مجلة الرسالة/العدد 63/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 63/العلوم
2 - التلفزة في عهدها الأول
للأستاذ محمود مختاربكلية العلوم
جهاز الاستقبال
تحدثت في رسالة سابقة عن جهاز الإرسال للتلفزة. والخطوات التي مرت بها صورة الجسم المتلفز من بدء تحليلها إلى مساحات صغيرة بواسطة القرص المثقب أو حلزون المرايا، ثم إسقاط الأشعة الضوئية المنعكسة من هذه المساحات الصغيرة على التعاقب على خلية كهرضوئية حيث تحولت إلى دفعات كهربائية، ثم تكبيرها فإذاعتها في الأثير.
والآن نحن عند جهاز الاستقبال حيث تصل إلينا هذه الدفعات الكهربائية بعد أن التقطها الهوائي وأرسلها إلى الكاشف اللاسلكي
وتأخذ عملية استقبال هذه الأمواج حتى إخراج الصورة النهائية ثلاث خطوات أيضاً هي بعينها ما يناظر خطوات الإرسال مأخوذة في ترتيب عكسي. فتبدأ أولى الخطوات بكشف هذه الأمواج وفصلها عن باقي الأمواج اللاسلكية المنتشرة في الأثير وتكبيرها. ثم تليها الخطوة الثانية وهي تحويلها من دفعات كهربائية إلى أخرى ضوئية. ثم تأتي الخطوة الثالثة وهي إعادة تركيب هذه الدفعات الضوئية بجوار بعضها لتخرج صورة الجسم المطلوبة.
أما خطوة الكشف والتكبير فهي كنظيرتها في جهاز الإرسال - خطوة التكبير والإذاعة - في المقام الثاني من الأهمية لباحث التلفزة. ويكفي لنا الآن أن نعلم أنها تتم بواسطة دائرة من الصمامات هي بنفسها دائرة أجهزة السمع العادية - ولا داعي للخوض في تركيبها وعملها في مثل هذه العجالة - وكما تؤخذ تلك الأمواج الكهربائية المكبرة في جهاز السمع إلى البوق لتحويلها إلى دفعات صوتية تؤخذ هذه بعد تكبيرها أيضاً إلى المصباح الغازي أو إلى خلية كر لتحويلها إلى دفعات ضوئية، وهذه ثانية خطوات الاستقبال.
والمصباح الغازي ولو أن لفظه ليس مطروقا إلا أنه كثيرا ما تقع عليه أبصارنا على واجهات المحلات التجارية الكبيرة في شكل أنابيب ضوئية كهربائية للإعلانات تأخذ ألوانا مختلفة أحمر أو بنفسجيا أو أزرق أو غيرها. هذه الأنابيب الضوئية ما هي إلا شكل تحور من المصابيح الغازية المستعملة في التلفزة لتحويل الطاقة الكهربائية إلى أخرى ضوئية. وهي عبارة عن انتفاخ زجاجي في حجم الصمام الكهربائي العادي يحوي بداخله غاز النيون أو الآرجون أو بخار الزئبق تحت ضغوط صغيرة جدا تقرب من بضعة مليمترات. وبه قطبان أحدهما الكاثود، ويكون القطب السالب للمصباح وهو عادة على شكل صفيحة رقيقة من النيكل. والثاني الأنود، ويكون القطب الموجب، ويكون عادة على شكل سلك حلزوني أو قضيب قصير يواجه صفيحة الكاثود. وعندما يوصل الأنود بالطرف الموجب لجهد كهربائي عال - حوالي 150 إلى 300 فولت - ويوصل الكاثود بالطرف السالب لهذا الجهد يتوهج المصباح بأحد هذه الألوان التي نراها في أنابيب الإعلانات تبعا لنوع الغاز الموجود به. وأفضل هذه الغازات هو بخار الزئبق إذ يعطي لوناً بنفسجياً فاتحاً. والسبب في هذا التوهج في المصباح هو انبعاث إلكترونات الكاثود - تحت تأثير فرق جهده عن الأنود - وسيرها بسرعة نحو الأنود، ومصادمتها في طريقها بذرات الغاز المنتشرة في المصباح التي تتذبذب سريعا تحت تأثير الصدمة فتتوهج. وربما عن لسائل أن يقول إننا كان يمكننا أن نحول الطاقة الكهربائية إلى أخرى ضوئية بطريقة المصباح المتوهج البسيط المستعمل في الاضاءة، فما هو إلا جهاز لتحويل طاقة كهربائية إلى أخرى ضوئية. والجواب على ذلك: إن عملية تحويل الطاقات في هذا المصباح نشأت من مرور تيار كهربائي في سلك المصباح ذي المقاومة الكبيرة الذي ترتفع درجة حرارته كلما اشتد التيار عليه حتى يحمى فيتوهج. وبمقارنة هذه النظرية في التوهج بنظرية المصباح الغازي السالفة الذكر نرى أنهما يختلفان تمام الاختلاف. ولكن لم فضلنا هذه على تلك؟ ذلك لأن المصباح الغازي يفوق المصباح المتوهج بحساسيته الشديدة للتغيرات الكهربائية، فلو أمر في كليهما تيار سريع التغير لظهرت إضاءة الأول متذبذبة تبعا لذبذبة التيار، على حين تظهر إضاءة الثاني منتظمة مستمرة، لا يلاحظ فيها أي ذبذبة أو تغير، وهذه طبعا ميزة لاستعمال المصباح المتوهج للإضاءة العادية. ولكنها ليست المطلوبة في التلفزة، بل المطلوب هو المصباح الأكثر حساسية للتغيرات حتى يمكنه أن يترجم ترجمة حرفية ما يصله من دفعات كهربائية سريعة التغير خارجة من جهاز الكشف والتكبير. ويوجد سبب آخر لتفضيل المصابيح الغازية، وهو أن الطاقة الضوئية المنبعثة منها تتناسب تناسبا طردياً مع الطاقة الكهربائية الداخلة إليها.
