مجلة الرسالة/العدد 630/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 630/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 07 - 1945



ابن. . .

للأستاذ لبيب السعيد

كان ذلك في مطالع شبابي غب تخرجي في مدرسة التجارة، حين آثر أبي أن ينشئ لي متجراً، وكان هو وجدي وقتئذ يرعيان تجارتي الناشئة، ويقضيان معي الساعات، يوجهان العمال، ويشاركان في استقبال الحرفاء، وينيران لي في كل مناسبة طريقي الجديدة. وكنت يومئذ شديد الرغبة في النجاح، فكنت أستدفع الضجر، وأطامن من اعتزازي بآرائي، وأتقبل توجيهات أبي وجدي راجياً أن أتنور على هديهما مقصدي

وكان أبي لا ينفك يوصيني بألا أبيع بالنسيئة أبدا، ويقول لي: يا بني! خير لك أن تبقي بضاعتك أمام عينك من أن تعطيها الناس ثم تظل في انتظار ثمنها يدفع أو لا يدفع. وكنت أعرف ما جرته النسيئة على أبي من متاعب، فبدا لي أن أتخذ وصاته مبدأ أساسها لمتجري لا أنحرف عنه

ووقفت عصر يوم بجانب مكتبي النصف دائري، وأنا جذلان بنظام محلي ووفرة محتوياته وببشائر النجاح بادية في إقبال الحرفاء ورضاهم. . . وقفت أقبض أثمان المبيعات، وأوجه للعمال أمرا بعد أمر، وأنطلق بين لحظة وأخرى مع مرسلات الأماني. وفيما أنا كذلك، إذ أقبل عليَّ شيخ حطمه الشلل يتحامل على عصا غليظة، وعليه ملابس بلدية موشكة على البلى وإن تكن فاخرة الصنف، وفي صحبته طفل في نحو الخامسة يلبس جلباباً قصيراً خفيفاً، ويحمل وجهه سمات حزن لا يكون في أمثاله

وقال الشيخ في لهجة عزيزة ومنكسرة معاً: (أعطني يا بني عشر أقات دقيقاً)، فهتفت حالاً بالعامل القريب: (زِنْ لحضرته ما يطلب وخذ منه ثلاثين قرشاً)؛ وأجاب الرجل وهو يتكلف الابتسام: (بل يزن المطلوب ويكتب عليَّ ثمنه)، فما أسرع ما اندفعت قائلا في تصميم قاطع: (مستحيل هذا)؛ وابتسم الرجل ابتسامة واهنة، وقال وهو يتلفت كأنه يتحرى ألا يسمعه أحد: (بل ليس مستحيلا، ولا تمنع عمك أحمد الناجي ما يطلب، لا ضامتك الأيام)، ولكني نظرت إليه نظرة لا رفق فيها، وقلت كأني استعجله مغادرة المتجر: (مستحيل جداً يا عمي، وبالله دعنا في شغلنا) ونظر الشيخ إليَّ ثم إلى طفله نظرات المغضب المغلوب المتحسر فكدت لفرط ما تأثرت بهذه النظرات أستجيب لطلبته لولا أن ذكرت أن الأمر أمر مبدأ، وإني إن بذرت اليوم للنسيئة حبة فسأبذر غيرها غداً، وإذن فسأجني الثمرة المرة التي جناها أبي، والتي حذرني منها تحذيرا. واستدار الرجل في صعوبة وهو يتكئ ببدنه كله على عصاه، وجر رجليه جرا إلى الطريق ومعه طفله الذي كان يحكي هزاله وحقارة ملبسه حكاية البؤس مؤثرة وجيعة

ونزل جدي في هذا الوقت من عربته يصلح وضع مُطرَفه، ويلقي السلام على جيران المحل، وما بصر الشيخ حتى وقف يصافحه بحرارة مبادلا إياه تحيات أيدتهما لي كشقيقين على صفاء ومحبة، وأسرعت فقدمت لجدي كرسياً، ولكنه قدمه إلى الشيخ في اهتمام وهو يقول: (أيها الأخ! إني سائل عنك، قلبي معك) ونادى صبياً يعمل في المتجر أن يحضر قهوة للشيخ. وإذ رأيت عواطف جدي نحو الشيخ تولاني خجل شديد لما فعلت معه، ولكن تولاني أيضاً خوف من أن أورط في هذه العشر الأقات

وتحدث جدي مع الشيخ لحظات في صوت خفيض، فما لبث جدي إن صاح بي في لهجة ناهرة: (أهكذا يا محمد تفعل مع الشيخ؟! زِنْ له عشرين أقة) وصدعت بالأمر كارهاً!

