مجلة الرسالة/العدد 628/الحياة الأدبية في الحجاز

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 628/الحياة الأدبية في الحجاز

مجلة الرسالة - العدد 628
الحياة الأدبية في الحجاز
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 07 - 1945



للأستاذ إبراهيم هاشم فلالي

من المؤلم ألا يجد القارئ الحجازي في صحيفة (الرسالة) الغراء شيئاً عن أدب بلاده، بينما هو يجد في هذه المجلة الكريمة آداب الأمم العربية ممثلة فيها

فهل هذا القصور ناشئ عن الرسالة؟ أو هو ناشئ عن الأدباء الحجازيين الذين لا يتقدمون بإنتاجهم الأدبي إليها؟ إنك تجد من الأدباء الحجازيين من يقول لك أن الرسالة ضنت بنشر ما قدمناه لها. وقد تقول الرسالة إنها لا تضن بنشر كل ما يصل إليها من أي قطر إذا رأته صالحاً للنشر. والذي أراه أن الرسالة أصبحت لها من المكانة في قلوب أبناء البلاد العربية ما تغبط عليه، لأنها ما زالت تخدم فكرة العروبة ولغة العروبة، حتى ظن أبناء العروبة في شتى بلادهم إنها رسالتهم، فهي قمينة بأن يكتب لها الكاتبون وهم قمينون بأن تنشر لهم كل ما يكتبون، فكثرت لديها المواد، حتى أصبحت صفحاتها لا تسع كل ما يطلب منها نشره، وعلى الأخص بعد أن استحكمت أزمة الورق وتضاءل حجمها حتى أصبحت في الحجم الذي هي فيه الآن، ولم يبق لرئيسها إلا أن يتخير من المواد المتجمعة لديه ما هو أخلق بالشر من غيره. وله الحق في أن يختار ما يشاء ويهمل ما يشاء، وقد تضطره ظروف العمل إلى ذلك، فيرى الذين لم يقدر لإنتاجهم النشر أن لا باعث لهم على الكتابة للرسالة ما دام نصيبهم الإهمال - كما يخيل إليهم - وغالبية الأدباء، لهم مزاج لا يقوى على الاحتمال، ويتأثرون لأوهى الأسباب.

في الحجاز حركة أدبية طيبة، وقد كانت هذه الحركة تتمثل في جريدتي أم القرى وصوت الحجاز بمكة المكرمة، وفي جريدة المدينة ومجلة المنهل في المدينة المنورة. وانتشر الروح الأدبي بين الناس، فبرز بيننا أدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، ووجدت هذه الحركة عطفاً وتشجيعاً من حكومتنا السنية، فحشدت كثيراً من الأدباء والشعراء في دواوينها. وكان لا يزال نائب جلالة الملك المعظم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل يرعى الأدباء ويعطف عليهم ويأخذ بايديهم، فانتعشت الحركة الأدبية، وافتتح لها سعادة الشيخ محمد سرور الصبان مدير المالية العام وكبير الأدباء قاعة في إدارة الإسعاف للمحاضرات الأدبية ليجد فيها كل أديب جواً صالحاً للإنتاج الأدبي القيم، ثم أسس شركة للطبع والنشر لتقوم بنشر مؤلفات الأدباء على نفقتها، وزود مقر الشركة بمكتبة قيمة لتسهل على الأدباء والمؤلفين مراجعة ما هم في حاجة إلى مراجعته من الكتب وقتما يشاؤون

وحيال كل هذه المغريات نشطت عزائم الأدباء. فألقوا المحاضرات، وكتبوا المقالات، وألفوا الكتب، وشغف الناس بالقراءة، ولذاتهم البحوث الأدبية مما دعا إلى مضاعفة الإنتاج الأدبي وإتقانه. ومن ثم ألفت كتب جمة فاز بعضها بالنشر مثل كتاب (وحي الصحراء) لمؤلفيه الأستاذ المرحوم عبد المقصود والأستاذ عبد الله بلخير، وكتاب (محاضرات الإسعاف). وكتاب (المعرض) للأستاذ الكبير الشيخ محمد سرور الصبان، وكتاب (أدب الحجاز) له أيضاً، وكتاب (خواطر مصرحة) للأستاذ محمد حسن عواد، و (كتابي) للأستاذ أحمد عطار، وكتاب (محمد بن عبد الوهاب) للعطار أيضاً، وكتاب (الأدب الفني) للأستاذ حسن كتبي، وكتب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري وهي: التوأمان، إصلاحات في اللغة، آثار المدينة المنورة؛ وكتب أخرى لم تحضرني أسماؤها الآن، كما طبع بجانب هذه الكتب الأدبية كتب أخرى مدرسية وأخذت حركة الإنتاج الأدبي تنمو وتزدهر. ونبغ لدينا كتاب وأدباء وشعراء سنأتي على نماذج من إنتاجهم ليتبين لقراء الرسالة الكرام إلى أي حد من النضج بلغ الشعر والنثر عندنا

