انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 635/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 635/القصص

ملاحظات: تُوَان Toine هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1885. نشرت هذه الترجمة في العدد 635 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 3 سبتمبر 1945



تُوَان أو عندما تسيطر المرأة

(إلى الحزب النسائي مع تحياتي)

للكاتب الفرنسي جي دي موبسان

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

جرى على لسان كل من كان يعيش على مبعدة سبعة فراسخ من حانة (التورنفان) اسم صاحب الحانة (انتوان ماشبل). . . وقد تعددت الأسماء التي يدعوه بها رفقاؤه وخلانه، فتارة يطلقون عليه (باتوان) وطورا (فيف ستار توان) وحينا ينادونه (جود أولد يلسن). . .

وكان لتوان الفضل في الشهرة التي نالتها حانة (تورنفان). . . فقد ذاع صيتها مع إنها لا تزال مزرعة فقيرة تقع في كنف متطرف من الوادي الذي يشرف على البحر؛ وقد أحيطت ببعض الجواسق التي يتخذها نفر من أهالي (نورمنديا) مقطناً لهم. . . فغرسوا ثمث الشجار السامقة، وأقاموا السدود، وقد جثمت تلك القرية على جدول تخالط ماءه الرقراق خضرة النبات الذي ترعرع على شفا الجدول. . . وهو ينحدر من الأكمة والتلال التي أوحت باسم (التورنفان).

ويخيل إلى الإنسان الذي ينظر إلى تلك الجواسق في كنف الوادي، أنها بعض الطيور وقد أوت إلى ثلم، عندما تعصف الرياح والأعاصير البارقة التي تكتسح ما على شاطئ (نورمنديا) من الدور الصغيرة. وقد زادت عنها السدود والأشجار، وهذه العواصف تأتي على كل شيء فتجعله قاعا صفصفاً. . أما المزرعة الفقيرة فكان يمتلكها (انتوان ماشبل) وأحيانا (جود أولد يلسن) وأحيانا أخرى (نيف ستار توان) أما اللقب الأخير فلعله صدى لتلك العبارة التي كان يفوه بها نادرا (إن خمر (فيف ستار) لهو أجود ما يجده المرء في فرنسا. . .) لقد ظل قرابة العشرين عاما ينقع غلة القرويين بسلافه العذب المعتق. . . وما من قادم يسأله: (ما الذي يستحسنه اليوم، يا توان؟) فيجيب في غير تلعثم أو تردد (قدح من راووقي المعتق يا بني. . . يبعث الدفء في جوفك، والسكينة إلى نفسك، وهو خير ما يرجى لصحتك) وينادي توان كل إنسان (يا بني) مع إنه لم يرزق ولدا لا في الحلال و في الحرام

عرف توان بأخلاقه الطيبة، وخلاله الفضلى. . . ولو إنه كان حذرا زهما، حتى إنه كان أكثر الريفيين شحما، هذا إن لم يكن قد فاق أهل لورمنديا قاطبة.

وكان كوخه - على النقيض من ذلك - صغيرا ضيقا. . . فمن بره وهو قائم على باب داره حيث يقضي طيلة يومه. . . يتوله العجب عندما يفكر كيف يتخطى ذلك الباب الضيق المنخفض إلى صحن الدار. . . يقف توان على قارعة الطريق يدعو كل من يتوسم فيه الأناقة والثراء إلى حالته حيث يقدم إليه بعض الخمر على سبيل التجربة والقياس. وقد علق على واجهة حانوته لوحة سطر عليها (حانة الصداقة). وكان هشاً بشاً لكل من جاوره وأمه. . .

وقد يفد عليه خلق كثير من إقليمي (فيكامب) و (مونت فليبر) وغايتهم أن يروا توان، ويتندروا بفكاهاته المستملحة ومزاحه العذب الذي يضحك الحجر الصلد. . . لقد أوتي القدرة على أن يشيع المرح حوله دون أن يضجر من يجالسه؛ والقدرة على أن يخبط ساقه في حركة تنتزع الضحك من فيك - شئت أو لم تشأ -، والقدرة على أن يجعل حاجبيه يعبران بما لا يستطيعه لسانه. . . إن منظره وهو ينهل الراح ليبعث وحده الضحك والسرور إلى العيون الساهمة الحزينة. . .

