مجلة الرسالة/العدد 632/الشرق كما يراه الغرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 632/الشرق كما يراه الغرب

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 08 - 1945



الموالد المصرية

للأستاذ أحمد أبو زيد

كتاب الموالد الذي نلخصه لقراء الرسالة كتاب طريف وجليل يتناول ناحية طريفة وجليلة من حياتنا الشعبية. ومؤلف هذا الكتاب البمباشي ماكفرسون أمضى ما يزيد على ربع قرن في مصر تقلب خلالها في عدة مناصب إدارية، فاشتغل زمنا بوزارتي المعارف والزراعة، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية وشغل منصب (مأمور ضبط) برتبة بمباشي، وظل في هذا المنصب عدة سنين. فهو إذن بحكم السنين الطويلة التي أمضاها في مصر، وبحكم منصبه في البوليس على الخصوص من أفضل من يمكنهم الكتابة في موضوع الموالد

وينقسم الكتاب إلى قسمين: في القسم الأول تناول المؤلف الموالد على العموم، فتكلم في نشأتها ومصادرها ومظاهرها الدينية والدنيوية وما إلى ذلك. أما القسم الثاني، فقد تكلم فيه المؤلف عن بعض الخصائص التي يتميز بها كل مولد على حدة، وينفرد بها دون غيره من الموالد

ولكن الكتاب على قيمته لا يخلو من بعض العيوب، وأظهر هذه العيوب هو عدم تسلسل أفكار الكاتب تسلسلا منطقيا، فنجده ينتقل من فكرة لأخرى بدون سابق تمهيد، ثم ما يلبث أن يعود ثانية إلى الفكرة الأولى مما قد يوقع القارئ في شيء من الاضطراب. كذلك يكثر من الاستطراد والتكرار في ثنايا الكتاب، وقد يبلغ أحيانا إلى حد الإملال. ويأخذ عليه الأستاذ ايفانز برتشارد أستاذ علم الاجتماع السابق بجامعة فؤاد الأول - وهو الذي كتب مقدمة الكتاب - أن المؤلف لم يلتزم في كتابه أصول المنهج الاجتماعي الدقيق الذي يوجب على الباحث أن يكتفي بوصف ما يقع أمام ناظريه وصفا دقيقا دون أن يجعل شعوره الخاص يطغى على ما يكتب ويوجه كتابته ناحية معينة، وألا يسمح لنفسه بالحكم على الظواهر الاجتماعية التي يراها حكما أخلاقيا، فيصفها بالخير أو الشر، بالصحة أو الخطأ، كما حاول ماكفرسون أن يفعل وخاصة في الفصول الأولى، ولكن مهما يكن من شيء، فإن هذا الكتاب يسد فراغا هائلا في دراسة مظاهر الحياة الشعبية عند المصريين المحدثين

- 1 - يرى ماكفرسون أن الموالد ظاهرة اجتماعية عريقة في القدم، ترجع أصولها إلى احتفال المصريين القدماء بأعياد آلهتهم - مثل أوزيريس وعيد عروس النيل وغير ذلك من الأعياد السنوية التي يمكن اعتبارها موالد من باب التجوز. إنما ظهرت الموالد - بمعناها المتعارف عليه الآن - في مصر الإسلامية في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)؛ وقد كانت في أول أمرها احتفالات دينية شعبية محضة، ثم أخذت تكتسب الصفة الرسمية بعد ذلك شيئا فشيئا ابتداء من القرن التاسع الهجري حتى لم يعد يباح الآن الاحتفال بمولد أحد الأولياء إلا بعد الحصول على ترخيص خاص من وزارة الداخلية (وزارة الشؤون الاجتماعية الآن)؛ بل أخذت الهيئات الحاكمة ذاتها تشارك الشعب في هذه الاحتفالات - وخاصة بمولد النبي (صلعم) إذ يشترك فيه رجال الإدارة ويحضره الملك نفسه أو من ينوب عنه. ومن هنا يتضح أن الموالد مظهر شعبي عظيم يمثل ناحية هامة من الحياة الروحية عند الشعب المصري. ولكن مع أهمية هذا المظهر الذي يطبع مصر بطابع خاص فريد نجد أن هناك بعض حركات مضادة ترمي إلى القضاء على الموالد ومنع الاحتفال بها.

