انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 634/في بيتي. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 634/في بيتي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 08 - 1945



احدث كتب العقاد

للأستاذ عبده حسن الزيات

هذه سياحة في مكان واحد تحققت فيها وحدات (أرسطو) الثلاث فلم نتجاوز بيت أستاذنا العقاد، ولم نعد شطرا معينا من نهار، وانحصر نظرنا في مشهد واحد هو مشهد الحوار بين العقاد وصاحبه، فجاءت سياحة فريدة في بابها، وكأنما حسب المؤلف أن تحتاج إلى دفاع فقال: (إن السياحة يا صاحبي لها حجتها الناهضة فما هي بحاجة منا إلى حجة جديدة. ولكن المكث في المكان الواحد أيضاً له حجته التي تضارع حجة السياح ولا تقصر عن شأوها، فإذا كانت مشاهدة الأمصار ومداولة الديار تعلمنا الحكمة وتبصرنا بألوان الحياة فاعلم يا صاحبي أنني لا أعرف شيئاً ينفذ بنا إلى حقائق الآمال والمخاوف، وبواطن الأفراح والأحزان، كمراسنا لها في المكان الواحد الذي يقل فيه التغيير).

ولكنها في الواقع لم تكن محتاجة إلى هذا الدفاع فهي سياحة حقيقية في معارض الآراء والفلسفات ومسارح الأذهان ومحافل الموسيقى، ومواقع المذاهب، ومعاني البطولة، ومجاني الشعر، ومغاني الصور. ولم يكن العقاد فيها سائحا بقدر ما كان ملاحا وأستاذا في جامعة من هذه الجامعات التي حدثونا أن السفينة جدرانها، والأفق العريض سبورتها، وأمواج البحور مدرجاتها؛ رحلة دسمة زاخرة بالمشاهد لا أدري كيف استطاع هذا النوتي الماهر أن يطويها في هذا الزمن القصير وهو 132 صفحة من ورق (أقرأ)، وذلك في طمأنينة مريحة لم تشعر السفر بدوار ولا تركتهم يحسون إحساس المعجل عن التقصي وملء النفس من روائع الجزر والمرافئ.

في هذه الرحلة أو في هذا الكتب تعرض على القارئ أمور كثيرة منها: النور والتملي فيه وسيلة وغاية، الروح والمادة والشان العملي لبحوث ما وراء الطبيعة، فلسفة النسك، مذاهب السخط والتشاؤم وبيان ما فيها من هدم وبناء، نقد المذاهب الشيوعية والنازية والفاشية، الموسيقى وتصوير المعاني والنسبة بين الموسيقى الشرقية والغربية، آداب الطرب، الموازنة بين عظماء الفنون وعظماء الدعوات العملية، الموازنة بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول، فلسفة التغذية وعلاقة الأطعمة برقي الأمم، شرح بعض الصور العالمية مثل (شالومة) للفرنسي بروسيير و (الزهرة) للأسباني فلاسكيه، الفنان والعصبية القومية، وحدة الخلق وتلاحم سلسلة المخلوقات، البومة وشهرة الشؤم، ابن الرومي ونحسه، تقدير الموهبة التصويرية في شعره، الإلمام بصور بعض المصورين المصريين المحدثين، تقدير القصة وبيان مكانها بين سائر ألوان الأدب، السيكولوجية والقصة، الشيوعية والقصة، التماثيل والأخلاق الخ.

وقد كنت أحب أن اعرض رأي المؤلف في هذه الأمور جميعاً ولكنه عمل فوق طاقة نقد قصير معجل فحسبي أن أسجل بعض الخواطر التي قامت في نفسي أثر القراءتين الأولى والثانية لهذا الكتاب النافع الممتع.