وقد يجرع توان كل ما يقدم إليه من أنواع الشراب كلها، فيلمع في عينيه بريق الخبث. . . وتتألق مقلتاه بالابتهاج الذي يجعلك تقدم إليه المزيد من الشراب. وطالما كان يسأله مواطنوه: (لم لا تلعق من ماء البحر ما يشبع شراهتك هذه؟) فلا يسعه إلا أن يجيب في هناف: (ثمت سببان. فأولا: ماء البحر أجاج تعافه النفس؛ وثانيا: ينقصني تلك المعدة التي يمكنها أن تسع ذلك الماء الطيسل).

عندما ينقلب توان إلى زوجته، تدور رحى الشجار بينهما فيبدأ فصل روائي لا يقل عن الفصول المسرحية روعة وبراعة. . . لقد انصرمت على زواجهما ثلاثون عاما، لم ينقض يوم واحد منها إلا والشجار حليفه. . . والذي باعد شقة الخلاف بينهما هو الفرق البين بين روحه المرحة الطروب، ونفسها الصاخبة الصلفة.

كانت امرأة ريفية فارعة الطول تسير في خطوات طوال كأنها البجعة، وقد منحها الله سحنة مقطبة عبوسة كالبومة، راحت تمضي وقتها بين دجاجها تعنى به وترعاه في قفصه خلف الحانة. . . وقد ذاعت مهارتها في تربية الدجاج بين جيرتها. وكانت تتطفل على الولائم دون دعوة أو خشية لائم. . . ولا تجدها إلا حانقة صاخبة ساخطة على العالم بأجمعه. . . أما في الفينة الأخيرة فكل سخطها تركز على بعلها. كانت تحقد عليه لبشاشته ومرحه، لشهرته وصيته، لصحته ورهله. . . وطالما نعتته (بالماجن المحظوظ) لأن المال يأتيه طواعية دون كد أو جد في طلبه. . . أو (لأنه يأكل قدر ما يتناوله اثنا عشر رجلا. . . وقلما ينقضي يوم دون إثارة انفعالها وحنقها. . .

ابتدرته يوما صائحة: (انظر أيها النهم الشره. . . انظر إلى نفسك وأنت تسير كالكتلة البشرية. . . سوف تلتهم الطعام التهاما حتى يحل ذلك اليوم الذي تنفجر فيه بطنك كالحزمة من القمح، وقد انقطع رباطها. . .) فانطلق توان بقهقهة وهو يربت على بطنه في رفق وهوادة، وما لبث أن قال وهو يلوح بذراعه: (آه. . . أيتها (العصا الرفيعة) لست أدري ما الذي يمنعك من أن تسمني نفسك كما تفعلين مع دجاجك. . . أني لأتوق وأنت تقومين بذلك أيتها المرأة) ورددت الجدران بعد ذلك صدى الضحك الذي انبعث من أفواه الحاضرين. . . وقد جلسوا إلى الموائد الخشبية، فيوفر ذلك صدر المرأة بالغيظ والحنق فتندفع قائلة: (تبا لكم أيها الكسالى. . . فما يرجى منكم نفع ولا ضر) ثم تغادر الحجرة شامخة بأنفها، مصعرة خدها، مشيعة بضحكات السخرية والاستهزاء. . .

يبدو أن كل من كان على شاكلة توان، وقد حباه الله جسداً حادراً وكان ضيق الصدر لا يلبث أن يداعبه الموت مداعبة القط للفأر، ولا يلبث بعد هذه الضخامة أن يبذل عوده، ويسري الهلاك رويدا في بدنه، ويتسرب الموت إلى نفسه كما يسير اللص في هدأة الدجى. . . فيطوح أولاً بذلك الشعر المجعد، وينثني إلى الأعضاء الزائدة. . . ثم لا يلبث أن يذهب بما بقي. . . هذا ما يجعلنا نفغر أفواهنا دهشا لنقول: (يا إلهي! أيطوح الموت مثل هذا الحجم!)

