مجلة الرسالة/العدد 627/لغة السياسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 627/لغة السياسة

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1945



للدكتور عبد العزيز برهام

للسياسة لغة تختلف كل الاختلاف عما تواضع عليه الناس. إذ من المهارة السياسية أن تصل إلى أغراضك ولو من طريق ملتو. وقديماً قيل: الغاية تبرر الوسيلة. وأنه ما دام للمائدة آداب وللحفلات آداب، وللزيارات آداب. . . فلماذا لا يكون للسياسة آداب كذلك؟ ومن مظاهر السياسة أن تكون لغتها من الرقة والسمو بمكان، بحيث لا تشعر المتحدث إليه بالرغبة في السيطرة عليه أو استغلاله. فلغة (الأمر) قد تسمى بلغة (النصح). وبداهة أن النصيحة لا تقيد المنصوح له برأي الناصح ولا تلزمه الأخذ به؛ فله كامل الحرية إن شاء أخذ وإن شاء يذر؛ ولكن لها عند بعض الساسة معنى آخر. فإذا تفضل عليك ناصح بالا يطرح مشروع كذا ي مناقصة ورأيت أنت أن الخير لك ولوطنك في غير عتب عليك في عدم الأخذ بمشورته عتاباً قد يكون مراً، وقد يبلغ درجة اللوم والإحراج والتوعد، وإذا نصحك بكذا وكيت لهوى قد يكون في نفسه ولم تتابعه في رأيه تململ واستاء، لأن (النصح) على لسانه نصح من (نوع خاص).

ولقد يتطوع لزيارتك زائر كريم، ويتحدث إليك في أمور يكثر الجدل فيها، وتتناقلها الألسن، ثم يبدى لك في أدب جم بأن (من رأيه) أو (من رأي حكومته) أن تحل العقدة بكذا وكذا، ثم يتركك وقد فهم كل منكما ما انطوت عليه سريرة الآخر، وهو في سعيه مشكور شكر الناصح المخلص. وإذا المشروع يطوي، والجو يصفو، والنفوس تهدأ، ويعود الأمر كما بدأ، وتصفق الأيدي للحل السعيد.

وقد يكفي مجرد (إظهار الضجر وعدم الرضا) لإيقاف المتحرك وتحريك الساكن. فإذا لم يُظهر بعض الدوائر المالية ارتياحا إلى أن تكون اللغة العربية هي لغة وطنها؛ وإذا ارتأت دور الخيالة في استخدام هذه اللغة فيما تعرض من أشرطة حرجا عليها فمعناه بلغة السياسة: قنوعاً بما رضي الدخيل بمنحك إياه، وشكراً له على تفضله.

(والمركز الممتاز) في عرف الساسة الطالبين له هو صنيع يؤدي إلى من يطلب منه منحه: وكيف لا والدافع إليه شدة الحدب على المهيض الجناح، والحرص على المحافظة عليه؛ فالجيش الدخيل الذي يحتل أرضه ليس له من مأرب إلا رد المعتدين عنه، والثقافة الت تفرض عليه إنما يراد بها رفع مستواه العلمي والخلقي، ومدارس التبشير ليست إلا لهدايته سواء السبيل. . . ولكنه في الواقع والحقيقة انتقاص شائن من حرية من يسلم به، واعتداء على كرامته واستقلاله، واعتراف منه بأنه ليس لهذا الاستقلال أهلا.

ومن غرائب الصدف أن لغة السياسة من نصائح مسداة، وآراء مبذولة، وامتيازات مطلوبة، لا تتخذ هذا المعنى (الرفيع) الخاص إلا إذا جرت على لسان قوي وتحدث بها إلى ضعيف أو إلى من يظن فيه الضعف. فالدول الكبرى في مؤتمر (سان فرنسيسكو) تنصح عملياً للدول الصغرى بأن تقلل من شطحاتها وبأن تتعلم الطاعة وتستسلم صاغرة لما يراد بها، ولكن إذا ما جد خلاف بين بعضها هي وبين بعض كانت لغة التوفيق ذات معان أخر وذات أسلوب آخر.