ولعل أكبر حركة ضد الموالد هي الحركة التي يقوم بها جمهرة المتعلمين في مصر ممن تشبعوا بروح الثقافات الأوربية المختلفة حتى أضلتهم وأعمتهم عن مظاهر الحياة الشرقية وما هي عليه من روعة وجلال؛ فشوهت نظرتهم إلى الموالد حتى اعتبروها مظهرا من مظاهر الحياة البدائية المتأخرة التي يجب أن تتخلص مصر منها سريعا أن أرادت لنفسها أن تساير ركب الحضارة الحديثة ولا تتخلف عنه. وينعى ماكفرسون على المتعلمين هذه النظرة الخاطئة المشوهة، فالموالد قبل كل شيء وعلى الرغم مما قد يشوبها من ضروب الرقص وأفانين الشعوذة البدائية تمثل ناحية لها خطرها من حياة الشعب وأفكاره وأعياده، تنفرد بها مصر دون غيرها من الأمم - حتى الأمم الإسلامية نفسها التي لا تتمثل فيها الموالد بمثل هذه الروعة التي تظهر بها في مصر. أضف إلى ذلك أن هذه الموالد ليست بدعة جديدة في مصر حتى نقضي عليها ونستريح منها، إنما هي - كما ذكرنا من قبل - أعياد قديمة تمت إلى تاريخ مصر القديم بصلة قوية، فهي بالتالي جزء جوهري من مقومات الروح المصرية، وعلى ذلك فلاشك أن مصر لابد أن تخسر خسرانا مبينا وتفقد جزءا هاما من ملامح حياتها الشعبية التي ينبغي أن تتمسك بها في عزة وفخر لو أنها تابعت تلك الحركة الهوجاء التي يقودها المتعلمون.

وهناك فريق آخر من المتزمتين الرجعيين، يتخذ من اسم الدين سلاحا لمحاربة الموالد؛ ويحتجون بأن الرسول (صلعم) لم يحتفل قط بمولد أحد من الصحابة ولم يأمر غيره بذلك، وكل ما لم يأمر به الرسول فهو بدعة وضلالة يجب محاربتها حتى تواد - ولكن ماكفرسون يرى أن هذه الحجة لا تكاد تقوى على الوقوف على قدميها حتى تتهافت، فالمسلمون اليوم يحيون حياة لم يحيها الرسول العظيم ولم يأمر الناس بأن يحيوها: والمسلمون اليوم يتخذون كثيرا من وسائل الحضارة الأوربية الحديثة لم يتخذها الرسول قط، ولم يأمر الناس بأن يتخذوها فماذا يكون من أمر المسلمين إذن لو أنهم نفضوا أيديهم من كل ما يباشرونه اليوم من أعمال، وما يتخذونه من وسائل للحياة لم تكن على أيام (الرسول)؟ لاشك أن طائفة لرجعيين الذين يهاجمون الموالد بهذه الحجة هم من أبعد الناس عن أن يفكروا في نبذ وسائل الحياة الحديثة التي لم يأمر الرسول بها ويعيشوا عيشة العرب على أيامه (صلعم). وإذا كان أنصار الرجعية هؤلاء يحتجون أيضاً بضرورة القضاء على الموالد نظرا لما تحويه من ضروب الإغراء والإغواء من رقص وموسيقى وغناء وما إليها، فإن ماكفرسون يرى أن هذه الجوانب لا تمثلها إلا ناحية واحدة من الموالد لا يقاس ضررها إلى ما يلحق مصر من ضرر لو أنها منعت الاحتفال بالموالد أصلا. ويضيف ماكفرسون إلى ذلك أن الرقص والموسيقى والغناء كانت دائما عناصر جوهرية من عناصر الدين في كل عصوره، فالنبي داود كان ينشد الأناشيد ويعزف على المزأمير؛ والمسيحية لا تزال تعتمد في كنائسها على أنغام الموسيقى لإثارة كوامن الشجن في قلوب الناس؛ ولا يزال هناك بعض الصبية يرقصون في دير سانت كاترينا في شبه جزيرة سينا؛ فالصلة بين الدين والموسيقى صلة وثقة في الواقع على عكس ما يظنه بعض الناس - ونحن هنا نجد أن ماكفرسون لم يفهم طبيعة الشريعة الإسلامية حق الفهم ويخلط بين تعاليم الدين الإسلامي وغيره من الأديان والملل، فتعاليم الإسلام تنهى صراحة عن الرقص والموسيقى والغناء إذا ترتب عليها مفسدة أو شغلت القلوب بغير ذكر الله.

