مجلة الرسالة/العدد 630/محالفة ثلاثية ضد العالم
مجلة الرسالة/العدد 630/محالفة ثلاثية ضد العالم
للأستاذ نقولا الحداد
بعد أول اجتماع بين تشرشل وروزفلت ألقى تشرشل خطبة في مجلس العموم، قال فيها إنهما اتفقا على أن يكون في العالم هيئتان دوليتان كبريان تحلان محل جامعة الأمم المرحومة: الأولى غربية لجميع دول أوربا وأمريكا. والثانية شرقية على مثالها. والهيئة الأولى تؤلف من روسيا وإنجلترا والولايات المتحدة كدول أساسية، ثم تنضم إليها الدول الأخرى تابعة أو ثانوية لها. ولم يقل شيئا عن الشرقية.
ووافق ستالين على هذا.
ومن ثم نشأت عبارة (الأقطاب الثلاثة) فقلنا حينئذ إن هذا النظام هو تحالف ثلاثة ضد العالم كله لأنه فهم من نحو تلك الخطبة أن الكلمة النافذة في تلك الهيئة الغربية هي لهذه الدول الثلاث وأن للدول الصغرى رأياً استشارياً فقط. فما تقرره دول الأقطاب ينفذ.
ولما صدر ميثاق سان فرانسيسكو الأخير وفيه دستور (مجلس الأمن) ظهر أيضاً أن الرأي الأول الأعلى هو لهؤلاء الدول الثلاث. وأما سائر دول الاتحاد الدولي وعددها 48 دولة فتعتبر ثانوية ورأيها ثانويا. وقد أضيف إلى الدول الثلاث الرسمية فرنسا والصين. وبهذه الإضافة سقط مشروع (الهيئة الدولية الشرقية) التي نوه بها تشرشل في خطبته المشار إليها. وكان يظن أن الصين تكون رئيسة هذه الهيئة الشرقية.
وقد ألحقت الصين وفرنسا بهذا المجلس كدولتين دائمتين كدول الأقطاب الثلاثة لا لأنهما دولتان كبريان فلابد من أن يحسب حسابهما إذا اختلفت دولات الأقطاب فتعدلان الميزان - ليس لهذا السبب فقط، بل لأن فرنسا المخلفة التي قومتها إنجلترا على قدميها، وهي على أنف ألمانيا من جهة الغرب، لازمة لكل من الدولتين روسيا وإنجلترا اللتين تخشيان مناوءة ألمانيا لهما إذ استطاعت أن تعود إلى المناوءة. ولهذا تجاذبتها روسيا من ناحية وإنجلترا من ناحية أخرى كل منهما تخطب ودها. فغريب أن قوتين تتنافسان في الالتجاء إلى ضعيفة. فمن حسنات الخلاف القائم الآن بين الأقطاب أو من مساوئه أن الضعيفة استقوت وتدللت وعادت تشمخ بعد أن تمرغ أنفها في حمأة الذل والهوان.
وأما الصين فتجاذبتها دول الأقطار جميعاً لأنها المرعى الخصيب للاستعمار التجاري فلاب من التملق لها. على أن النفوذ الأول والأخر لدول الأقطاب الثلاثة أولاً وآخراً.
وكان من مناقضات الديمقراطية أو مفارقاتها في (مجلس الأمن الدولي) السانفرسيكي أن المجلس يرفض أية شكوى من أية دولة صغيرة أو ثانوية ضد دولة كبرى رئيسية إذا كانت واحدة من الدول القطبية ترفضها - هذا بحسب دستور المجلس المذكور.
وقيل إن سبب هذا الرفض المخالف للعدل والحق والديمقراطية أن الدولة الرافضة قد تطلب النزال إلى الميدان. فتحاشيا للجنوح إلى الحرب سنّ هذا القانون الغريب العجيب. وهو موافقة الدول الكبرى للدولة الرافضة على الرفض حتما.
إذاً لا ينظر مجلس الأمن في شكوى دولة صغيرة من دولة كبرى بل ينظر فقط في شكوى صغيرة من صغيرة. والدولة الكبرى فوق القانون أو في حصانة القانون.
