مجلة الرسالة/العدد 63/أعظم حادث في حياة روسو:
مجلة الرسالة/العدد 63/أعظم حادث في حياة روسو:
2 - روسو ومدام دي فرنس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
والحقيقة أن مدام دي فرنس نفثت في جان جاك ضرباً غريباً من السحر والجوى، لا هو بالحب الجنسي الخالص، ولا هو بالحب البنوي الخالص، ولا هو بالصداقة الحميمة، بل كان مزيجاً من ذلك كله، يقترن بنوع من عبادة الجمال والسحر، وعاطفة عميقة من العرفان وشكر الصنيعة. وسنرى أن له إلى جانب هذه الناحية الأفلاطونية ناحية أخرى. وعلى أي حال فقد كان لهذا السحر الذي بثته مدام دي فرنس في جان جاك أعظم أثر في تكوين عواطفه وفلسفته في الجمال والحب والمرأة، وكان مستقى خياله ومشاعره في بضعة الأعوام التالية التي اكتمل فيها شبابه، وتفتحت أمامه عوالم الحياة. وفي ظلال هذه السعادة أقام جان جاك معززاً مكرماً يقضي أوقات فراغه في القراءة ودرس الموسيقى والأحلام اللذيذة، والسمر مع مدام دي فرنس. وكان يشعر أن السعادة قد بلغت ذروتها، وأنها لذلك لن تدوم، ويرتجف فرقا كلما تصور يوم البعاد وانقضاء هذا العهد الأمثل.
وأقام روسو على هذا النحو زهاء عام وبعضه، ثم رأت مدام دي فرنس أن ترسله إلى ليون لقضاء بعض المهام، فسافر إليها، ولم يغب سوى أيام قلائل. ولكنه لما عاد إلى أنسى لم يجد (أمه) وموئل سعادته، ولم يستطع أن يعلم شيئاً عن غيابها سوى أنها سافرت إلى باريس مع خادمها كلود آنيه، فلم ير سبيلا سوى الانتظار، وأقام وحده بالمنزل يتنسم أخبارها وموعد عودها، وهو يدرس الموسيقى ويؤلف الأناشيد. وهنا يقص علينا روسو عدة حوادث غرامية تافهة وقعت له خلال هذه الفترة. وكانت معرفته بالموسيقى سبباً في اتصاله ببعض الهواة. ولما طالت غيبة مدام دي فرنس، سافر إلى جنيف، ثم إلى نيوشاتل، وهناك استقر حيناً يكسب عيشه بتدريس الموسيقى، ولكن شبح مدام دي فرنس كان يساوره أبداً، وكان العود إليها أبداً أعز أمانيه، فلم تمض عليه بضعة أشهر في هذا التجوال حتى عاد إلى سافوا وكانت مدام دي فرنس، قد غادرت يومئذ أنسى إلى شامبرى واستقرت هناك. فسافر إليها وتحققت أمنيته بالمقام إلى جانبها كرة أخرى، واستطاع بنفوذها أن يحصل على وظيفة في ديوان مسح الأراضي في تلك الناحية نفسها، فكانت مزدوجة، وكان الهدوء والسكينة والاستقرار، وكان ذلك سنة 1732.
وهنا فقط يكتشف روسو حقيقة مرة غابت عنه طيلة هذه الأعوام الثلاثة؛ تلك هي علاقة مدام دي فرنس بخادمها وأمينها كلود آنيه؛ فقد عرف روسو فجأة أن الخادم ينعم بحب سيدته؛ وعرف ذلك من مدام دي فرنس ذاتها، ففي ذات يوم ثارت بين السيدة وخادمها مناقشة عاصفة وجهت إليه خلالها بعض الألفاظ الجارحة؛ فهرول كلود آنيه خفية إلى زجاجة من (اللادونوم) فابتلع ما فيها لكي يزهق نفسه، ثم أوى إلى غرفته ينتظر حشرجة الموت؛ ورأت سيدته وخليلته الزجاجة الفارغة فأدركت الأمر، وهرولت صارخة إلى غرفته، ونادت روسو واعترفت له بكل شيء ورجت منه العون؛ فعاونها على إسعافه، ونجا الخادم المحبوب. ودهش روسو لغبائه إذ خفيت عليه هذه الحقيقة من قبل. ولكنه لم يشعر نحو كلود آنيه بشيء من الحقد، برغم أنه يسلبه معبودة قلبه، لأنه يحرص على سعادتها وهنائها. .