ولكن المنية غفلت عن توان. . . غفلت عن منظره الضخم المثير للضحك. . . بل حبته صحة وقوة. . . حبته طلعة مبهجة مؤنسة، فكان ذلك يثير حنق زوجته فتصيح: (رويدك أيها الرجل، فسوف يأتيك منجله من حيث لا تدري. . .) ألمت بتوان صدمة خلفته قعيد الفراش، مصابا بالفالج، ولزم المارد العجوز فراشه في غرفة صغيرة خلف الحانة. . . حيث كان في مقدوره أن يحس ويسمع ما يدور حوله، وأن يتبادل الحديث مع خلانه وراء الحائط. . . وعلى الرغم من أن جسده كان مقضيا عليه بعدم الحركة، فقد ظلت روحه الطروب على مرحها وسرورها. وكانوا جميعا يأملون في أن تسترد أعضاؤه القدرة على الحركة والتنقل ولكن آمالهم ذهبت أدراج الرياح. . . فحكم القدر على توان أن يمضي وقته في فراشه لا يغادره. . . ولم يحاول أن ينتقل من مضجعه إلا مرة واحدة، حيث استطاع بمساعدة اثنين من جيرته النهوض مستندا إليهم. . . لتبدل زوجته فراشه بآخر.

لم يكن يفارق مرحه وبشاشته إلا في حضور زوجته، فأنه كان يبدو وديعا رزينا كالطفل. . . كانت تقول له على الدوام (انظر إلى نفسك. . . انظر إلى تلك الكتلة العديمة النفع. آه! أنت تجلس في الفراش مستريحاً، وعلي أن آتيك بما تود. . .) فلا يسعه غير الصمت، وإغضاء طرفه، ويتحامل على نفسه لكي يجلس في فراشه. وكانت الحركة الفريدة التي يأتيها هو أن يتقلب ذات اليمين وذات اليسار. . . راح يستمتع بالإنصات إلى لغط القوم في غرفة الشراب، وإذا ما تعرف على صوت صاحب له صاح يناديه: (ألست (سلستن)؟! إني هنا يا بني) فيجيبه سلستن (أنا ذا يا توان. أما تستطيع أن تنهض وتأتي إلينا؟!) فيقول توان ثانية: (ليس في طوقي أن أنهض. . . ولكني في صحة جيدة. ولم أفقد عقلي بعد) وبعد هنيهة يدعو أصدقاءه المقرنين إلى غرفته. ويتمتع برفقتهم حينا، ولو أن منظرهم وهم يجرعون الخمر دونه يثير كوامن نفسه. . . وينغصه بعض الشيء. فيقول في تذمر: (أف لهذا الداء، فهو الذي يمنعني أن أتناول قطرة من راحي المعتق. يا لتعاستي).

وتظهر زوجته بغتة من النافذة فتصيح: (انظروا إليه. . . انظروا إلى (الماجن المحظوظ) لقد أخذت على عاتقي أن أطعمه وأصنع ثيابه. . . وأنظفه وهو جالس كالخنزير) وعندما يغيب وجه زوجته من النافذة، يقفز إلى حافتها بعض الدجاج حيث يعدوه في الصياح والتقاط فتات الخبز. ويغادره أصدقاؤه بعد أن يعدوه بالحضور في عصر كل يوم للتندر معه، ويستمعون إلى قعيد الفراش وهو يلقي عليهم فكاهاته التي تجعل الشيطان عينه ينطلق ضاحكا. . .