إذن فمجلس الأمن هذا هو مجلس تحكم الأقوياء بالضعفاء. هو محالفة ثلاثية قوية ضد جماعة من الدول الصغرى. ولا يؤمن ظلم هذا المجلس إلا إذا وقع خلاف شديد بين الأقطاب الثلاثة أو الأقطاب الخمسة. فأين الأمن الذي ينتمي له هذا المجلس القطبي العظيم؟ وكيف يطمئن العالم إلى أمن دولي يترنح بخيطٍ واهٍ في الهواء؟
إذا كان لمجلس الأمن شأن في فض مشاكل الدول فما معنى أن يجتمع الأقطاب الثلاثة الآن لكي يفضوا مشاكل الأمم الشرقية: طنجة، والدردنيل، وأردهان، والبلقان، وسوريا، ولبنان، وفلسطين الخ فضلا عن مشاكل أوربا نفسها؟ إذن ما هي وظيفة (مجلس الأمن) الذي يحسبونه أعظم نتاج لمؤتمر سان فرانسيسكو إذا لم يكن من شأنه أن ينظر في هذه المشاكل؟
نرى أن مصالح العالم كله أصبحت رهن قرارات مؤتمر الأقطاب الثلاثة، ومن يدري أن هذا المؤتمر الثلاثي لا يعقد كل حين بعد آخر لتسوية مشاكل الأمم ما دام أعضاؤه متفقين. فيكون أمره الأمر.
لسنا والله على أمل ورجاء في الأمل والسلام إذا كان الأقطاب يضطرون أن يجتمعوا لكي يدبروا أمور الأمم حسبما يروق لهم وحسبما تقتضيه مصالحهم من غير اعتبار للعدل والحق. وقد صدر قانون مجلس الأمن باستهلال نذير بأنه ليس إلا ألعوبة سخرية أو مهزلة تمثيلية لأنه في ساعة ما كانت فرنسا توقع على ميثاق الأمن والسلام كانت تغدر بسوريا وتنكل وتفظع فيها بلا حياء ولا خجل وهي عزلاء. فإذا كانت فاتحة نظام الأمن هكذا فأي مهزلة أقبح من هذه المهزلة! وما قيمة هذا الميثاق إذا كان أحد أركانه وقطب من أقطابه يفتتح العمل به، بهذا التمثيل والتفظيع.
وإذا كان مجلس الأمن يؤلف من خمسة أعضاء دائمين وستة ينتخبون بالتناوب، وإذ كان فصل الخطاب للدائمين والطاعة العمياء للستة المتجددين، فأين الديمقراطية وأي قضاء هذا؟ وكيف يكون عادلا؟ هل قضاته ملائكة في السماء لا مطامع لهم على الأرض؟
وما معنى أن يقتصر مؤتمر الأقطاب على الثلاثة فقط ولا يشمل الأقطاب الخمسة جميعاً؟ هل العضوان الآخران (طرطوران)؟
لم نخطئ في قولنا أن مصالح العالم كله أصبحت في أيدي ثلاثة رجال فقط وهو أمر من أغرب أمور التاريخ الجديد.
ترانا أمام هيئات:
1 - الأقطاب الثلاثة
2 - الأقطاب الخمسة
3 - مجلس الأمن ذي الأقطاب الأحد عشر.
4 - جمعية الدول العمومية ذات الـ51 عضواً.
فبأي هذه الهيئات يتعلق مصير الأمم الصغرى يا ترى؟ وأيها أحق بفض مشاكل الأمم وأصلح لها؟
نرى أننا في فوضى من الأنظمة الدولية المتضاربة المتعاكسة المنذرة دائماً بالاضطراب العالمي. الأمن في يدها تحت خطر.
أضف إلى ذلك خوف العالم من عقبى اختلاف الأقطاب. وهو شر نذير بالخطر المخيف. فإذا اختلفوا يحتدم الخطر ويقع القضاء والقدر. اللهم أنقذنا من أقتداح الشرر، حسبنا ما كان وما غبر.
نقولا الحداد