مجلة الرسالة/العدد 635/مراكش العربية تستصرخ
مجلة الرسالة/العدد 635/مراكش العربية تستصرخ
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
من كان يظن - في أثناء الحرب العالمية الثانية - أن هؤلاء الغربيين الذين ملئوا الدنيا صياحا، ورفعوا عقائرهم بالحرية والعدالة والمساواة، وبحقوق الأفراد والأمم؟ من كان يظن أنهم يجيئون في أعقاب حرب ضروس وهيجاء طاحنة، قد ضربت وشب ضرامها، وأتت على الملايين من البشر قتلا وأسراً وتشريداً، فلا يكون لهم منها عبرة ولا مزدجر، ولا تؤثر فيهم المثلاث، فيسلطون جبريتهم على الأمم الضعيفة التي منيت باستعمارهم وابتليت بدائهم، ويحكمونها بما استطاعوا من قوة الباطل وأساليب الظلم التي لا تعرف الرحمة الإنسانية، ولا الشفقة التي يجب أن تكون بين بني الإنسان!!
بالأمس رأينا كيف بطش الفرنسيون بأهل الجزائر في شهر مايو الماضي، فضربوا البلاد ببوارجهم الحربية وطياراتهم المدمرة ونكلوا بالأحرار من أبنائها
واليوم نقرأ في إحدى الصحف اليومية أن الحكومة الإسبانية تنهج نهج الفرنسيين وتسير على غرارهم في التنكيل بمراكش التي أصيبت بالاستعمار الإسباني، كأنها سياسة مرقومة وخطة مرسومة من المستعمرين لا محيد لهم عنها ولا محيص، وهو أن يسلطوا قوتهمالغاشمة على من يقع في حبائلهم من الأمم الضعيفة حتى تخبت وتخشع وتضرب عليها الذلة والمسكنة، فلا يرتفع لها صوت بحق، ولا تجأر بدفع ظلم، فأين مبادئ الحرية والعدالة التي أعلنها أقطاب الأمم المنتصرة؟ وأين الوصايا الإنجيلية التي نشروها في الخافقين؟ بل أين الأربع التي بشروا بها العالم الجديد وزعموا أنها تكفل تحقيق عهد يسوده السلام والأمن والحرية والعدل؟!
إن الحكومة الإسبانية قد فتحت باب الهجرة على مصراعيه للإسبانيين يتدفقون منه على مراكش العربية، ومنحتهم من وسائل التيسير والإغداق ما يمكن لهم في أرضها، ويجعلهم يتحكمون في رقاب أهلها، وما يصيرهم بعد قليل من الزمن أكثر عددا من أبناء البلاد، وأقوى عدة وأكثر مالا، وأعز نفرا، وبذا يتسنى لهم جعلها جزءاً متمما لإسبانيا، وإقليماً من أقاليمها، كما تحاول ذلك فرنسا في الجزائر، وليس أقوى دليل ولا أصدق شاهدا على ذلك من أن الإسبانيين قبل الحرب الأهلية لم تكن نسبتهم في مراكش تعدو 7 % من سكانها، فأصبحوا بعد سبع سنين قد ذرفوا على ثلث أهلها: سياسة ما أشبهها بسياسة الصهيونيين في فلسطين، يقصدون من ورائها التغلب على أبناء البلاد مما يكون لهم من كثرة العدد وقوة الحكم والاستعمار، ويقصدون إلى قهر العرب والمسلمين بحملهم على التجنس بالجنسية الإسبانية مكرهين، أو بطردهم من البلاد صاغرين!
ولكي ينفذ الأسبان تلك السياسة الباطشة، ويحققوا مآربهم الظالمة، ويسيروا في سبيل الإثم والعدوان بنجوة من الرقباء، ومنأى من الأحرار الذين يغضبون للحق، ويثورون على الظلم - أحاطوا بالمراكشيين، وأخذوهم بأساليب العنف والاستبداد، وسلطوا عليهم وسائل الإخافة، واسترهبوهم وجاءوا بأمر عظيم، فاعتقلوا الزعماء في بيوتهم، ونفوا الأحرار إلى بلاد غير بلادهم، ثم عمدوا إلى الصحف فعقلوا ألسنتها، وحطموا أقلامها، وقضوا على حريتها، ثم أمعنوا وعتوا عتواً كبيراً: فألغوا كثيراً من الوظائف الشرعية، ومنعوا الاجتماعات والمحافل العامة، حتى المحاضرات العلمية ذادوا الشعب عنها وحالوا بينه وبين الاستماع إليها
ظلم عبقري، وجور ليس له ضهى، لا يصدر إلا عن نفوس قد تجردت من نوازع الخير، وقلوب قد ران عليها ما اكتسبت من الإثم والعدوان. وحيل بينها وبين خلال البر والرحمة والإحسان
ألم يحدثكم التاريخ - معشر الأسبان - بأن أسلاف أولئك المراكشيين من العرب والمسلمين قد فتحوا بلادكم فأنقذوكم من ظلم الونداليين، وجور القوطيين، ثم أظلوكم بلواء العدل والرحمة ونشروا بينكم المبادئ السامية والعلوم النافعة، وكان شعارهم في حكمهم: (لأهل الذمة ما لنا وعليهم ما علينا)، فلم يستبيحوا لأنفسهم أن ينتهكوا حرماتكم أو يسلبوكم حقوقكم، أو ينتزعوا منكم دياركم وأموالكم، بل عشتم وإياهم إخوانا متساوين في الحقوق والواجبات، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى أو بعمل صالح.
لقد شيد العرب والمسلمون في الأندلس حضارة قامت على دعائم الحكم الصالح والعلم النافع، حتى صارت المنارة التي يشع منها نور المدنية والعرفان في أسبانيا وسائر أنحاء أوربة، فلم تنكرون عارفتهم، ولم تجحدون فضلهم وهم أساس نهضتكم وقوام حضارتكم؟
ألا فاتركوا للمراكشيين بلادهم، وارفعوا عنهم نير استعبادكم، واعلموا أنهم أباة أحرار لن يكفوا عن الجهاد، ولن يرتضوا باستقلال بلادهم وحريتها بديلا، ولسوف يبذلون كل مرتخص وغال، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم ويكتب لهم النصر المبين
وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يدق
وعلى الجامعة العربية أن ترفع الصوت عاليا بالدفاع عن العروبة والإسلام في تلك البلاد، فإن حقوق العرب والمسلمين لا تتجزأ، وهي واحدة في كل مكان، فمراكش والجزائر وغيرهما من البلاد المهيضة الجناح يجب أن تدخل في نطاق الجامعة لترعى حقوقها وتذود جور القاسطين عنها ليكون التعاون شاملا، وعمل الخير عاما يشمل العرب والمسلمين أجمعين
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)
حسن أحمد الخطيب