تجلت ملكات العقاد الأصيلة أو تجلى كثير منها، في هذا الكتيب بصورة أخاذة رائعة؛ وإني أصارح القارئ أين سألت نفسي هل انطلق قلم العقاد على سجيته أو رسم له صاحبه رسما معينا واختط شرعة وبذل بعض الجهد لتحقيق هذه الغاية؟ تساءلت ولم اقطع بجواب لأني حين رأيت الشعر المنثور المترقرق يزكي الفرض الأول، رأيت الجدل العلمي الدقيق المستند إلى الحجج المنطقية والمادية يؤيد الفرض الثاني:

نعمت بهذا الشعر المؤثر في مطلع الكتاب:

(قلت لك يا صاحبي أنني أحب مدينة الشمس لأنني أحب النور احبه صافيا واحبه مزيجا، واحبه مجتمعا واحبه موزعا، واحبه مخزونا كما يخزن في الجوهر، واحبه مباحا كما يباح على ألازاهر، واحبه في العيون واحبه من العيون، واحبه إلى العيون!

ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني افتحها فلا أرى منها إلا النور. . . والفضاء.

والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.

وكيف يكون فضاء ما يملأ العينين ويملأ الروح ويصلى الأرض بالسماء؟

قلت لك يا صاحبي أنني أحببت النور فسكنت في مدينة النور!

فإنني لا احبه لأنه يريني الدنيا وما فيها أو لأنه هو واسطة الرؤية واداتها، ولكنني احبه لأراه ولو لم أر شيئاً من الأشياء.

وقديما كنت أقول أن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنما هي تسبح وتطفو عليه). ثم نعمت واغرورقت نفسي لقوله في ختام رحلته:

(إذا وجل القلب فهذا الكرسي يعلمني أن الخوف عبث وإن الذي أخافه قد يخطئني ويسبقه إلى الذي أرجوه، فكم من مرة جلست عليه أطيل النظر في أعقاب الأمور واقلب الظنون في كل وجه من الوجوه ثم جاء الوقت المحذور ولم يجئ معه ما حذرناه!

وإذا تقطعت النفس حسرات على نعمة من نعم العيش فهذه الشرفة تقول لي: بل انتظر طويلا أو قصيرا فسنرى كما رأينا وسنعلم كما علمنا أنك ستعيش بغير هذه النعمة التي كنت تقرنها بالحياة.

. . . وهذا المكن قد صعدت سلالمه ثلاثاً ثلاثاً ثم صعدتها اثنتين اثنتين ثم اصعده درجة درجة على غير عجلة ولا اكتراث، وهذا المسكن قد نزلت به والشعرات البيض يتوارين في السواد، وما زلت انزل به والشعرات السود يتوارين في البياض. . .)

ولكن هذا الشعر المنثور وما استدعاه المقام أحياناً من الاستشهاد بشعر منظوم بعضه من شعر المؤلف القديم، ليسا إلا (نثارة) وسط ذخائرنا من المناقشات الحادة والبحوث الجادة تنتظمها دفتا (السفينة) أو دفتا الكتاب:

انظر إلى هذه المناقشة لما قرره (أرثر بلفور) من نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح وأقرا هذه المحاجة الدقيقة الصلبة الناعمة: (إنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك إذ وضعوهما موضع النقيضين وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها. أنك حين تضرب الأرض بقدمك فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء إنما تصدم شيئاً غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار. فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى فتصدم الحواس. هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في اطوائها. . . وإن شئت مصداقا لذلك فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة فهل تقف عندها؟ كلا أنها لا تقف عندها بل تعبرها. كما تعبر الماء أو كما تعبر الهواء، أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية فادفع الماء بقوة من بعض العيون. . . أنك إذن لتضر به بالسيف القاطع فلا يمضي فيه. . . فليست الكثافة المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها بل لقوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة وفي كل مادة ملموسة أو محسوسة).

ثم نطوي نحو ثلث الكتاب لنقابل بحثا اعمق في الميتافيزيقا وسر الوجود: (أن الفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم، فالوجود موجود. بلا أول ولا آخر لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص، لأن النقص يعتري الوجود من جانب عدم ولا عدم هناك. . . موجود بلا بداية ولا نهاية ولا نقص ولا قصور. . . والوجود الكامل الأمثل هو الله)

(البقية في العدد القادم)

عبده حسن الزيات