مجلة الرسالة/العدد 631/لا يا معالي الوزير. . .
مجلة الرسالة/العدد 631/لا يا معالي الوزير. . .
لقد أخطئك التوفيق!
للأستاذ سيد قطب
في جلسة مجلس النواب التي نظرت فيها ميزانية وزارة الشئون الاجتماعية وقف النائب المحترم عبد الفتاح عزام ليقول:
(إننا في حاجة إلى حماية أخلاق أبنائنا وبناتنا مما تحمله إليهم الإذاعة في بيوتهم من عبارات جارحة من (يا حبيبي) و (يا روحي) ويجب أن نحذف اعتماد الإذاعة، ما لم تكف عن هذا الذي تذيعه ولا نستطيع حماية بيوتنا منه. . .)
ووقف معالي وزير الشئون الاجتماعية ليقول:
(إن في كلام حضرة النائب المحترم مبالغة، وإن هذا الذي يشكو منه له نظائره في بلاد العالم المتمدن. . .)
أما أنا فأكاد أجزم بأن معالي الوزير لا يستمع لكل ما تذيعه محطة الإذاعة، وإلا لكان رده على النائب المحترم غير هذا الرد. فما يستطيع إنسان سليم الفطرة أن يستمع لهذا الذي يذاع، ثم لا يدركه شعور الاشمئزاز، حتى ولو كان لا يقيم وزنا للأخلاق!
وأحب قبل كل شيء أن أقرر أن الأخلاق التي أعنيها ليست هي الأخلاق التقليدية التي يتحدث باسمها بعض الجامدين والتقليديين، والتي لا تتعدى ظواهر السلوك، وشكليات التقاليد. . . إنما أعني بالأخلاق ذلك الشعور الطبيعي السليم الذي ينفر من التخنث كما ينفر من الفحش، وهذا الشعور في أبسط صوره هو الذي يخدشه ما تذيعه محطة الإذاعة المصرية في أغلب الأحيان
والحب الإنساني الرفيع ليس عيباً، والتعبير عنه ليس عاراً. . ولكن الحب - كما يبدو في محطة الإذاعة - هو حب التخنث مرة، وحب التهتك مرة، وكلاهما ليس هو الحب الفطري السليم الذي يقوم بين الرجل والمرأة لتبنى عليه دعائم الحياة
ولعل أشنع بدعة تكثر منها المحطة في الأيام الأخيرة خاصة، هي الإذاعة من الصالات والإذاعة من الأشرطة السينمائية. وهو تصرف غير مفهوم، ما لم يكن القصد هو ملاحقة الناس في بيوتهم بما يقال في أوساط وأماكن يعف كل إنسان مهذب عن الذهاب إليها، ويعف بصفة خاصة أن يسمح لبناته وأهل بيته بمشاهدتها.
وكلنا نعرف رواد الصالات، ونعرف ما يجري داخل هذه الصالات. . . نعرف أن جماعة مهذبين يرتادون هذه الأماكن، وقد استعدوا للسهرة بالخمر كيما تنطلق في أجسادهم أقصى حيوانيتها، وكيما يستثير حيوانيتهم ما يشاهدونه من اللحم الرخيص في هذه الصالات. . . ثم هذا اللحم الرخيص يعرض في أضواء حمراء مهيجة على أوضاع لا يرضاها إلا (الرقيق الأبيض) الذي يقتات من هذه الموائد القذرة. . . ثم يهيج السعار الحيواني. . . يهيجه النور الأحمر، والرقص الخليع، والكلمات المكشوفة، والحركات الداعرة، والنبرات المتخلعة، ويهيجه السكر المسرف، والدم المتنزي في أجسام جائعة. . . فينطلق ذلك كله في جو معربد صاخب داعر تشمئز له الفطرة السليمة
. . . ثم تأتي محطة الإذاعة - الإذاعة الحكومية - فتنقل ذلك كله إلى البيوت الطاهرة. . . إلى الزوجات الفاضلات، وإلى العذارى، ونجب أن نقول للمحطة: (إنه لا يزال هناك عذارى ولو قليلات. . .!) وإلى الصبية والأطفال والمراهقين، وإلى جميع أولئك الذين عفوا عن مشاهدة هذا الفحش الداعر في مكانه، فانتقل إليهم في بيوتهم، وتسور الجدران عليهم، لا لذنب جنوه إلا انهم يقتنون جهازا للاستقبال، وأن محطة الإذاعة الحكومية تريد لهم هذا الفحش الذي يفرون منه، فيلاحقهم إلى البيوت!
