مجلة الرسالة/العدد 631/الاستعمار الفرنسي في الجزائر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 631/الاستعمار الفرنسي في الجزائر

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 08 - 1945



للأستاذ حسن أحمد الخطيب

الأمة الفرنسية - منذ ثورتها الكبرى قبيل نهاية القرن الثامن عشر - تدعي أنها الحفيظة على الحرية البشرية، وواضعة الحقوق الإنسانية؛ بذلت في سبيلها أغلى المهج والأرواح وسطرتها بدماء أبنائها الأحرار، وأعلنتها دينا ومذهبا في فرنسا، وبشرت بها في سائر الأمم الغربية وغيرها، وزعمت أن غراس الحرية نبت في بلادها، ثم زكا وترعرع، حتى استوى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، فيقطف منها الناس جميعا داني الثمر وطيب الجني

ولقد غلت في حبها وأفرطت في تقديسها، حتى اتخذها مفكروها محوراً لتفكيرهم ومصدراً لوحيهم وإلهامهم، وتغنى الخطباء والكتاب والشعراء بالحرية والإخاء والمساواة شعار الثورة ودثارها، ودين فرنسا الجديد وإنجيلها!!

فهل كان ذلك حقا؟ هل كان ذلك ناجما عن خليقة مستعدة للخير وطلب الكمال، أو نخيزة تحفز لرعاية الفضائل، أو قلب مؤمن بأسمى المبادئ، أو عقيدة دفعت المصلحين إلى نقض بناء الظلم وتقويض دعائم الجور والثورة على القاسطين، وتطهير الأرض من الظالمين؟؟

نقول - والأسف يملأ جوانحنا - إن موقدي الثورة وحاملي بنودها والداعين إلى مبادئها، لم يكونوا مؤمنين بها، فلم تخالط بشاشتها قلوبهم، ولم تمتزج بها نفوسهم، إنما هي شقشقة هدرت ثم قرت، وصيحة دوت في الجو برهة ثم لم تنشب أن ذهبت أدراج الرياح، ولم يلبث كبراء فرنسا وحكامها أن عادوا إلى سابق عهدهم، وثابوا إلى ما كانوا عليه من استبداد ظالم، وغشمرية يختفي فيها الحق ويضيع فيها الضعفاء، ورجع الأقوياء فيها أشد صيالا، وأقوى طماحاً، وإلا فما بال الفرنسيين رضوا بنقض عهد الثورة وميثاقها في أنفسهم، وفي أبناء البلاد التي وقعت في حبائلهم، فأذاقوهم عذاب الهون، وصبوا عليهم صواعق غضبهم وهم ما اجترحوا سيئة، ولا ارتكبوا أمراً إداً

ومن هم أولئك الذين يسامون هذا الخسف ويعانون هذا الظلم من مصادرة للحرية، وإنكار للحقوق الشرعية، وهدم لاستقلال البلاد، وإضاعة لمعالم العدل والمساواة؟

هم عرب المغرب ومسلموها في الجزائر وغيرها. هم أنسال أولئك الأمجاد الذين وطنو بهذه البلاد وبالأندلس منذ آماد طويلة، فنشروا فيها مبادئ العدل والحرية، والمساواة والتسامح، وحملوا لواء العلم والعرفان، وأرسخوا فيها دعائم المدنية وأركان الحضارة

هم سلالة أولئك الهداة والرائدين من عرب المغرب والأندلس الذين علموا أبناء فرنسا وغيرهم من أمم أوربا، وأيقظوهم من سباتهم العميق، وأخرجوهم من ظلمات الجهل والجور إلى نور العلم وضياء الحرية يوم أن كانوا يهيمون على وجوههم يتخبطون في دياجير الجهل، ويرزحون تحت آصار الجنف والاستبداد