وهناك أخيرا حركة ثالثة يقوم بها العلماء والفقهاء ضد الدراويش؛ واصل هذه الحركة هو اختلاف فهم العلماء عن فهم الدراويش للدين؛ فالعلماء يأخذون الدين على إنه مجموعة القوانين والشرائع التي جاء بها القرآن الكريم والسنة، وبذلك يعتبرون أعمال الدراويش أنها نوع من الدجل والشعوذة. والواقع غير ذلك؛ فإن للدين مظهرين: مظهرا خارجيا أو ظاهريا هو الذي يتمثل في الشرائع ومختلف الأعمال التي يقوم بها الإنسان باسم الدين، وهذا هو المظهر الصوري الذي يتخذه العلماء لأنفسهم؛ ومظهرا باطنيا داخليا يعتمد على حال القلب والوجدان في التقرب إلى الله. وهذا المظهر يتخذه الدراويش. والمظهران في الواقع متكاملان؛ فالدين حالة عاطفية في القلب، كما هو أوضاع ظاهرية تظهر في مختلف العبادات، وفي ذلك يقول بليس (إن الدراويش يبحثون عن الله في قلوبهم، أما العلماء فإنهم يبحثون عنه في نصوصهم). فأعمال الدراويش ليست إذن بعيدة تماما عن الدين كما يزعم الفقهاء، وإلا فبماذا تفسر سكوت الخلفاء وسكوت نقباء الأشراف - ومنهم نقيب الأشراف الحالي - طيلة القرون الماضية على أعمالهم لو لم تكن من الدين؟

وعلاوة على ذلك، فإن للموالد فائدة أخرى توجب على المصريين أن يحافظوا عليها ويتمسكوا بإقامتها دائما، وهي فائدة اجتماعية سياسية لها أهميتها القصوى في بلد مثل مصر بلغ فيه مستوى المعيشة حدا من الانحطاط لا يبشر بخير لو لم يكن هناك ما ينفس عن الشعب الفقير المحروم بعض ما يعاني من ألم الفاقة والحرمان ويدخل عليه شيئا من السعادة. إن الروح المصرية روح مرحة بطبيعتها تميل إلى الانطلاق واللهو والعبث. والموالد هي الفرصة الوحيدة التي يتاح فيها لعامة الشعب الفقراء أن يتناسوا همومهم وضيقهم من حياتهم الحالكة. فمنع الاحتفال بالموالد ليس من الحكمة في شيء إذن، لأنه سيحرم الشعب مصدر سروره وبذلك يزيد من ثقل وقع الفقر على نفوسهم ويشعرهم بوطأة الحرمان مما قد يدفع بهم إلى الثورة على حكامهم الذين جمعوا في أيديهم كل الثروة وتركوا لهم الفقر كله. وفي التاريخ شواهد كثيرة على أن الأعياد الشعبية كانت أبدا عاملا يلطف حدة وقع الظلم على نفوس الطبقات الدنيا، وأن منع الاحتفال بهذه الأعياد ساعد على انفجار مشاعر الحقد الدفينة؛ ومن أكبر الأمثلة على ذلك الثورة الفرنسية الكبرى.

وعلى العموم فإن ماكفرسون يرى أن الحكمة تقضي على المصريين بأن يحتفظوا بأعيادهم وبمظاهر حيلتهم الشعبية الأخرى ويعتزوا بها كل الاعتزاز ويضنوا بها عن أن تضيع وتتلاشى من موجة الحضارة الأوربية الجارفة؛ فإن هذه المظاهر تبين تماما خصائص الروح الشرقية، فلو أن المصريين سمحوا بضياعها وتلاشيها لكان نذيرا بضياع مصر وتلاشيها كدولة شرقية لها خصائصها ومميزاتها الذاتية التي تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من الدول.

- 2 -

للمسلمين والنصارى في مصر موالدهم الخاصة؛ إلا أن كلمة (مولد) تنطبق على أعياد المسلمين الدينية أكثر مما تنطبق على أعياد المسيحيين؛ لأن المسلمين يهتمون في الواقع أكبر الاهتمام باليوم الذي ولد فيه (الولي)، ويعتبرونه حادثا جليلا يستحق التمجيد والاحتفال بعكس المسيحيين الذين يهتمون بيوم الوفاة ويعتبرونه يوم الميلاد الأبدي.

