مجلة الرسالة/العدد 629/يا شعر!
مجلة الرسالة/العدد 629/يا شعر!
للمرحوم أبي القاسم الشابي
يا شعر! أنت فم الشعور، وصرخة الروح الكثيب
يا شعر! أنت صدى نحيب القلب، والصب الغريب
يا شعر! أنت مدامّع علقت بأهداب الحياة
يا شعر! أنت دم تفجر من كلوم الكائنات
يا شعر! قلبي - مثلما تدري - شقي مظلم
فيه الجراح النجل يقطر من مغاورها الدم
جمدت على شفتيه أوزار الحياة العابسة
فهو التعيس، به مرارات القلوب البائسة
أبداً ينوح بحرقة بين الأماني الهاوية
كالبلبل الغريد ما بين الزهور الذاوية
كم قد نصحت له بأن يسلو وكم عزيته
فأبى وما أصغى إلى قولي، فما أجديته
كم قلت: صبراً يا فؤاد! أما تكف عن النحيب!
فإذا تجلدت الحياة تبددت شعل اللهيب
يا قلب. لا تجزع أمام تصلب الدهر الهصور
فإذا صرخت توجعاً. هزئت بصرختك الدهور
يا قلب! لا تسخط على الأيام، فالزهر البديع
يصغي لضجات العواصف قبل أنغام الربيع
يا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور
فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور
يا قلب لا تسكب دموعك بالفضاء فتندم
فعلى ابتسامات الفضاء قساوة المتهكم
لكن قلبي وهو مخضل الجوانب بالدمو جاشت به الأحزان إذ طفحت بها تلك الصدوع
يبكي على الحلم البعيد بلوعة لا تنجلي
غردا كصداح الهواتف في الفلاة يقول لي:
طهر كلومك بالدموع وخلها وسبيلها.
إن المدامع لا تضيع حقيرها وجليلها
فمن المدامع ما تدمع جارفاً حسك الحياة
يرمي لهاوية الوجود بكل أشواك الطغاة
فارحم مضاضته ونح معه على أحلامه
فلقد قضى الحلم البديع على لظى آلامه
ردد على سمع الدجى أنات قلبي الواهية
واسكب بأجفان الزهور دموع قلبي الدامية
فلعل قلب الليل أشفق بالقلوب الباكية!
ولعل جفن الزهر احفظ للدموع الجارية!
كم حركت كف الأسى أوتار ذياك الحنين
فتهاطلت أحزان قلبي في أغاريد الأنين
ولكم أرقت مدامعي حتى تقرحت الجفون
ثم التفت فلم أجد قلباً يقاسمني الشجون
فعسى يكون الليل أرحم فهو مثلي يندب
وعسى يصون الزهر دمعي فهو مثلي يسكب
قد قنعت كف السماء الموت بالصمت الرهيب
فغداً كأعماق الكهوف بلا ضجيج أو وجيب
يأتي بأجنحة السكون كأنه الليل البهيم
لكن طيف الموت قاس والدجى طيف رحيم
ما للمنية لا ترق على الحياة النائحة!؟
سيان أفئدة تئن أو القلوب الصادحة؟ يا شعر! هل خلق المنون بلا شعور كالجماد؟
لا رعشة تعرو يديه إذا تملقه الفؤاد؟
أرأيت أزهار الربيع وقد ذوت أوراقها
فهوت إلى صدر التراب وقد قضت أشواقها؟
أرأيت شحرو الفلا مترنما بين الغصون
جمد النشيد بصدره لما رأى طيف المنون؟
فقضى وقد غاضت أغاريد الحياة الطاهرة
وهوى من الأغصان ما بين الزهور الباسره
أرأيت أم الطفل تبكي ذلك الطفل الوحيد
لما تناوله بعنف ساعد الموت الشديد؟
أسمعت نوح العاشق الولهان ما بين القبور
يبكي حبيبته فيا لمصارع الموت الجسور؟
طفحت بأعماق الوجود سكينة الصبر الجليد
لما رأى عدل الحياة يضمه اللحد الكنود
فتدفقت لحناً يردده على سمع الدهور
صوت الحياة بضجة تسعى على شفة البحور
يا شعر! أنت نشيد أمواج الخضم الساحرة
الناصعات، الباسمات، الراقصات، الطاهرة
السافرات، الصادحات، مع الحياة، إلى الأبد!
كعرائس الأمل الضحوك يمسن ما طال الأمد
ها إن أزهار الربيع تبسمت أكمامها
ترنو إلى الشفق البعيد تغرها أحلامها
في صدرها أمل يحدق نحو هاتيك النجوم
لكنه أمل ستلحده جبابرة الوجوم
فلسوف تغمض جفنها عن كل أضواء الحياةِ حيث الظلام مخيم في جو ذياك السبات
ها أنها همست بآذان الحياة غريدها
فتلت عصافير الصباح صداحها ونشيدها
يا شعر! أنت نشيد هاتيك الزهور الباسمة
يا ليتني مثل الزهور بلا حياة واجمة
إن الحياة كئيبة مغمورة بدموعها
والشمس أأضجرها الأسى في صحوها وهجوعها
فتجرعت كأساً دهاقا من مشعشعة الشفق
فتمايلت سكرى إلى كهف الحياة ولم تفق
يا شعر! أنت تحيها لما هوت لسباتها
يا شعر! أنت صداحها، في موتها، وحياتها
يا شعر! يا قيثارة الأحلام يا ابن صبابتي
لولاك مت بلوعتي وبشقوتي وكآبتي
فيك انطوت نفسي وفيك سكبت كل مشاعري
فاصدح على قمم الحياة بلوعتي يا طائري
أبي القاسم الشابي