مجلة الرسالة/العدد 63/تشجيع التأليف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 63/تشجيع التأليف

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1934


أذاعت الصحف نبأ هذه الهبات السخية التي أغدقتها وزارتا المعارف والأوقاف على الكبتن كرسويل المحاضر المنتدب بالجامعة المصرية في الآثار الإسلامية، وقد بلغ مجموع هذه الهبات بضعة آلاف جنيه، دفعت إليه معاونة له على إخراج مؤلف يضعه بالإنكليزية عن العمارة الإسلامية في مختلف العصور؛ وقد أخرج منه إلى الآن الجزء الأول من أربعة أجزاء، ويتعهد الأستاذ كرسويل مقابل هذا السخاء الحاتمي الذي شملته به الحكومة المصرية أن يسمح لوزارة المعارف بترجمة مؤلفه إلى العربية، وأن (يهدى إليها) خمسين نسخة من كتابه.

وتشجيع المباحث العلمية والتاريخية على هذا النحو أمر مستحب لذاته. ولنترك البحث فيما إذا كانت جهود الأستاذ كرسويل ومباحثه جديرة بمثل هذا التشجيع. ذلك أننا نحمد المبدأ لذاته ونؤيده بكل قوانا؛ بيد أنا نود أن نلاحظ أنه لم يسبق لوزارة المعارف أو وزارة الأوقاف أن أبدت مثل هذا العطف أو أسبغت مثل هذه الرعاية على أحد من المصريين الذين يشتغلون بهذه المباحث أو غيرها، مما يجدر تقديره وتشجيعه؛ ولم تضع وزارة المعارف أو الجامعة المصرية وغيرهما من الهيئات العلمية الرسمية لنفسها أي تقاليد في هذا الشأن بالنسبة للعلماء المصريين وإن كان من تقاليدها أن تشجع العلماء الأجانب لأي مناسبة.

ربما قيل في ذلك إن المباحث العلمية والتاريخية لم تبلغ في مصر مستواها المنشود من التقدم والنضوج، وأن جهود العلماء المصريين لم تظهر بعد بمظهر يجدر بالتقدير والتشجيع. ولكنا نبادر فنقول إن هذا الاعتراض لم يبق له محل بعد، وإنه يرجع إلى نوع من التحامل القديم الذي نألفه دائماً في حكومات يطبعها الأجنبي بوحيه وتأثيره، والذي يتخذ مظهره في انتقاص الجهود القومية والاغضاء عن تقديرها وتشجيعها حتى لا تنمو وتزدهر وتكون قوة معنوية في الأمة. ومن التحامل أن ننكر أنه يوجد بين العلماء والباحثين المصريين عدة ممن ينافسون الكبتن كرسويل ومن هم في مستواه من العلماء الأجانب، على الأقل في ميدان المباحث الإسلامية؛ وإنه إذا كانت جهودهم مغمورة غير ظاهرة، فذلك لأنهم يعملون في جو من العزلة واليأس، ولا يأنسون لدى حكومتنا أو لدى هيئاتنا العلمية أي عطف أو تشجيع. وإذا سلمنا جدلاً بأن علماءنا وباحثينا لم يبلغوا بعد من العلم والكفاية ما يبلغه أمثال صاحب كتاب العمارة الإسلامية، فانه ليس من الحكمة أو العدل أن يتركوا حيث هم؛ وأن تضن عليهم حكومتهم بالعطف والتشجيع؛ وإنما السبيل إلى شحذ هممهم ومواهبهم وإبراز جهودهم في المستوى اللائق، هو أن تشملهم حكومتهم بشيء من ذينك العطف والبذل اللذين تغدقهما على العلماء الأجانب. خذ مثلا مسألة المباحث الأثرية التي كانت إلى ما قبل أعوام فقط وقفاً على العلماء الأجانب. فقد لبث المصريون نحو قرن محرومين من التنقيب عن آثارهم في نفس بلادهم وأرضهم؛ وكانت البعثات الأجنبية والعلماء الأجانب. يستأثرون بهذه المباحث في أرضنا بفكرة أنهم دون غيرهم يستطيعون إجراءها. ومع أن معظم آثارنا الفرعونية قد تسربت إلى الخارج، وغصت بها المتاحف الأجنبية في مختلف أنحاء العالم، فأن حكومتنا لم تكن تضن عليهم بكل صنوف التشجيع المادي والمعنوي. فلما أن قررت الجامعة المصرية إجراء بعض الحفريات على يد بعض أساتذتها من المصريين، ولما بذل للمصريين ما كان يبذل لزملائهم الأجانب من العون والتشجيع، ظهرت كفاية المصريين ناصعة في الكشف عن آثار بلادهم واستقرائها، وظهر خطأ النظرية القديمة الجائرة التي كانت تنكر على المصريين كل كفاية لتقصيهم عما هو من صميم حقوقهم وميادينهم لكي يتسع المجال للأجانب.

لقد ظهرت في العهد الأخير طائفة قيمة من التآليف والمباحث الإسلامية، والآثار الأدبية الرفيعة، ولقيت كثيراً من التقدير بين العلماء الأجانب؛ فماذا كان نصيبها من التشجيع الرسمي في مصر؟ كل ما يطمح إليه المؤلف الذي أنفق كل ذكائه ووقته وماله على إخراج مؤلفه، هو أن تتفضل عليه وزارة المعارف بتقرير كتابه لمكتبات مدارسها وشراء بضع عشرات نسخ منه، وذلك بعد أن تفحصه لجنة فنية تقره وتوصي به، وهذا كل ما يعرفه المؤلفون المصريون من تشجيع وزارة المعارف، ولا يحظى بهذه المؤازرة الضئيلة سوى القليلين منهم. أما أن تشمل وزارة المعارف برعايتها مجهودا علميا أو أدبيا معينا قبل أن يتم إخراجه، وتبذل لصاحبه شيئا من العون المادي على نحو ما فعلت مع الكبتن كرسويل، الذي استطاع بمجرد الطلب أن يحمل ولاة الأمر على بذل هذه الآلاف المؤلفة له قبل أن يتم مؤلفه أو يخرج منه سوى الجزء الأول فقط، - فهذا أمر لم نسمع به قط، ولا نعتقد أنه تقرر بعد بالنسبة للمصريين في تقاليد وزارة المعارف.

على أننا نرجو أن يكون في الضجة التي أحدثها تصرف وزارة المعارف ووزارة الأوقاف في هذه المسألة، والأثر المؤلم الذي تركته في أذهان المصريين جميعا، ما يلفت نظر ولاة الأمر في وزارة المعارف وفي غيرها من الهيئات الحكومية المتصلة بالشئون العلمية والأدبية، إلى التفرقة الجائرة بين المصريين والأجانب في نفس الميدان الواحد، وإيثار الأجانب على المصريين بالعطف والتشجيع.

لا بأس أن تشجعوا العلماء الأجانب بأموال المصريين، وإن كان هذا التشجيع لا يصادف أهله في معظم الأحيان، ولكن الحكمة والعدالة وحسن الذوق تقضي كلها بأن يبذل للعلماء والكتاب المصريين من أموال المصريين أضعاف ما يبذل لزملائهم الأجانب حتى لا تبقى جهودهم ضحية الانتقاص والنسيان والنكران.

(ع)