لقد شهد المنصفون من علماء أوربا ومؤرخيها بعدل العرب وإحسانهم، ورحمتهم وتسامحهم، حتى قال جوستاف لوبون: (ما رأيت فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب)، كما اعترفوا بأن نهضة أوربة إنما نبعت من معين العرب، وشيدت بطلبة البعوث العلمية الذين ارتووا من مناهل علومهم ومعارفهم في طليطلة وقرطبة واشبيلية وغرناطة ومراكش وصقلية وغيرها. كذلك اقتبسوا من محاسن عاداتهم وقوانينهم، وانتفعوا بما شاهدوه من زراعتهم وصناعاتهم، وتنافسوا في ذلك تنافساً عجيباً، حتى انتشرت هذه المعارف والعلوم، وبزغت شمسها في أوربا، ولاسيما فرنسا وإيطاليا وجرمانيا وإنجلترا، وذلك في القرون الوسطى، فنقلوا عنهم الفلسفة والهيئة والطبيعيات والبصريات والرياضة والكيمياء والطب والصيدلة والزراعة، وتعلموا منهم الفروسية، وأخذوا عنهم عمل الورق والبارود، ونسج كثير من المنسوجات وكثيراً من الحبوب والأشجار

جاء في صحيفة مدرسة أدنبرة:

(إنا لمدينون للعرب كثيراً، فإنهم الحلقة التي وصلت مدنية أوربا قديماً بمدنيتها حديثاً، وبنجاحهم وسمو همتهم تحرك أهل أوربا إلى إحراز المعارف، واستفاقوا من نومهم العميق في الإعصار المظلمة، ونحن مدينون لهم بترقية العلوم الطبيعية والفنون النافعة وكثير من المصنوعات التي نفعت أوربا كثيراً علماً وتمديناً)

وقال المؤرخ الفرنسي لافاليه في وصف مدنية العرب والمسلمين:

(إنهم في جميع الفنون فاقوا المسيحيين، وبلغوا الدرجة القصوى في الحضارة، حينما كان أقرانهم من الأوربيين هائمين في أدوية الجهالة والوحشية، فكانوا فوقهم في العلم ومثلهم في البأس، وكانوا حكماء في المجالس أشداء في المآزق) فكيف يجوز لفرنسا أن تعامل في القرن العشرين أمة ماضيها المجيد حافل بالمكرمات والمآثر معاملة العبيد الأرقاء، وقد كان أسلافها بالأمس معلميها ومعلمي سائر الأمم، كما كانوا ناشري لواء الحرية والعلم في أوربا وسائر أنحاء الدنيا؟ وكيف سمح لها ضميرها الحي ووجدانها اليقظ أن تنكل بالجزائر في شهر مايو الماضي فتضرب أبناءها ومدنها وقراها بمدافع الطائرات، وتصب عليها من سفنها الحربية وابلا من النيران وحمما من سعير الجحيم، وتسوق الأحرار من بنيها إلى المحاكم فتحكم عليهم بالفناء والموت الزؤام!

ماذا صنع أولئك المساكين؟ وماذا نقم منهم الفرنسيون؟ لم ينقموا منهم إلا أنهم آمنوا بحقوقهم وشعروا بالظلم الفادح ينقض ظهورهم ويثقل كواهلهم، فرغبوا في حريتهم وفي حياة الكرامة والاستقلال، وأبوا حياة الضيم والهوان. . .

يا فرنسا: خفضي من غلوائك، واذكري ما كنت فيه بالأمس القريب يوم الاحتلال الألماني، واعلمي أن في بلاد المغرب بسلاء لا ينامون على ضيم، قد انحدروا من سلالة شرف ومجادة، وجرت في عروقهم دماء سلافهم الأولين الذين جاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الحق وتوفير العزة للمؤمنين

يستعذبون مناياهم كأنهمُ ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا

لا جرم إنه من الخير لفرنسا أن تنظر في سياستها الاستعمارية القديمة فتتنكب سبيلها، وترد إلى تلك الشعوب حقوقها، فبذلك وحده تبقى السلم، ويعم العالم الأمن، وإلا فبواعث الحرب قائمة، ونذرها ماثلة، ولن تكف الشعوب المهتضمة عن المطالبة بحقوقها، ولن تني في الجهاد والاستشهاد في سبيل حريتها

إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم

فطعم الموت في شيء حقير ... كطعم الموت في شيء عظيم

حسن أحمد الخطيب

المفتش العام بوزارة المعارف