وظل ثلاثة من أصدقائه يختلفون إليه على الدوام وهم: (سلستن مالويسل) وهو رجل معروق كساق شجرة التفاح. و (بروسبر هورسلافيل) وهو رجل دعوب ذو أنف محدب، خصه الله بخبث الثعلب ولسان لاذع متهكم، و (سيزار بومال) الذي لا ينبس ببنت شفة، ولكن يلذ له أن ينصت إلى توان. وكانوا يحضرون معهم لوحة خشبية يطرحونها على السرير ليمضوا الوقت في لعبة النرد. . . ابتداء من العصر حتى الساعة السادسة مساء. . . لم تكن زوجة توان تطيق أن ترى بعلها مبتهجا مستغرقا في اللعب. . . فكانت كثيرا ما تهبط عليهم فجأة فتقلب اللوحة، وتصيح إنها لا تطيق رؤية ذلك النفر من الخنازير لا يجدون شاغلا سوى الحضور إلى دارها للترفيه عن زوجها (خنزيرهم الأكبر) وكأنه الأمير لا يعفر قدميه في العمل الشاق الذي تقوم بإنجازه سحابة يومها. . . فيحني كل من: (سلستن مالويسل) و (سيزار بومان) هامته أمام العاصفة، أما (بروسبر هورسلافيل) فيأخذ في إثارتها، فكانت تصب عليه جام غضبها وحنقها. . .

قال لها (بروسبر) يوما وكانت في سورة سخطها: (رويدك يا سيدتي أتدرين ما الذي أصنعه لو كنت مكانك؟) فتوقفت برهة عن السب واللعن، وصوبت إليه نظرة حادة - كنظرة البومة - فواصل حديثه قائلا: (إن حرارة هذا الطفل العجوز كأنها الأتون المستعر. هذا ما أراه يا سيدتي؟ انتفعي من هذه الحرارة بجعله (يفرخ البيض)!) ففغرت المرأة فاها من العجب وراحت تفكر، ثم عاودت النظر إلى بروسبر - ذلك الثعلب الماكر - فعاد يقول: (نضع تحت ذراعه خمس بيضات. . . وخمسا تحت ذراعه الأخرى - كما تضعين البيض تحت الدجاج - وعندما يفرخ، نأخذ الفراريج وندعها لدجاجة ترعاها كما لو كانت فراريجها. ومن ثم يمكنك أن تحشدي قفصك بالدجاج. أما هذا بصحيح؟!) فقالت المرأة وقد عراها الذهول: (أو تظن أنها ستفلح يا بروسبر؟!) فأجابها على الفور: (دون شك، فكما يفرخ الدجاج في قفصه يستطيع زوجك أن يفرخ في سريره. . .)

كان لإيحاء بروسبر أثره الفعال. . . فبعد أسبوع حملت زوجة توان عشر بيضات في فضل ردائها إلى زوجها القعيد. . . وقالت: (لقد أرقدت الدجاجة الصفراء على عشر بيضات، وها هي عشر بيضات أخرى لك، فحاذر أن تحطمها. . .) فقال توان بعد أن أفاق من وقع هذه الصدمة: (يا لله! ما هذا؟! أأصاب عقلك لوثة من الشيطان؟!) فأجابته زوجته: (عليك بتفريخ هذه العشرة كما تفعل الدجاجة أيها البله) فراح يضحك، ولكن عندما أحس لهجة الإصرار في صوتها لم يلبث أن ثار غضبه لامتهان عزته وأخذ يلعنها، ويعارضها في أن تتخذ من ذراعه مصنعا للتفريخ. فجن جنون المرأة وصاحت في عزم وحزم: (إذن لن تعرف للطعام سبيلا ما دمت لن تفرخ البيض. . . ضعها ثم دعنا ننظر يا زوجي العزيز) فراح يهددها بتحطيم البيض إن هي أدنته منه، فنأت عنه. . . حتى دقت الساعة معلنة الثانية عشرة فصاح: (ويحك! عليّ بالغداء أيتها المرأة!).