ولم تظهر الموالد الإسلامية - كما قلنا من قبل - إلا في القرن السابع الهجري بعد موت السيد أحمد البدوي. وقد كان السيد البدوي وليا من أشهر أولياء مصر، عرف بكراماته الباهرة حتى اعترف له أولياء مصر لعهده بالزعامة عليهم. وقد كان للسيد البدوي شهرة مدوية ليس في مصر وحدها بل في سائر البلدان الإسلامية الأخرى، وخاصة البلدان التي زارها؛ فقد جاب السيد شمال أفريقية، ورحل إلى مكة وأمضى هناك عشرين عاما يعظ الحجاج ويهديهم سواء السبيل؛ ثم سافر إلى العراق فالتف الناس حوله وأحاطوه بمظاهر الإجلال والإكبار حتى كان بعضهم يعده في منزلة الأنبياء. ولما رجع السيد إلى مصر ومات بها شاع خبر موته في أرجاء العالم الإسلامي، فتوافد الناس على مصر من جميع الأنحاء. وفي طنطا احتفلوا بجنازته احتفالا رهيبا؛ وفي العام التالي، بدلا من أن يحتفلوا بذكرى وفاته احتفلوا بيوم مولده. ولقد كان لاحتفال أهالي طنطا بمولد السيد أثر عظيم في نفوس أهالي دسوق ودمنهور، فأثار فيهم شيئا من الغيرة مما دفعهم إلى الاحتفال بمولد وليهم (سيدي إبراهيم الدسوقي)، على غرار ما فعل أهل طنطا. وبهذه الطريقة انتشرت الموالد من مكان لآخر حتى عمت مصر كلها وخاصة القاهرة.

وتعتبر القاهرة أسعد مدن مصر، بل أسعد مدن العالم الإسلامي أجمع نظرا لكثرة ما تضمه من رفات الأشراف والأولياء من نسل النبي (صلعم) وغيرهم؛ فالقاهرة في ذلك لا يضارعها حتى مكة نفسها؛ ففيها يوجد رأس الحسين وراس ابنه زين العابدين ورفات فاطمة وسكينة ابنتي الحسين أيضاً، ورفات السيدة زينب شقيقته، وجثمان السيدة فاطمة النبوية وأختها عائشة بنتي الإمام السادس جعفر الصادق، ورفات السيدة نفيسة حفيدة الإمام الحسن (وقد أمضت السيدة نفيسة ستة أعوام في القاهرة قبل أن تنتقل إلى الرفيق الأعلى)؛ كما يوجد بها أيضاً قبر سيدتنا رقية وسيدي هارون، والشيخ عبد الله الحجر من نسل الحسين، وغير هؤلاء كثيرون من نسل النبي (ص). ولقد كان للفاطميين (اللذين حكموا مصر من القرن السابع الهجري إلى القرن السادس) اليد الطولي في العناية بمقابر آل البيت ومخلفاتهم بعد أن أسسوا القاهرة وجعلوها عاصمة ملكهم، وبذلك صار للقاهرة مكانة ممتازة في العالم الإسلامي كله. ويحتفل المسلمون في مصر اليوم بأعياد كل هؤلاء الأشراف وغيرهم لتمجيد ذكراهم واكتساب رضوانهم وشفاعتهم في الآخرة.

فالدافع الأول إذن على الاحتفال بالموالد كان في الأصل دافعا دينيا بحتا الغرض منه تمجيد ذكرى أولياء الله الصالحين، ولكن لم تلبث أن داخلتها بعض المظاهر الدنيوية، وشابتها بعض عناصر اللهو والتسلية، وأخذت تتغلغل فيها شيئا فشيئا حتى أصبحت الموالد احتفالات شعبية أكثر منها دينية، وأخذ الشعب كله يشارك فيها على اختلاف طوائفه الدينية، فيشترك الآن بالاحتفال بالموالد الإسلامية كثير من غير المسلمين من أقباط مصر ويهودها بل ومن الأجانب أيضاً؛ كما أصبح المسلمون يشتركون مع المسيحيين في أعيادهم (وموالدهم) مثل عيد القديسة تيريزا في شبرا، وعيد الشهيد مارجرجس وغيرهما. ولاشك أن هذه الظاهرة الجميلة ترجع إلى ما عرف بين المصريين من روح التسامح وعدم التعصب الديني وروح الصداقة التي يحسونها نحو النصارى كما أمرهم القرآن الكريم.

