انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 629/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 629/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 07 - 1945



أُم. . .

للكاتب النمسوي فنستر شيافكي بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

(هذه قصة أم - فرقت عن زوجها - فحاولت وجاهدت وضحت في سبيل رفع ولدها إلى ذروة المجد. . . فهل وفقت؟. . . ذلك ما أبانه (فنستر شيافكي) في سياق هذه القصة، وهي من روائعه ويعد (شيافكي) من كتاب (النمسا) المبرزين في فن القصة، إذ يمتاز بطلاوة أسلوبه وصدق وصفه وسمو معانيه) (مصطفى) في ضحوة يوم رائع من خريف سنة 1844 وقفت سيدة في نافذة دارها المعروفة باسم (ستاج هوس) في حي (ليبولد ستادت) تلقي بنظرات حائرة قلقة إلى الطريق؛ وكانت تبدو فاتنة حسناء على الرغم من أنها تدنو من عقدها الرابع. . . أما وجهها فكان مجالا لانفعالات شتى تعانيها امرأة طلقها زوجها، فاضطرت إلى إعالة بنيها. . . وأخذت على عاتقها تربيتهم وتنشئتهم. . . ويغلب على أخلاق تلك السيدة - وهي من الطبقة المتوسطة - الرَّزانة والتواضع والهدوء. . . ومع بساطة ثوبها شاعت فيه الأناقة والبهاء. . . وينبعث من عينيها شعاع يعبر عما تستران من قلق، ويجول فيهما التوسل إذا ما انحسرت أهدابهما. . . حانت ساعة الغداء فطرح على المائدة خوان ناصع نظمت فوقه ست صحاف - صنعت في (فينا) - وتوسط المائدة زهرية محلاة بالزخارف وصفت في أنحاء الغرفة أريكة وستة مقاعد كسيت بالمخمل - وقام في أحد جوانبها صوان بأدراج نحاسية الحلقات. . . استقرت فوقه ساعة فوق قاعدة من الرخام. . . أما في الجانب المقابل فصوان آخر عليه صليب غطي بزجاج - رسمت عليه بعض الطيور المائية والبرية - ويوجد في ركن متطرف (بيان) وضعت عليه زهرية فيها زهور ذابلة أما جدران الغرفة فزينت باللوحات الزيتية. . . والصور التذكارية. . . جلس في الحجرة التالية غلام في السادسة عشرة: باهت الوجه، يعلوه الشحوب. . . مكباً على لوحة للرسم وقد انصرف إلى عمله بكل حواسه. بينما جلست على مقربة منه في النافذة فتاتان تحيكان في صمت، وبعد هنيهة اندفع طفل في الثامنة من عمره إلى أمه ودفن رأسه بين ثنايا ردائها. . . وراح يئن ويصيح: (أني جائع يا أماه) فقالت الأم في تهكم وقد أضجرها بنواحه: تناول شيئاً من الملح فسوف تغدو عطشان أيضاً. . .) وراحت تحدث نفسها: (لست أدري ما الذي يفعله إلى الآن، وهو يعلم أني سأقدم إليه اليوم (طبقه المحبوب). لابد أن شيئاً مهماً عاقه عن العودة. . .) وفي هذه اللحظة دخلت خادمة العائلة العجوز (وابي) تحمل باقة من الزهور وضعتها على المائدة، فسألتها سيدتها في دهشة: - من ذا الذي بعث بتلك الزهور الجميلة؟! - أنها من لدني يا سيدتي، وسأهديها إلى سيدي (جوني). . . فاليوم من أدق أيام حياته، ولكني متأكدة من رضائه. . . لقد قال لي عندما تركنا هذا الصباح (انظري يابتي) فهو يناديني (ببتي) لا (وابي) كالآخرين، فهو طيب القلب. . . قال: (انظري يا بتي) إذا عدت بأقدام ثابتة راسخة وفي سترتي زهرة فاعلمي أني نلت ما كنت أطمع إليه، وإذا كانت ساقاي متخاذلتين والزهرة في قبعتي. . . فهذا معناه الفشل والإياب بخفي حنين. . .) فقالت سيدتها: (ولكنه لم يطلعني على شئ مما تقولين. . . يا إلهي لو أنه نال الإذن الذي يوده! أني لخائفة من رفض طلباته لأني سوف أكون الملومة، فقد كنت أستحسنه وأقف إلى جانبه ضد أبيه. . .) - أنت مخطئة في زعمك. . فسوف يجاب إلى طلبه وينال بغيته. - أني لست خائفة من ذلك، فهو لا يهتم بالجيش كاهتمامه بتكوين فرقة موسيقية. . . ولكن. . . ماذا سيؤول إليه أمره أن هو فشل؟ سوف يفقد آماله في العثور على وظيفة في الجيش. . . ويعود إلى البحث عن عمل موسيقي حقير في المطاعم. . . وهذا النوع من الأعمال. . . آه طالما حذره والده من ذلك. . . عن تلك الأعمال شاقة جداً وأفقها ضيق، فواحد في المائة هو الذي ينال مأربه ويرتقي إلى ذروة المجد. . .) فقاطعها يوسف بعد أن ترك لوحة الرسم قائلا: - ولكن جوني سيكون ذلك الشخص. . . فهو عبقري. . . وقد عزف لي لحنه (الولس) الجديد البارحة. . . ولم أسمع من قبل شيئاً يسيطر على النفس ويملك الفؤاد كذلك اللحن. . . - أصبت يا بني، فهذا اللحن جعلني أضحك وأبكي في آن واحد. . . أنه ليذكرني بلحن أبيه. . . ولكن لحن جوني يداخله شئ من الحرارة. . . شئ من - لا أدري بماذا أعبر. من المؤكد أني لم أكن مخطئة عندما تشاجرت مع أبيه في هذا الشأن. . . لأني أعتقد أن جوني لا يقل عن أبيه عبقرية ونبوغاً. . . أني أعرف بعض الشيء عن هذا اللحن؛ لأن أباك كان يعزف لي أحياناً أنغامه الجديدة في ركن من الحديقة عندما خطبني. . . كنت أصاحبه بالعزف عل قيثارتي. . . وكان يرجع تلك الأنغام ويعيدها حتى تبلغ شأو الإتقان. - لست أدري سبباً لتلك القسوة التي يصبها والدنا على (جوني)!؟ - ليس من شأنك أن تتحدث عن أبيك أيها الأحمق. . . ربما كان على حق؛ ولكن قلبي لا يدعني في سلام. إن ذلك يعني كل السعادة لذلك الفتى. فبهذا يخبرني قلبي. . .) فصاحت (وابي) في اضطراب. - هه. . . هاهو سيدي جوني ينحدر إلينا في الطريق. . . ولكن لا أستطيع أن أتبين أن كانت الزهرة في سترته أو في قبعته!) فقالت الأم في مرح: - أنها لا شك أنباء سارة. . . فها هو يشير بيده إلي. الزهرة؟ أين الزهرة؟ - أنها من المؤكد في سترته. . . وبعد لحظات هرول (جوني ستروس) وهو شاب في التاسعة عشرة ذو قوام نحيف وشعر أسود وعينان براقتان. . . وصاح وهو يمسك بورقة في يده: (نلته. . . نلت الإذن. . .) فقالت الأم وهي تتهالك على مقعد: - (شكراً! شكراً يا الهي. . .) فركع جوني إلى جانب كرسيها. . . وراح يمطر يديها بالقبل. وصاح في حماسة: - آه يا أماه. . . إن ذلك كله يرجع إلى فضلك أنت. . . أيتها الأم العزيزة. سترين كيف أني سأشرف لقب العائلة. . . أني لتجري في عروقي دماء آل (ستروس) إن رأسي يموج بالأنغام، منها ما يحزن ومنها ما يفرح. . . إن عائلة ستروس ستفخر بي. . . ولن تهدأ ثائرتي حتى أضيف إلى مجدها التالد مجداً طريفاً. . . - (إذن فقد نلت الإذن للظهور أمام الجمهور. . .) ولكن ما لبثت الأم أن قالت في لهجة حزينة: (لست أدري كيف يتلقى أبوك ذلك النبأ!) فأجاب جوني في غير مبالاة: - ليس هناك من يكترث لما يقوله أبي. . . كم كنت حزيناً عندما أخبروني أنه يجب أن أحوز موافقة والدي. . . لولا أن السيد (بال) ذلك الحاكم الطيب جعل الأمر في غنى عنها. . . والآن ليس هناك ما يعوق ظهوري أمام الجمهور مديراً لإحدى الفرق الموسيقية. . . أتعلمون ما الذي سيعود علي من ذلك؟! الحرية. . . الشهرة. . . المجد، حياة ترفع الإنسان فوق ذلك العالم الخامل. وداعاً أيتها السجلات. . . لقد حطمت قيودي بعزمي الراسخ واعتدادي بنفسي. . . ضعوني على منصة المدير ودعوني أنصت إلى التصفيق. . . ثم استمعوا إلى تلك