وقد يستعاض عن مصباح الغاز بخلية كر، وهذه فكرة حديثة صائبة، يتوقف عملها على خاصية سائل النيتروبنزين في استقطاب الضوء إذا ما وقع تحت تأثير مجال كهربائي. وربما عدت لشرح هذه النظرية في فرصة أخرى.
والآن بعد أن حصلنا على دفعات ضوئية متعاقبة تختلف شدة وضعفا باختلاف الدفعات الكهربائية المستقبلة من الأثير والتي كان اختلافها يتبع اختلاف نقط الجسم المتلفز نفسه في ضوئها وظلامها، لم يبق علينا إلا أن نعود فنركبها بنفس الطريقة التي حللناها بها، وذلك بوضع كل نقطة في مكان يناظر المكان الذي انبعثت منه على الجسم المتلفز، وهذه هي خطوة تكوين الصور النهائية.
وتتم هذه الخطوة بنفس الجهاز الذي حللها، وهو كما تقدم: إما القرص المثقب أو طبلة المرايا، أو حلزون المرايا. ولأقصر الكلام على القرص المثقب وحده إذ علمنا أن الطبلة أو الحلزون يمكن أن يستبدلا بدون أي تغيير.
فيوضع مصباح الغاز أمام القرص تجاه ثقوبه، ويوضع حاجز في الجهة المقابلة له من القرص ليتلقى الصورة ويدار القرص بنفس السرعة التي يدار بها نظيره في جهاز الإرسال - 12 , 5 دورة في الثانية - ويكون دائما في خطوة واحدة معه، ويخرج المصباح الغازي دفعاته الضوئية المتتابعة، والتي تتم كل دفعة منها عن خواص نقطة واحدة من نقط الجسم المتلفز في لحظة من لحظاته. فتقع على القرص الذي هو صورة مضبوطة لقرص الإرسال في حجمه وشكله وعدد ثقوبه وسعتها وسرعته وخطوته، فيعمل هذا على وضع كل نقطة في مكان على الحاجز يناظر تماما مكانها الذي انبعثت منه على الجسم المتلفز، وبذلك تظهر الصورة.
غير أن العملية لا تتم بمثل هذه السهولة، غير أن العملية لا تتم بمثل هذه السهولة، فنقطة الصعوبة فيها هي إمكان ضبط سرعة دوران القرص بحيث تساوي تماما سرعة دوران قرص جهاز الإذاعة. وظاهر تماما انه لو اختلفت السرعتان ولو اختلافا بسيطا لحصلنا على خيال لا يدل إلا على سحب غير مفهومة من الضوء والظلام. والطريقة الوحيدة لضبط السرعتين هي إرسال دفعات كهربائية ثابتة التردد من مصدر منفصل آخر لا علاقة لها بالجسم المتلفز أو توزيع الضوء أو غيره. بل تتوقف ذبذبتها على سرعة دوران قرص جهاز الإرسال فحسب. وهذه تستقبل عند جهاز الاستقبال بجهاز منفصل أيضاً حيث يكشفها ويكبرها ويسلطها على محرك القرص لتضبط سرعته تبعا لسرعة قرص الإرسال. وهذه طريقة فضلا عن أنها تستلزم جهازي استقبال منفصلين فهي تزيد الإذاعة والاستقبال تعقيدا على تعقيد.