والسياسي الماهر هو الذي يقف من خصمه موقف مفسر الأحلام الذي استدعاه أحد الملوك ليفسر له حلماً أفزعه. وعلم المفسر أن قد سبقه في هذا المضمار آخرون قربت المقصلة آخرتهم؛ لأنهم أخبروا الملك أن جميع أفراد أسرته سيموتون قبله وسيموت هو بعد ذلك. فلما أحضره الملك بين يديه وسأله عن تعبير رؤياه أجابه: ستكون أطول أفراد أسرتك عمراً.

و (الدبلوماسي) البارع هو الذي لا يضع السيف في موضع الندى، والذي يصل بمعسول ألفاظه إلى ما لم تصل إليه القنابل الطائرة.

لما أخفت الحملة الفرنسية على (مصر) وخشي (نابليون) أن يكون في رحيل جنوده عن (وادي النيل) ما يذهب بالأثر الثقافي والعلمي الذي تركته بحث عن رجل يمثل (فرنسا) في (مصر) وتكون رسالته (أن يحافظ على النفوذ الفرنسي رغم الهزيمة، وأن يؤسس بالطرق (الدبلوماسية) ما عجزت الأسلحة عن تشييده) فوقع اختياره على (متيو دليسبس) وكانت وصية (تلليران) له وهو يودعه: (أتخذ لنفسك صديقاً: رجلاً من بين خصومنا، وسيكون في صداقتك له ما يجعل منه واحداً منا) - وكلنا يذكر ما كان لصداقة هذا (الدبلوماسي) لمحمد علي بنيه من الأثر الكبير في نجاح مشروع فتح (قناة السويس).

ولقد أدخل القرن العشرين في معجم السياسة كثيرا ًمن الألفاظ التي غيرت من مدلولها، وأضاف مؤتمر (سان فرنسيسكو) إليه مصطلحات جديدة. فبعد أن كنا لا نسمع إلا ألفاظ الاستعمار والانتداب والحماية. . . أصبحنا نسمع كذلك ألفاظ الوصاية الفردية والوصاية الدولية. . . ومن يدري فربما أضيفت إليه في المستقبل صفحات.

والحق أن الغاية من كل هذا واحدة: إخضاع الضعيف لسلطان القوي، شأنه في ذلك شأن الذئب والحمل الذي قيل إنه كان يعكر عليه الماء. وسواء لدى القوى أطلب منه ضعف الوصاية عليه أم لم يطلبها، فهو من الحالين أهل لهذه الوصاية. ومن حق القوى أن يأخذ بيده حتى يصل به إلى درجة البلوغ الإنساني ليستحق بذلك أن يكون عضواً في جماعة الإنسانية.

ولو أنك سألت (عصبة الأمم) لماذا قررت (وضع سورية ولبنان) تحت الانتداب الفرنسي، لأجابتك في كثير من البساطة، لتساعدهما على النهوض والاستقلال بأنفسهما، ولتصل بهما إلى درجة من الرقي والحضارة تجعلهما أهلا لعضوية هذه العصبة. ولكنك لو سألت اليوم (فرنسا) لماذا لا تترك هذه البلاد بعد أن أدت فيها رسالتها (ما دامت الرسالة لم تكن الغاية منها إلا مصلحة الشعب المغلوب على أمره) أجابتك، وعلى شفتيها ابتسامة: والمنشئات الحربية والمواقع (الاستراتيجية) والمدارس والمستشفيات والكنائس التي أسسناها. . .؟ أتريدنا على أن نترك كل هذا دون عوض وأن ننصرف كما قدمنا؟ ولماذا إذن كانت كل هذه الجهود التي بذلنا قراب عشرين عاما؟ وكيف يجرؤ الشعب الذي امتصصنا دمه وأذقناه الذل والهوان، وحاولنا وضع بذور التفرقة بين وحداته على إنكار ما أسدينا إليه من صنيع؟

قلت ما أحكم قول شاعر المعرة:

وأرضٍ بِت أقرى الوحش زادي ... بها ليثوب لي منهن زادُ

فأطعمها؛ لأجعلها طعامي ... ورب قطيعة جلب الودادُ

عبد العزيز برهام