أمر جدي أحد العمال بنقل الدقيق إلى بيت الشيخ الذي علا البشر صفحته، والذي قال وهو قائم يخطو إلى الشارع: (أكتب عندك ستين قرشا على أحمد الناجي)؛ وانطلق متحاملا على نفسه وأنا أتبعه بنظراتي غضبان أسفاً لكسر مبدئي التجاري، وأهمس لعامل قريب معرضاً بجدي: (شيوخ طيبون، يصدقون كل شيء، ويدخل الاحتيال عليهم)

وقعد جدي يردد أدعية بالستر الجميل له ولذريته، ثم قال مسمعاً إياي والأسف ظاهر في وجهه: (إنها الدنيا! الشيخ أحمد الناجي تعوزه أقات من الدقيق! الشيخ الناجي الذي كان يتصدق القمح أرادب! قضاء الله! ضاعت أمواله الضخمة، وأصابه الكبر والشلل، وتخطف الموت امرأته وهو أحوج ما يكون إليها، وله كما رأيت طفل ضعيف تُعوزه التربية!)

وجعل جدي يحرك قبضة عصاه في شبه حركة عصبية، وهو يبدأ ويعيد في الحديث عن صديقه الشيخ مظهراً غضبه مني إذ لم أسارع إلى تنفيس ضائقته، ولم أقدم إليه من الاحترام ما هو كفاء منزلته وعراقته وجاءني أبي مساء، فحدثته بالذي كان، وكأنما كنت أريد أن أقول له: أنظر ماذا فعل أبوك! فكان يضحك للهجتي، ولكن وجهه كان ينم عن تأثره لمأساة الشيخ الناجي، ومضى يحكيها لي مفصلة وهو يحوقل ويسترجع، على أنه ما لبث أن قالها بينة صريحة: (ومع ذلك فلا تعط أحداً بعدها شيئا بالنسيئة)

ومرت أيام، فجاء الشيخ الناجي بوجه فيه الأسى، وكعهدي به اتخذ من عصاه رجلا بعد رجل، وتكلف لي ابتسامة جاءت خجلى منكمشة وقال: لا تضق بي يا بني، إن لي إليك رجاء يسيراً. . . أتأذن بقرش حلاوة لهذا الصغير؟ (مشيرا إلى ولده)

وعض الحزن على قلبي للطفل الشاخص ببصره إلى الحلاوة، واستحيت لكرامة جدي، فأسرعت بنفسي وقدمت إلى الطفل قطعة من الحلاوة، ثم التفت إلى الشيخ أسأله مجاملا: ثم ماذا؟ فأجاب: (لا شيء، جعلك الله من السعداء)

وجلس على كرسي وإمارات التعب الساغب عليه، واحتضن ولده في حنان وأسف وهو يقول له بنبرة حزينة: يا بني المسكين! تأكل مما يقترض أبوك؟!

وسمعت عاملين يتهامسان بما ينقض عوز الشيخ، وبأنه يقول ما يقول ليسرق عطفي، ولينفي عني كل شك، فهمت نفسي بتصديقهما لولا أن ذكرت تفاصيل ما قصه علي أبي وجدي

ومضى الشيخ يجر جسمه وطفله. وانقضت أشهر وأنا لا أراه حتى كان يوم وردت فيه جنازة إلى المسجد القريب من المتجر ليصلى عليها. ووقف المشيعون ينتظرونها عن كثب من المحل؛ وقال قائل: يرحم الله الشيخ أحمد الناجي! وقال آخر: يا ما أحرز! فقال ثالث: ويا ما أضاع!