فكر (بيرد) في أن يرسل من نفس جهاز الإذاعة بإشارة يكون ترددها لا يتوقف إلا على سرعة دوران القرص، وذلك بأن جعل شعاع الضوء الخارج من ثقب القرص في جهاز الإرسال عند ما ينتهي من رسم خطه الرأسي من الضوء على الجسم المتلفز لا يبدأ شعاع الثقب التالي له إلا بعد وقت قصير، وهكذا بين كل ثقب وآخر يمضي مثل هذا الوقت الذي يسبب دفعة ضوئية مظلمة في الخلية الكهرضوئية ترددها ثابت ويتوقف على سرعة القرص، أي يساوي 30 12. 5=375 ذبذبة في الثانية، لأن بالقرص ثلاثين ثقبا وسرعته 12. 5 دورة في الثانية. هذه الإشارة ترسل وتستقبل مع باقي دفعات الجسم كأنها واحدة منها، ولكن يمكن فصلها بسهولة عنها، لأن ترددها صغير جدا بالنسبة لتردد دفعات الجسم. وعلى ذلك تفصل عند جهاز الكشف الأول وتأخذ طريقا آخر حيث تكبر ثم تسلط على محرك قرص الاستقبال لتنظم سرعته.
وقد تتساوى سرعة القرصين تماماً، ولكنا نرى الصورة النهائية مشطورة إلى نصفين وينشأ هذا من اختلاف الخطوة. ومن أمثلة اتحاد السرعة واختلاف الخطوة ما نشاهده إذا لاحظنا صمامي عجلتين متشابهتين في دراجة مثلا أثناء سيرها. كلتا العجلتين تسيران بنفس السرعة، ولكن ذلك لا يستلزم أن يأخذ صماماهما موضعين متشابهين تماما. فهما في هذه الحالة متحدتان في السرعة ومختلفتان في الخطوة. واختلاف الخطوة هذا هو ما يسبب شطر الصورة وأظن ذلك واضحا بقليل من التفكير.
وبالرغم من كل هذه المجهودات الجبارة مازال جهاز التفلزة للاستقبال محروما من دخول المنازل. وبالرغم من نجاح التجارب التي عملت عليه حتى الآن نجاحا كافيا، فان الأجهزة مازالت على شئ من التعقيد وصعوبة التداول لشخص عادي. والعالم بطبيعته يرغب في البساطة بقدر الإمكان كما يتمنى أن يتخلص - في منزله على الأقل - من الأجهزة ذات المحركات الميكانيكية. فهو يأمل في جهاز للتلفزة له سهولة جهاز السمع في استعماله. فهل يقف العلم دون ذلك؟؟. . . .
قريبا سوف يتحقق له ما يريد. فمذبذب أشعة الكاثود على الأبواب والجميع ينتظره. وآمل أن آتى على ما وصل العلم فيه في رسالة قادمة.
وقبل أن أختتم هذه اللمحة عن التلفزة أريد أن أنوه ببعض نواح مختلفة تخرج عن مجرد إرسال صور أو أشخاص.
أولا: التليتوكي وهي تلفزة أفلام سينمائية ناطقة كما تذاع الاسطوانات الموسيقية. ولنقدر من الآن ما سيهدد دور السينما بانتشار هذه التلفزة.
ثانيا: التلفزة في الظلام أو وذلك باستعمال الأشعة تحت الحمراء بدل الضوء العادي. وستكون هذه ساعد البحار الأعظم لخوض البحار المجهولة في ظلام حالك، وكأنه في وضح النهار. كذلك في الحروب سوف تمكن هذه من رؤية حركات العدو وسكناته وهو في ظلام حالك بدون أن يشعر.
ثالثا: التلفزة بالألوان الطبيعية، وذلك باستخدام قرص ذي ثلاث لفات من الثقوب مغطاة بثلاث زجاجات شفافة ملونة بالألوان الأحمر والأزرق والأصفر. واستعمال ثلاث خلايا كهرضوئية وثلاثة مصابيح غازية كل منها يعطي أحد الألوان السابقة.
رابعا: التلفزة المجسمة أو عرض الصور مجسمة بدل أن تكون في مستوى واحد.
خامسا: حاكي التلفزة - وكما يدل عليه أسمه هو جمع ما بين الحاكي) الجرامفون) والمتلفز. وهو إشراك الصور وحركات الأشخاص مع حديثهم وموسيقاهم على اسطوانة واحدة من اسطوانات الحاكي. بحيث برى وتسمع في آن واحد.
محمود مختار معيد بكلية العلوم