الألحان العذبة الشجية التي ستنساب في تسلسل. . .) وأخذ - في نشوة تلك الحماسة - يراقص والدته ثم خادمته العجوز (وابي). خيم الصمت على الجميع حول المائدة ما عدا جوني الذي طفق يتحدث عن مشروعاته: - سأطلق على لحني الجديد اسم (قلب أم) وسنعزفه في صالة (دمرير) ذلك المطعم الشهير. . . والكل يدرك ماذا أعني بذلك الاسم. . . أنه أنت. . . أنت وحدك يا أماه. . . يا من عاونتني على صعود أولى درجات المجد. . . ولكن والدته كانت في شغل عنه، متجهة بتفكيرها إلى والده، وانتبهت واقترحت على جوني أن يسمي اللحن الجديد (الأمر بالمعروف). وأخيراً حل اليوم الخامس عشر من أكتوبر، وعلم الجمهور من الإعلانات الضخمة مدار الحديث في الأندية والحوانيت والمقاهي. . . أدرك أن (جوني ستروس) كون فرقة موسيقية يديرها لعزف لحنه الجديد في صالة (دمرير) في (هتزيج). . . واجتمع جميع أهالي (فينا) لمشاهدته: أما نصراً يسمو إلى أوج المجد، أو فشلاً يهبط إلى الحضيض. . . وبلغت حالة التوتر أقصاها بين ذلك الجمع الحاشد،. . . وكان لظهور ذلك الفتى الفتان بمظهر الفنان بتجاعيد رأسه وبريق عينيه اجمل وقع متباين في النفوس. . . وتمت النساء وقد استخفهن الإعجاب فرحن يهتفن ويشدن بعبقرية ذلك الفنان. . . بينما جعل فريق المعضدين يصفقون ويصفرون. . . وقوبل لحن المقدمة بشيء من الفتور وتصفيق ضئيل خلو من حرارة الإعجاب. . . وجلست في المطبخ - المجاور للصالة - امرأة تحاول أن تسيطر على أعصابها التي شملها الاضطراب. . . فقالت (وابي) العجوز - وكانت جالسة بالقرب منها: (ما هذه إلا المقدمة. . . ولحننا هو التالي. . .) وكانوا إذ ذاك قد بدءوا في عزفه. . . وانتهى لحن (الأمر بالمعروف). . . انقضت لحظة من الصمت. . . لحظتان. . . ثلاث، ثم إذا بعاصفة من التصفيق ترج أنحاء الصالة. . . وكان ذلك باعثاً على تورد وجنتي الأم بعد أن علاهما الشحوب. . . كانت تقدر مبلغ الإخلاص الذي يقابل به الجمهور لحن ولدها. . . وفجأة سكنت الضجة وأعيد عزف اللحن من جديد وعادت عاصفة التصفيق أشد من الأولى. . . كانت تزيد كلما أعيد عزف اللحن حتى لكان ليس لها نهاية. . . جلست الأم في مكانها الخفي - وقد ارتضته لنفسها - ترتجف من الابتهاج. . . وأبكمها الفرح فعجزت عن النطق. . . وكانت نيران المطبخ تلقي على وجهها ظلالاً أرجوانية. . . وبغتة اندفع (جوني) إلى ذراعيها واحتضنته، وتدفقت دموع الفرح على وجنتيها في انفعال ظاهر. . . فصاح جوني: - أسمعت يا أماه؟! لقد كنا على حق دائماً. . . والآن يجب أن نعمل على إغاظة ذلك الرحيل العجوز. . . والدي. . .) واندفع خارجاً. . . وبدئ في عزف لحن (لوريا ولس) الذي ألفه والده. . . فثار الجمهور وأخذ يصيح ويطلب إعادة لحن (الأمر بالمعروف) فكان هذا فوزاً له. . . وانتصاراً على أبيه. وتنهدت (وابي) العجوز وأغرورقت عيناها بالدموع وقالت (آه. . . لو يرتد لي شبابي وأعود جميلة. . . لقبلت سيدي جوني مراراً، وتكراراً. . .) وفي طريق العودة في عربتهم. . . مالت الأم على ولدها وطبعت على جبينه قبلة مترعة بالحنان. . . وقالت: جوني. . . إن هذه ساعة حزني وسعادتي التي لا تقدر يا بنى. . . إني لأشعر كأني ولدتك من جديد. . .) وكانت هذه هي الكلمات الحقة التي قدر لأم أن تعثر عليها. . . أم ضحت بنفسها في سبيل ولدها. . . تجلدت أمام المشقات وذللت ما عرض لها في سبيل تحرير عبقرية ولدها من الاندثار. . . (طنطا) مصطفى جميل مرسي