ولبث روسو مدى الأعوام التالية إلى جانب مدام دي فرنس، ولم يفارقها إلا في فترات قليلة ولأسباب طارئة. كانت شامبرى موطنه ومستقره، وكانت مدام دي فرنس أمه وأسرته وكل شيء في الوجود بالنسبة إليه. وكانت الحياة عندئذ هادئة منظمة، وقد أخذ روسو يشعر بشيء من الثقة بنفسه وبمستقبله؛ وكان يوزع وقته بين عمله، ودرس الموسيقى، ومدام دي فرنس. وكانت ثمة سعادة أخرى لم يكن يتوقعها روسو، ترفرف عليه في ذلك المقام الرغد، بل كان ثمة حادث لعله أعظم مفاجأة في حياة روسو. ذلك أن علاقته الساذجة الأفلاطونية مع مدام دي فرنس تحولت فجأة إلى علاقة حب عملي. ولذلك التحول قصة غريبة يرويها لنا روسو في عدة صفحات ساحرة مؤثرة. فقد كان روسو يعطي دروساً في الموسيقى لبعض أكابر السيدات في شامبرى، وكانت علائقه النسوية تزداد يوما عن يوم؛ وكان بين أولئك السيدات، سيدة تدعى الكونتة دي منتون كان روسو يعلم ابنتها الغناء؛ وكانت سيدة مضطرمة الأهواء تحب الدسائس الغرامية، وبينها وبين مدام دي فرنس صلة ومنافسات نسوية. فلما اتصلت بجان جاك وقدرت ذكاءه ومقدرته على الكتابة الساخرة ونظم الأناشيد والأغاني، فكرت في استهوائه والانتفاع بمقدرته، واستقبلته بعطف وإكرام، وشعرت مدام دي فرنس بذلك، ففكرت في إنقاذ روسو من شراكها وشراك غيرها من النسوة اللائي يحطن به. والتمست لذلك أغرب وسيلة يمكن تصورها. فاختلت بروسو ذات يوم، وأفهمته أنها لم تر وسيلة لانقاذه من أخطار الشباب سوى أن تقدم نفسها إليه، وأن تفتدي بجسمها كل ما يهدده من الأخطار، وأنها تمهله ثمانية أيام للتفكير والعزم. ويقول لنا روسو إنه دهش لهذه المفاجأة أيما دهشة، وإنه لم يكن يتوقع قط هذا المصير لعلائقه مع المحسنة اليه؛ بيد أنه يقول لنا إن ذهنه لم يكن بعيداً عن تصور هذه السعادة؛ فقد كان يضطرم جوى نحو النساء؛ ولم يكن قد لامس إحداهن بعد؛ وإن مدام دي فرنس وإن كانت تكبره بنحو عشر سنين، كانت ما تزال فتية فتانة وافرة الأنوثة والسحر، ولم يثره أنها كانت خليلة غيره، وأنها بذلك توزع متاعها على أكثر من رجل، فقد كانت هذه الشركة مؤلمة حقا، ولكنها لم تغير ذرة من عواطفه نحوها.
ويحاول روسو أن يحلل عواطفه نحو مدام دي فرنس مرة أخرى. لقد كان يحبها حقاً، بل كان يهيم بها حباً؛ ولكن ذلك الهيام كان أقوى من أن يحمله على الرغبة في وصالها. وقد أنفق هذه الأيام الثمانية في اضطراب ذهني لا يمكن تصوره، وكأنها كانت قروناً ثمانية، ولكنه كان يبغى المزيد منها. ثم جاء اليوم المروع أخيراً؛ فهرول روسو إليها، وصرح بالقبول والأذعان؛ وبر في الحال بوعده. ويصف لنا روسو ذلك اللقاء المدهش في تلك العبارات القوية المؤثرة: (لقد توج قلبي كل نذوري دون أن أرغب في المكافأة. بيد أني حصلت عليها، وألفيت نفسي لأول مرة، بين ذراعي إمراة - وامرأة أعبدها. فهل كنت سعيداً؟ كلا! ولقد تذوقت السرور، ولكن شعوراً قاهراً من الحزن كان يسمم سحره؛ وكنت أشعر أني أرتكب عشرة محرم؛ ولقد بللت صدرها بدموعي مرتين أو ثلاث مرات، بينما كنت أضمها إليّ في شغف وهيام. أما هي فلم تكن حزينة ولا مضطرمة، ولكنها كانت ناعمة هادئة. ولم تكن تحدوها الشهوة، ولم تكن ترجو المتاع، ولهذا لم تشعر بمتعة، ولم يؤنبها الضمير قط).