أما المؤلفات الأخرى والتي تكاد تكون قيمتها الأدبية أكبر من قيمة المؤلفات التي طبعت، فإنها بقيت محفوظة في مكاتب مؤلفيها، لأن الحرب - خربها الله - قامت في هذه الأثناء وحلت ببلادنا أزمة الورق كما حلت في البلاد الأخرى، فتوقفت حيال ذلك الحركة الأدبية عن السير في طريق الذيوع والانتشار، ولكن الأدباء لم يقفوا عن الإنتاج، لأن الفورة الأدبية جياشة في صدورهم بقوة، فهم ما زالوا ينظمون وينثرون ويؤلفون، وهم محتفظون بذلك كله إلى أن يأتي يوم السلم المنظور وتنحل أزمة الورق، فإذا جاء ذلك اليوم وقد جاء، فسوف يرى الناس أدباً حجازياً له سمته وله خصائصه، وسيكون لبلادنا ذات التاريخ المجيد مشاركة أدبية فعالة في بناء صرح الحضارة الإنسانية، وستقوم بواجبها وتؤدي رسالتها بما يتناسب ومكانتها الدينية والأدبية في تاريخها الماضي المجيد

والآن، سأذكر النماذج الأدبية التي تكلمت عنها آنفاً، وسأبدأ بنماذج شعرية ليرى القارئ الكريم الشعر الحجازي في ثوبه الجديد، وللقارئ أن يحكم له أو عليه بما يستحقه، على ألا يغرب عن باله لم أتخير في سرد هذه النماذج الشعرية أحسن ما قيل ولا أروع ما نظم، بل ذكرت ما شاع على الألسن دون أن أتكلف عناء البحث والاختيار

قلت في معرض كلامي إنه نبغ عندنا شعراء وأدباء جديرون بالإعجاب والتقدير، وفي مقدمة هؤلاء كبير الأدباء وحامل لوائهم الأستاذ محمد سرور الصبان، فمن شعره قوله يناجي الليل:

يا ليل صمتك راحة ... للموجعين أسى وكربا

خففت من آلامهم ... ووسعتهم رفقاً وحبا

أو ما ترى حدث الزما ... ن أمضهم عسفاً وغلبا؟

يا ليل إن بسم الخل ... ى وسادر لهواً ولعبا

فبجنبه يبكي الشج ... ى وربما لم يأت ذنبا

هذا ينعم باله ... وأخوه يصلي النار غصبا

يا ليل فارق محدثاً ... أخبارنا غبا فغبا

فلنا بذلك حاجة ... إن تقضها فرجت كربا

وابدأ حديثك بالآلي ... عانوا من الآلام وصبا

فعسى بهم تأسو وعلى ... لنا بذلك منه طبا

يا ليل ما. للبدر يم ... رح في السما شرقاً وغربا

يبدو فيضحك ساحراً ... منا وطوراً قد تخبا. . .

يعلو على متن السحا ... ب يسوقها سرباً فسربا

أتراه يعبث كالولي ... د فليس يخشى بعد عتبا

يا ليل ما شأن الغرا ... لة سيرها تيهاً وعجبا

سكرى ترنح عطفها ... دلا فلا يستطيع خبا

تخذت لها مهد السما ... ء كمرقص فتدب دبا

طردت إليك بناتها ... فضممتهن إليك ربا

تلك النجوم المشرقا ... ت وجوهها بشراً وحبا

وهكذا يمضي - حفظه الله - في القصيدة على هذا النمط المستعذب حتى يتمها.

ومن الشعراء الذين يفتخر بهم ذلك الشاعر المتصوف الأستاذ حسين سرحان ومن شعره قوله:

أتمت والإثم من طباعي ... وأنت من طبعك الكرم

هبطت بي من ذرى ارتفاعي ... يا موجد الروح من عدم

أوقفتني عند حد نفسي ... وقد تجاوزت حدها. . .

والنفس مرهونة برمسي ... إذا اقتفى الجزر مدها. . .

فكان ما شئت من صراع ... وزاد ما ذقت من ألم. . .

ضحية أنت: لا تراعي ... يا نفسي: فاستقري الندم

الطين ما زال يحتويني ... يرد وثبي إلى الثرى

فشاهت الأرض من قرين ... وساءت الأرض عنصرا

ردت سموي إلى أتضاع ... وإن تعلقت بالقمم

ظلت على أمرها المطاع ... وماتني الخصم والحكم

وشهوة سمها زعاف ... تشب في الروح والبدن

مكشوفة ما لها غلاف ... وإن يكن ما لها ثمن. . .