- (ليس هناك غداء لك! أيها الخنزير العجوز) وخيل إليه أولاً إنها تمزح فمكث غير طويل. . . ثم ما لبث أن راح يصب لعناته عليها وعلى النساء اللائى يشطرن على أزواجهن فيجعلن منهن لعبة في أيديهن. . . وأخيرا راح يتوصل إليها وهو يتلوى ذات اليمين، وذات اليسار. بيد أنه لم يجد في النهاية بدا من أن تضع خمس بيضات في الفراش لصق ضلوعه اليسرى. وحينئذ أمكنه أن يتناول غداءه. . . وفي المساء حضر إليه الأصدقاء؛ فكان مسلكه غريبا حيالهم وكأن المرض يعتريه، ولم يجدوا منه إقبالا وبهجة للعب، فقد كان يضع يده في حذر إلى جانبه عندما تعن له الحركة. فسأله هورسلافيل: (ماذا دهاك؟! أذراعك يؤلمك يا توان!؟) فأجاب توان: (يخيل إلى ذلك كأنما أصاب أكتافي النقرس) وفجأة سمعوا لغط حاكم المدينة ووكيله يلجون الحانة، ويطلبون قدحين من الخمر، ثم راحا يتحدثان في شؤون البلدة.

وبينما هما يتحاوران في لهجة قانونية، مد توان أذنيه إلى الحائط ليتمكن من الإصغاء، وقد سها عن البيض. وتحرك إلى اليسار قليلا حركة جعلت البيض يصير (كالعجة). فتنهد توان في كآبة وكدر وهو يشم المنازلة. واندفعت زوجته إلى الغرفة ورفعت أغطية السرير. ووقفت تحدق هنيهة في ذهول نحو الخليط الصفر الذي أخذ يسيل من ضلوع زوجها، ثم انهالت في ثورة الجنون على الرقيد المفلوج لكما وضربا في حرارة ونشاط. . . أخذت يدها ترتفع وتنخفض، وتيسر وتيمن في ضربات قاسيات تهبط على بطن زوجها المنتفخ كأنها الأرنب يعمل يديه حفرا في الأرض. . . وعلا هذه الضجة جرس القهقهة التي أخذ يطلقها رفقاؤه، في رنة فرح وابتهاج، وحاول الزوج المنكود أن يتقي ذلك السيل من الخبط، وقد انهمر عليه في قسوة فحطم الخمس بيضات الأخرى مما زاد الطين بلة. . .

عاش توان بعد ذلك يعمل للتفريخ فقط. . . فحرمت عليه زوجته اللعب مع رفقائه، لكي لا يأتي أي حركة طفيفة تحطم البيض فيتعرض لقسوتها فقد كانت تحرمه من وجبة الطعام إذا ما شرخ بيضة واحدة. فاضطجع في فراشه عاجزا عن الحركة، تحدق عيناه في سماء الحجرة. وقد ضم يديه إلى ضلوعه مرخماً ليجعل الدفء والحرارة تسري إلى البيض ذي الكر فيء الأبيض الهش، لا يرتفع صوته إلا بالهمس. . . قد كان يخشى الضجيج خشيته من الحركة. . .

وبعد فترة من الزمن أخذ يركز اهتمامه على الدجاجة الصفراء في محضنتها وطالما سأل زوجته في قلق (اتناولت طعامها اليوم)

وزعت المرأة العجوز وقتها بين زوجها وفرختها وأملها الذي يراودها أن ترى أفراخا تتنسم الحياة سواء أفرخ زوجها في الفراش أو دجاجتها في القفص. . وذاع الخبر في طول الريف وعرضه، وأخذ الناس يفدون على (حانة الصداقة) من كل فج عميق، وهم تواقون إلى رؤية توان (راقدا على البيض). كان يتجهون إلى غرفته بأطراف ساهمة - شاع فيها الجد - وكأنهم يدلفون إلى غرفة مريض:

- (كيف أصبحت اليوم يا سيد توان؟!) فيجيب: (على ما يرام لولا أنني أخشى الحركة فأحطم البيض الذي يلتصق بضلوعي).