وسعى أمامي الركب الذي لا يعود صاحبه، وأنا أتمتم في غير اكتراث كبير: (الله يرحمه. . . ويعوض علي ما في ذمته!)

وغبرت سبع سنين ورد فيها جدي حياض المنون، ولم يفسح بعده لأبي في رحاب العمر، بل عاجله الأجل الصارم، وتحلبت على أموالنا أشداق الطامعين من الأقارب والأباعد، حتى ليخيل إلي أن لو كنا نؤكل ما عفوا ولا شبعوا.

وكنت رشيد أخوتي فألقيت على كتفي أثقال الأسرة. وكان أفدح هذه الأثقال أن أسترد ما لأبي وأقضي ما عليه. لقد كان أبي يكره أن يستدين أو يدين؛ ولكن التجارة أركبته برغمه هذا المركب واتصلت بالمدينين فهالني الأمر. هذا مُعِدمٌ يقول: كان بودي. . .؛ وهذا منكر يقول: أمامك المحاكم. . .؛ وهذا مخاتل كتب أملاكه لزوجه فراراً من العدل. فأما الموسر ذو التقوى فيريد أن يدفع المائة جنيه عشرين. فأما الدائنون، فقد حسروا لنا اللثام عن بطش وكيد فإنذاراتهم ما تنفد وعنتهم ما ينتهي.

ودخلت المحاكم فكم أموال أنا في حاجة إليها أخذتها مني، وكم قال لي المحامون: هات.

وادركني اليأس من طهارة الذمم، وروعني خراب الضمائر، وثقلت عليَ وطأة الحياة، وأصبحت لا أتبين في غمرات المظالم طريقاً

وقعدت يوماً في متجري أرسل فكري في ظلمات الأحداث المحدقة، وأنعى متوجعاً على المحيط الذي أنا فيه خلوه من رجل يستوحي الضمير ويقدر الشرف، وأدير عيني في مكان أبي وجدي فلا أراهما، وغشيني همَّ أذهلني عما حولي فترة، فما نبهني غير صوت غلام في نحو الثمانية عشرة يلبس جلباباً قذراً وطاقية رخيصة ويحمل علبة صفيح صدئة يقول لي وهو يمد يده إلي بالعلبة: يا عمي محمد! خذ حقك واحداً وستين قرشاً. قلت مستغرباً: أي حق يا بني؟ قال: حقك. . . ثمن الدقيق الذي اشتراه أبي أحمد الناجي، وثمن الحلاوة الطحينية التي أعطيتنيها.

وغمرتني الدهشة، فقد طوى النسيان مساحبه منذ سنين على أحمد الناجي. ولكني سرعان ما ذكرته. ذكرت لهجته، وذكرت فقره، وذكرت جدي وأبي وما قالا في شأنه وما فعلا، وذكرت الدقيق والحلاوة، وذكرت قوله لابنه وهو يحتضنه في حنان وأسف: يا بني المسكين. . . تأكل مما يقترض أبوك.

ذكرت هذا كله، وتفكرت فيما أرى من الغلام، فهزني هذا التصرف الكبير منه، وكأني أمام حادثة من خيال الشعراء، وقلت جاداً: خل هذا المبلغ لك يا بني؛ فأجاب في تمرد وقد اربد وجهه: أتريد أن يدخل أبي النار؟. . . لقد قال لي وهو في أشد التعب قبل أن تصرخ عمتي بأنه مات بوقت قصير، قال لي: يا علي! إذا أراد الله لك أن تشب وتجتاز السنين وتكسب شيئاً فلا تنس أن تسد ثمن الدقيق والحلاوة. وما دمت كبرت واشتغلت في مصنع السجاد بخمسة قروش في اليوم فلابد أن أقضي دين أبي ليدخل الجنة. . .

وأشرق وجه الغلام وهو يضع النقود على مكتبي في عزم وإصرار، وابتسم ثغره ثم مضى في قوة شامخة.

لبيب السعيد