قد استجابت لكل داع ... وأورث الجسم بالضرم

كأنها في القطيع راع ... فإن أبى أمرها انحطم

في اللحم والعظم والحنايا ... وفي عروق وفي عصب

تشف عن أخبث الدنايا ... فإن تعجبت لا عجب

فإنها غاية المساعي ... ومصدر الكون والأمم

لولاك يا رخوة القناع ... ما جالت الروح في نسم

إذا تخيلتني عظيماً ... أريتني أنني سقط

سبحان من ينضر الهشيما ... ويخرج الحق من غلط

يا خالط الوحل بالشعاع ... ونافث السم في الدسم

أقسمت في العالم المشاع ... بين الورى أصدق القسم

بأننا سذج حيارى ... وسعينا ذاهب هدر نريد أن نكشف الستارا ... كلا: فلن نبلغ الوطر

فإن تعاقب فباقتناع ... وإن تجاوزت لا جرم

ما أجدر الكون بالضياع ... لولا الذي يبعث الرمم

ومن شعرائنا المتفوقين الأستاذ الكبير محمد حسن عواد وإلى القارئ أقدم نموذجاً من شعره. قال من قصيدة يصف فيها جندي الديمقراطية في ساحات القتال:

من بليغ ملهمه ... عزمه المنطيق لافمه

كاسب الإعجاب مغتصبا ... قلبه الماضي ومخذمه

بكتب التاريخ من دمه ... أسطراً والمجد معجمه

يخدم الأوطان ينقذها ... من أذاها وهي تخدمه

لكأن الدين دافعه ... نحو قربان يقدمه

دعوة القرآن تحفزه ... أو هدى الإنجيل يسلمه

فهو في اللقيا محمده ... وهو عيساه ومريمه

أعجبني يا حرب من مرح ... لاعب لولا تجهمه

ومنها:

يستشير المجد في عمل ... هائل المغزى يعظمه

حيث موسيقى الخلود إذا ... طوحت بالجبن تحطمه

والصدى كالصوت صاعقة ... والصفوف السود ترحمه

يسأل الأقدار هل يده ... تغسل العدوان أودمه

فإذا بالكون ليل أسى ... تهاوى فيه أنجمه

وإذا الأصداء قائلة ... قول صدق لا نجمجمه

أيها التاريخ ذا بطل ... فعله للخلد مسلمه

هكذا فن الحياة على ... مسرح الأيام تحكمه

عالم يبدو فيصرعه ... عالم بانيه يهدمه

وهذا الشاعر المحلق الأستاذ حمزة شحاتة صنو العواد ومزاحمه على المورد الذي يستقي منه يقول من قصيدة غزلية: بعد صفو الهوى وطيب الوفاق ... عز حتى السلام عند التلاقي

يا معافىً من داء قلبي وحزني ... وسليما من حرقتي واشتياقي

هل تمثلت ثورة اليأس في وجه ... ي وهول الشقاء في إطراقي

أي سهم به اخترقت فؤادي ... حين سددتها إلى أعماقي؟؟

إذ تهاديت مبدلا نظرة العط ... ف بأخرى قليلة الإشراق

مسرعاً في المسير تنتهب الخط ... وفهل كنت مشفقاً من لحاقي؟

وتهيأت للسلام ولم تفعل ... فأغربت بي فضول الرفاق

هبك أهملت واجبي صلفا منـ ... ك فما ذنب واجب الأخلاق؟

كنت بالأمس مسعدي فتغير ... ت كثيراً فهل سئمت التلاقي

واعترى قلبك الملال فأعرضـ ... ت فهلا انتظرت يوم الفراق

لا أداجيك للكرامة معنى ... تتجلى في صحة الميثاق

سطوة الحسن حللت لك ما كان ... ن حراماً فافتنّ في إرهاقي

أنت حر والحسن لا يعرف الـ ... قيد فصادر حريتي وانطلاقي

لم يكن باليسير صبري على عسـ ... فك لو أنني طليق الوثاق

ومن شعرائنا المجيدين الأستاذ أحمد عطار، فمن قوله هذه القصيدة:

يا شقوة ما تكاد تطلقني ... من نيرها أو يخف محملها

ثقيلة ما أطيق وطأتها ... مجنونة باليدين معولها

تعبث في مهجتي عواصفها ... ترجعها رجة فتذهلها

وينتهي للجنون محتدها ... وفي مراعي السطا تنقلها

وفي فؤادي تشب معركة ... ما تنطفي والزمان يشعلها

الحس صال وفي النهى فكر ... رعن يذيق المنون أسهلها

لا الليل ليل وأنت نائية ... ولا الدراري يروق أجملها

ولا الأزاهير وهي باسمة ... تسبي وعين الجبيب تغفلها

أين الليالي التي نعمت بها؟ ... وأنت عند الصباح بلبلها

أستلهم الوحي منك يا أملي ... شعراً وآيات أرتلها وكفك البضة التي ذخرت ... بأنعم لا أني أقبلها

وألثم الخد منك مشرقة ... أزهاره والفنون يشملها

أين سويعاتك التي غبرت؟ ... ففي فؤادي الرحيب معقلها

أين الورود التي عبثت بها؟ ... وكنت بعد القطاف أكفلها

وأين دار الهوى تظللنا؟ ... وأين أفراحها تجللها

أين الأماني؟ وأين بارقها؟ ... وأين أضواؤها؟ ومنهلها؟

ليت الذي قد يروح يرجعه ... أمثل أيامنا ومقبلها

وليت تضنى وذكرها حرق ... لعاً لهذي المنى تخيلها

أين وما أين لي بنافعة ... إن ينأ عن مهجتي مؤملها

إبراهيم هاشم فلالي