فأما الأشرطة السينمائية، فلا نستطيع الحديث عنها، فأصحابها يملكون من السلطة في الدوائر الرسمية ما يسمح لهم بأن يخرجوا لنا ألسنتهم إذا نحن حاولنا مقاومة الفساد النفسي والخلقي الذي يبثونه فيها، من ذلك الغزل المخنث يتطرى به رجل رقيع في أغانيه، أو ذلك الفحش الواطئ تتخلع به امرأة هلوك في نبراتها. . . ثم يدعون ذلك حبا. . .!
وإنه لحب، ولكنه ليس حب الرجل السليم الفطرة للمرأة السليمة الطبع. . . هو حب المخنثين والسواقط من الرجال والنساء. ذلك الحب الذي تعرفه المواخير ولا تعرفه البيوت، بل لا تعرفه الشوارع ذات الهواء الطلق. فما يتم حب من هذا الذي تعرضه الأفلام في الهواء الطلق. . . إنما يتم في جو راكد حبيس يغشيه دخان النرجيلة، وسرحان الأفيون في ماخور. . .
ومع هذا كله، فنحن لا نطمع في أن تراقب هذه الأشرطة قبل إخراجها، ليحذف منها ما يخدش الطبع السليم، حتى لا نصور الحب - وهو عامل البناء والخلق في هذه الحياة - تلك الصورة المريضة المتخاذلة الرخوة الرقيعة. . .
لا نطمع في هذا لأننا نعرف مدى نفوذ أصحاب هذه الأشرطة في الدوائر الرسمية وغير الرسمية! ولكننا نطمع على الأقل في أن تصان أسماع البقية القليلة الباقية في البيوت من العذارى والسيدات عن أن تلوث وتخدش بالأغاني المائعة الهابطة الداعرة المخنثة، يتطرى بها رجل رقيع، أو تتخلع بها امرأة هلوك. . . وذلك أبسط مظاهر الحماية لمن يعفون عن مشاهدة هذه الأفلام واستماع هذه الأغاني، فإذا بها تتسور عليهم الجدران خليعة ماجنة مخنثة، في حين لا يملكون لأنفسهم منها حماية، لأنهم إن أغلقوا جهازهم الخاص حملتها إليهم أجهزة الجيران!!
وكل ما يحتج به مروجو هذا (الأفيون) الخطر الذي يقتل في الشعب كل شعور فطري سليم، ويحيله جماعة من مخنثي الشبان، ومبتذلات الفتيات، وداعرات النساء. . . كل ما يحتج به تجار هذه (المخدرات) أن الشعب يقبل عليها، فهي إذن تلبي رغباته الحقيقية
الشعب يقبل عليها. . . هذا صحيح، لأن الحيوان الهائج كامن في كل إنسان، فإذا نحن ظللنا دائما نهيج سعار هذا الحيوان، ولم نحاول مرة أن ترتفع به إلى مستوى الآدميين، فلابد أن يأتي اليوم الذي لا يبدو فيه إلا هذا السعار
والناس يقبلون على (الأفيون) وسائر المخدرات، ولكن السلطات تكافح الأفيون وسائر المخدرات. . . ذلك أن هناك رجلا إنسانا في حكمدارية القاهرة قد آمن بفكرة المكافحة وأصبحت جزءا من دمه - (وهو أجنبي، وأنا لا أستريح لبقاء الأجانب في وظائفنا الكبرى. . . ولكن الحق حق)!
فهل يتاح لمصر من أبنائها رجل يؤمن بخطر مثل هذه الأفلام والأغاني التي تأكل نفوس الشعب أكلا، وتفسد فطرته الإنسانية، بل تفسد فطرته الحيوانية، حين تصور له الحب في ذلك المظهر المترهل الذميم؟
هل يتاح لمصر ذلك الرجل الذي لا تخدعه كلمات (العالم المتمدن) عن الشعور الفطري السليم، والذي يرصد لمكافحة هذا (الأفيون) الخطر جهده وقواه؟
على أية حال هذه أمنية لا نخدع أنفسنا بتحقيقها، ولكننا نقنع فقط بأن نطلب لأنفسنا الحماية من محطة الإذاعة الحكومية على النحو الذي اقترحه النائب المحترم، أو على نحو سواه
وهذا الذي نطلبه هو أضعف الإيمان!
سيد قطب