هرولت الزوجة ذات يوم إلى توان وهي تصيح: (لقد أفرخت الدجاجة الصفراء سبعة فراريخ، وذرت الثلاثة الباقية) فتسارع الدق في قلب توان وهو يتبصر في العدد الذي سيفرخه هو! وقال في صوت شاع فيه قلق المرأة حين ولادتها (أحسب أن نوبتي قد حانت!) فرددت المرأة في اضطراب (أحسب ذلك)

وما كاد يذاع أن ساعة توان قد أزفت حتى توافد عليه الزوار من كل صوب وحدب ليشاركوه سعادة الفوز، وطفق الريفيون يتحدثون عن توان ويطرقون البواب ليعلنوا أحدث الأنباء. . . وعند الساعة الثالثة مساء غفى توان قليلا كعادته. . . وفجأة استيقظ على أصوات غريبة، وأخذ يحس نقرا تحت ذراعه الأيمن، فمد يده اليسرى، وأخرج مخلوقا دقيقا، كسي زغبا أصفر، وراح يتلوى بين أنامله، وكم كانت بهجة توان عندما صاح بأعلى صوته وأطلق الفروج على صدره، وسرعان ما اكتظت الغرفة بالقوم أحاطوا به إحاطة النظارة ببطل من البطال، وما كادت زوجته تقف إلى جانبه حتى أمسكت بالفروج الذي أوى إلى لحية توان العجوز. . . وتقاطر العرق على جنبيه من الحيرة والعجب، وهو يرتعد تحت تأثير شعور عميق، وفاجأهم ثانية وهو يدمدم: (هه! ها هو فروج آخر تحت ذراعي اليسرى!) فخفت يد المرأة تلتقطه من تحت الغطاء. . . وفي حذر ومهارة القابلة أخرجت يدها بالفروج الثاني. . . فتجمهرت الجيران حولها، وأخذوا ينقلونه من كف إلى كف، وهم يتطلعون إليه كأنه إحدى عجائب الطبيعة!

مضت عشرون دقيقة دون أن يحدث شيء، ثم أخذت أربعة فراريج تنقر كرفئ بيضها، وراحت صيحات العجب تتوالى من حين إلى آخر، وتوان يزهو بقدرته الفائقة بين نظرات الإعجاب، وراح يقول مداعبا: (لقد أفرخت ستة فراريج، فلي إذن كلمة (التعميد). . .). فانطلقت عاصفة الضحك من أفواه الحضور، وامتلأت الغرفة على آخرها بالرفيين، فظل معظمهم قائما عند الباب، وكل من يحضر يسأل في لهفة:

- كم أفرخ إلى الآن؟

- ستة فقط!

حملت زوجة توان (الأسرة الجديدة) إلى قفص الدجاجة الصفراء، حيث جعلت هذه تحبوها - مع أفراخها - بعطفها وتكلؤها بعنايتها، وتنظف ريشها، وتضمها تحت جناحها لتذود عنها غائلة المعتدي!

ثم لم يلبث توان أن صاح: (هه! هذا فروج آخر). ولم يكن هذا فروجا واحدا، بل ثلاثة فراريج مما جعل الحاضرين يسبغون على توان عبارات الإطراء والثناء، أما الفروج العاشر والأخير، فقد نقر بيضته في الساعة السابعة تماما، وبذلك قدر لتوان أن يجوز ذلك الامتحان القاسي بنجاح باهر فاق فيه الدجاج نفسه، فلم يسعه إلا أن يقبّل الفروج الأخير في رفق وحنان. . .

وبينا هو في نشوته يعجب من قدرته على إظهار هذه المخلوقات إلى حيز الكون، لم تمهله زوجته العجوز، بل قوضت عليه صرح هناءته (بمولوده السعيد). . . والتقطت منه الفروج لتضمه إلى (باقي الأسرة)

انحل عقد المتفرجين، وأخذوا يتفرقون إلى دورهم مبتهجين معجبين بتوان وقدرته. وكان آخر من غادر الغرفة (بروسبر هورسلافيل) فسال توان في خبث شاع شيء من التهكم: (هه! استدعوني عندما يسلق أول فروج ويقدم طعاما على المائدة!) فأجابه توان ضاحكا: (بلى. . . وعلى الرحب والسعة يا بني)

(طنطا)

مصطفى جميل مرسي