وهنا يفيض روسو في تحليل عواطف مدام دي فرنس وميولها الغرامية، ويحاول أن يعتذر عن أخطائها وزلاتها؛ فقد نشأت نشأة حسنة، ذات فضيلة واستقامة، وذوق رفيع، وخلال بديعة، ولكنها كانت تصغي إلى العقل والفلسفة دون القلب؛ وقد عنى معلمها وأول عشاقها، مسيو دي تاقل، بأن يغرس في ذهنها جميع المبادئ التي تسهل له إغواءها؛ فعلمها أن الاخلاص الزوجي سخف، وأن الاجتماع الجنسي أمر تافه، وأن الفضيلة والعفة والحشمة أمور ظاهرية فقط. فغزتها هذه المبادئ وطغت عليها حتى أصبحت تعتقد دائماً أنه لا يصفد الإنسان بحب امرأة قدر الوصل. وفي تلك الصحف التي يصف لنا فيها روسو ذلك التحول في علائقه مع مدام دي فرنس، يبلغ روسو ذروة البلاغة والافتنان، ولعلها أبدع قطعة في (الاعترافات).
وهكذا تحولت القصة البنوية الأموية إلى قصة غرامية، وغدا روسو خليل المرأة التي لبث بضعة أعوام يقدسها كأم رؤوم. واستمرت هذه العلاقة ما بقى إلى جانبها، واستمر الخادم كلود آنيه شريكه في الوصل مدى حين، ولكنه لم أن توفى. ثم انتقلت مدام دي فرنس وروسو إلى منزل خلوي في ضيعة (لاشارميت)، وهنالك قضى روسو، في ذلك المقام المنعزل أياماً سعيدة في الدرس، مستأثرا بصحبة (أمه) وحبيبته. ثم اعتلت صحته، واشتد به الهزال والضعف، وفكر في السفر لينتجع العافية، وأشير عليه أن يسافر إلى مونبلييه حتى يجد من الأطباء من يستطيع معالجته، ولم تمانع مدام دي فرنس في تنفيذ ذلك العزم، فسافر إلى مونبلييه، ووقعت له أثناء رحلته بعض حوادث غرامية بثت في ذهنه إضطرابا وجوى. وبعد أشهر عاد إلى (أمه) وكانت تلك العاطفة المضطرمة التي لبثت مدى أعوام تدفعه إلى جانب مدام دي فرنس قد خبت نوعاً، واستحالت إلى نوع من الصداقة الهادئة، والظاهر أيضاً أن مدام دي فرنس كانت تبحث عن صداقة جديدة وغذاء جديد لعواطفها الهائمة، فلما عاد روسو ألفى إلى جانبها في المنزل رجلاً آخر يدعى فنتز نريد، ولم يلبث روسو أن أدرك من تصرفاته ولهجته أنه غدا صاحبا لمدام دي فرنس، وأنه قد حل مكانه، فحزن روسو لذلك ولم يطق البقاء حيثما هدمت سعادته، فسافر إلى ليون، ولم تبد (أمه) كبير أسف لسفره. وبعد أن أقام بها حيناً عاد إلى مدام دي فرنس كرة أخرى، وأقام بالمنزل حينأ في عزلة عنها لا يكاد يراها إلا وقت الطعام، وكانت آخر زياراته لها. وكان يومئذ قد أشرف على الثلاثين من عمره، ونضجت دراساته ومواهبه وآنس في نفسه طموحاً إلى غزو ميدان الحياة الواسع، فاتجه ببصره إلى باريس، فودع (أمه) الوداع الأخير، سافر إليها تحدوه مختلف العواطف والآمال. .
وكان ذلك ختام قصة روسو ومدام دي فرنس، فلم يرها بعد ذلك ولم يحاول رؤيتها، وألقى به القدر في باريس إلى غمار حياة جديدة عاصفة، ولكنه لم ينس ذكرى المحسنة إليه قط، ولما توفيت بعد ذلك بنحو عشرين عاماً - سنة 1764 - اشتد حزنه لفقدها، وهو يعرب لنا عن ذلك الحزن في نفثة مؤثرة في (الأعترافات).
محمد عبد الله عنان المحامي