- 3 -

من أصعب الأمور على المرء أن يحاول تحديد مواعيد الاحتفال بالموالد في مصر تحديدا دقيقا؛ وتزيد هذه الصعوبة بالنسبة للأجنبي عن البلاد الذي لا يعرف أصول التقويم القمري الذي يسير عليه المسلمون. فالسنة القمرية تقل عن السنة الشمسية بأحد عشر يوما، والموالد الإسلامية تتبع التقويم القمري، وذلك يستدعي وجود تغير كل عام في موعد الاحتفال بالنظر إلى التقويم الشمسي. واتباع التقويم القمري يحدث أحيانا شيئا غير قليل من الالتباس على الأجانب على الخصوص. ومن ألطف ما حدث في هذا الصدد أن الجرائد طلعت على الناس (في عام 1939) بأن مصالح الحكومة ودواوينها سوف تعطل يوم الثلاثاء 12 ربيع الأول الموافق 2 مايو بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي؛ وفي اليوم المذكور توجهت جماعات كبيرة من نزلاء مصر من الأجانب للاشتراك في الاحتفال ولمشاهدة (الزفة) ولكنهم لم يجدوا شيئا، لأن (الزفة) كانت قد تمت في مساء اليوم السابق (الاثنين 11 ربيع)؛ وأخيرا عرفوا أن المسلمين يعتبرون الليل - وليس النهار - هو بداية اليوم الجديد؛ فمساء يوم 11 ربيع يعني يوم 12 ربيع!

وتواريخ الموالد ذاتها تواريخ فضفاضة متذبذبة وعرضة للمد والجزر بشكل غريب بحيث يكاد يستحيل على الإنسان أن يضع تاريخيا صحيحا ثابتا لأحد الموالد؛ بل إن شيخ الجامع نفسه لا يستطيع أن يحدد التاريخ بالضبط. وهو أن ذلك يرجع - كما يظن ماكفرسون - إلى عدم التثبت من يوم ميلاد الولي مما يدعو الناس إلى اختيار أي يوم كان. بل إن ذلك اليوم الذي يختارونه اعتباطا يخضع هو أيضاً للتغيير إذا طرأ طارئ مثل موت أحد كبار المحسنين أو عدم جمع المال الكافي لإقامة الحفلات والزينات وغير ذلك من الأسباب التافهة. ويذكر ماكفرسون إنه في عام 1938 منعت الحكومة الاحتفال بمولد الشيخ مظلوم لأن يوم الاحتفال كان يوافق ذكرى المغفور له الملك فؤاد. ويقص الناس حكاية عن أن الشيخ مظلوم استاء من فعل الحكومة أبلغ الاستياء فتراءى في المنام لبعض ولاة الأمور وهددهم بالويل والمصائب إن لم يحتفلوا بمولده كما جرت العادة؛ وقد كان للشيخ ما أراد!

إلا أن بعض الموالد تتبع الآن التقويم الشمسي أو التقويم القبطي دون التقويم القمري؛ ومن هذه الموالد مولد السيد البدوي نفسه إذ يقام في شهر بابه دائما (أكتوبر) ومولد سيدي إبراهيم الدسوقي، وسيدي البيومي، وسيدي الامبابي وغيرهم؛ ومع ذلك فأن هذه التواريخ ذاتها تتعرض للتغير كل بضع سنوات، ذلك لأنه لما كان التقويم القمري يفترق عن التقويم الشمسي بأحد عشر يوما في كل عام، فإنه يحدث أن يأتي عام يصادف وقوع الاحتفال فيه بالمولد وجود شهر رمضان؛ وفي شهر رمضان لا يحتفل المسلمون بأي مولد من الموالد، وبذلك لا يكون ثمة مندوحة عن تغيير تاريخ المولد! - أما موالد المسيحيين في مصر فلعلها أكثر ثباتا من موالد المسلمين لأنها تنبع دائما التقويم القبطي؛ فمولد مارجرجس يحتفل به دائما في برمودة (أبريل) عند الكاثوليك، وفي بشنس (مايو) عند الأرثوذكس؛ ومولد ستنا دميانة يحتفل به دائما في بشنس، ومولد ستنا مريم في مسرى (أغسطس) ومولد سيدي برسوم العريان يحتفل به في توت (سبتمبر) وهكذا.

ولكن الموالد الإسلامية مع تعرضها لتغير تاريخ الاحتفال بها، تنم دائما في يوم معين بذاته من أيام الأسبوع دون أن تحيد عنه قط. فمولد السيدة فاطمة النبوية مثلا يتم دائما في يوم الاثنين (وفي العادة يكون يوم الاثنين الأخير من ربيع الأول)، ومولدا السيدة فاطمة النبوية بنت جعفر الصادق يقام دائما يوم الثلاثاء (أي يوم ثلاثاء من شعبان) وكذلك يحتفل بمولد سيدنا الحسين يوم الثلاثاء دائما (آخر يوم ثلاثاء من ربيع الآخر في العادة) ويقام مولد السيدة زينب في يوم الثلاثاء أيضاً (أقرب ثلاثاء من منتصف رجب) وهكذا. فليس هناك إذن أي تغير أو اختلاف في يوم المولد ذاته على الرغم من تغير التاريخ.

(يتبع)

أحمد أبو زيد