. . . ولبث الأمير حيناً مسجى في حالة هامدة صامتة من جراء الحزن البالغ واللوعة الحرى، حتى أن البعض خشي عليه أن ينتحر، مع العلم بأنه معدوم النسل والأخوة ليخلفوه. واستمر يومين منقطعاً عن الأكل مكباً على وجهه عند أرجل السرير الذي أضطجع عليه جسدها الفاتن، ثم نهض وأصاب شيئاً من الطعام، وانطلق في سكون انطلاق من آلي على نفسه أن يعمل عملا عظيما، وأمر أن يوضع جسدها في نعش من الرصاص الممزوج بالفضة، وأن يوضع هذا بدوره في نعش آخر من أغلى الأخشاب التي تعبق بالعبير، وأن يكسى بالذهب، وأن يكون حول ذلك كله نعش من الرخام المعرق المرصع بالزبرجد. وبينما كان العمل جارياً، دأب على قضاء معظم أوقاته بجوار الغدران، وفي المنازل ذات الرياض، وفي الخيم والغابات، وفي غرف القصر تلك التي شاهدت مراتع فتونهما، متأملا في حسن تلك التي فقدها، ثم إنه لم يمزق ثيابه ولم يحث الرماد على نفسه، ولم يتشح بالحداد كما كانت العادة، لأن حبه كان أسمى من أن يتسع لهذا الشطط، وأخيراً عاد إلى مستشاريه والى شعبه، وأدلى إليهم بما كان مزمعاً أن يفعله

قال إنه لم يعد بمقدوره أن يقرب امرأة، بل إنه لا يحتمل حتى التفكير في النساء، ولذلك سيحاول إيجاد فتى لائق ليتبناه وليدربه كي يكون خلفاً له، وإنه سيواصل القيام بأعباء الإمارة كما يليق به، على إنه سيركز قواه بقدر استطاعته، وسيخصص جميع ثروته وكل ما يمكنه حشده، ليشيد ضريحاً لمالكة فؤاده الغالية التي لا مثيل لها، وستكون بناية ذات حسن مكتمل وجمال بالغ، بحيث تفوق أية بناية أخرى شيدت في الماضي أو ستشاد في المستقبل، ولتكون أعجوبة إلى الأبد، وليحتفظ بها البشر كنزاً ثميناً، حتى تتناولها الألسن بالإطراء، وتشتد الرغبة في مشاهدتها، ولتكون نجمة الرواد من جميع أطراف الأرض، فيظل اسم معبودته وذكراها حيين ماثلين للعيان، وأضاف أن هذه البناية سيطلق عليها اسم (لؤلؤة الحب)

وقد رضى مستشاروه وشعبه بأن يفعل هذا وقد فعله!

وتتابعت السنون وهو قاصر نفسه على تشييد (لؤلؤة الحب) فحفر لها أساس شق بين صخور في مكان تلوح للناظر منه الثلوج المخيفة التي تكلل الجبال. . . وعلى مقربة كانت تظهر بعض القرى والتلال ونهر كثير التعاريج، وبعيداً قامت ثلاث مدن عظيمة. وضع النعش الرخامي المعرق في بناية شيدت بمهارة وأحيطت بعمد من حجارة جميلة غريبة المنظر، وبجدران تجلى فيها النقش، لكنها لم تلق قبولا لدى خيال الأمير الآخذ بالاتساع، فأمر بهدمها

فالأمير لم يعد باليافع الرشيق الحركة الذي أحب ملكته الصبية، فقد أضحى الآن رجلا عبوسا لا يستوطئ راحة، منكبا على بناء (لؤلؤة الحب). وأخذت السنوات المليئة بالعناء تكسبه خبرة في فن البناء. . . ورهف ذوقه للألوان، وغدا قليل الاهتمام للتزويق والتزيين وكنت تسمعه يردد: (هذه أشياء كانت بديعة). وشاهد الناس (لؤلؤة الحب) تعلو من طور الإنشاء إلى علو شاهق في عظمة وأبهة وجلال، فهم لم يكونوا يعرفون ماذا يتوقعون، لكنهم على كل حال لم يتوقعوا أن يشاهدوا مثل هذا السمو، وكانوا يقولون هامسين: (غريبة تلك العجائب التي يبدعها الحب)! وأحبت جميع نساء العالم الأمير لولائه العميق ولوجده الدفين

ولم يأل الأمير جهداً في التبديل والتجميل، وإنما كان هناك شيء من النشوز في التابوت، إنه لم يكبر منذ الأيام الأولى للكارثة، فبان أشبه بمستطيل صغير يجثم دون تناسب وسط (لؤلؤة الحب). وفي ذلك التابوت كانت علبة الرصاص والفضة الكبيرة الحاوية لجسد من أوحت بهذا الفن

وقف الأمير طويلا يتأمل وينعم النظر، ولكن أحداً ما كان ليدرك ماذا يجول بفكره، وماذا يستقر في خياله؟!

وأخيراً. . . تكلم مشيراً إلى (لؤلؤة الحب) وقال: اهدموها!

(بيت لحم - فلسطين)

عيسى سليم