مجلة الرسالة/العدد 627/بقية حديث في فرنسا
مجلة الرسالة/العدد 627/بقية حديث في فرنسا
2 - بقية حديث في فرنسا
للأستاذ عبد المنعم محمد خلاف
المقال الثاني
مما لم ينشر في سنة 1940 مضافا إليه بعض ما يتصل به
حديثاً
يذكر الذين شهدوا معرض باريس العالمي الأخير سنة 1937 شبه أقفاص أنهم رأوا في أقسام المستعمرات الفرنسية تضم أفراداً من الإنسان الأفريقي والإنسان الأسيوي الذين قضى على أممهم سوء الطالع أن تقع في براثن الاستعمار الفرنسي. وقد عرضوا على أعين الناس أشباه عرايا كأنهم أنواع من (الغورلا) أو (الشمبانزي) أو الوحوش. . . وزيادة في الإزراء بهم وكلوا حراستهم لجماعة من النساء العجائز.
هكذا سمعنا ممن شهدوا هذا المعرض، ولعلني رأيت صوراً لذلك في بعض المجلات المصرية او في دور السينما فيما أظن.
هذه واحدة لفرنسا حامية حقوق الإنسان! التي أوقعت في روع البسطاء أنها اتخذت من ثالوث الحرية والإرخاء والمساواة إلهاً سياسياً بشرت به معها أذنابها في بقاع الأرض.
لقد يغفر الله لفرنسا آثامها في نفسها وفساد حياتها وانحلال روابط الأخلاق فيها وما إلى ذلك من موابقات ومدمرات العمران. . . أما أن يغفر لها امتهانها كرامات الإنسان على هذا النحو وعلى رؤوس الأشهاد بعرضه هكذا، فذلك ما لا أظن الله مقدس الروح الإنساني ولو كان في جسمِ مِسْخٍ، وخالق الناس ألواناً وأجناساً شتى، قد تجاوز عنه لفرنسا!
ما أسعد العجزة والبُله والممسوخين وناقصي الخلقة في الشرق الإسلامي وخاصة في مصر! إنهم يعاونُون وتفاض عليهم ألوان الكرامة من القادرين الكاملين إلى درجة الاعتقاد بأنهم أولياء الله يتبرك بهم ويسعى إليهم ويعطف عليهم؛ لأن وراء النظرة إليهم إدراكاً من الناظرين أن الذي خلقنا كاملين هو خلقهم ناقصين، فهم غير مسئولين.
خلقتُ على ما فيّ غيرَ مخيَّر ... هواي ولو خُيَّرتُ كنت المهذبا
ولأن الناس يعتقدون أن الذي خلقهم هكذا ضعفاء وسط معترك الحياة لاشك سيتولى الدفاع عنهم والحماية لهم وامتهان من يمتهنهم.
ولكن الفرنسيين ينظرون إليهم كأنهم حيوانات بشرية في أفق أسفل. ونحن لا نريد أن ننظر إلى هؤلاء الناقصين نظرة الازدراء والإهدار، ولا نظرة التقديس والإكبار، فإن في كلتا النظريتين خروجاً على الصواب، ولكننا نريد أن نوازن بين حظ الروح الإنساني من التقديس في الشرق والهوان في فرنسا التي تزعم ويزعم لها أذنابها أنها حامية حقوق الإنسان. . . ونريد أيضاً أن نقول للذين يدافعون عن روح فرنسا: إنهم لو قضى عليهم سوء الطالع فوقعوا تحت نير الاستعمار الفرنسي ما كان يستعبد أن تحشر فرنسا أقاربهم من الفلاحين المحرومين من العلم والتهذيب والمدنية في أقفاص لتُفَكِّه بهم رواد معارضها تفريجاً عن قلوبهم - إن كان في هذا فرجة قلب - وزيادة في جلب وسائل إحاطتهم بالمعلومات. . .
وإن في القرى المصرية من ناقصي الخلقة الملونين بتغير اللون الأبيض أمثال من في بلاد شمال أفريقية والهند الصينية وجزر مدغشقر الذين عرضت منهم فرنسا نماذج.
يكاد يكون الإعجاب بفرنسا عند جمهور المدافعين عنها المحزونين على سقوطها يدور على محاور ثلاثة:
1 - مبادئ ثورتها التي زعموا أنها أول ثورة أعلنت حقوق الإنسان واتخذت من ثالوث الحرية والإخاء والمساواة إلهاً سياسياً.
2 - دنياها الفكرية والأدبية التي ينمو فيها كل رأي بدون حرج ولو كان فيه حتف الدولة والدين. . .
3 - دنيا باريس (ذات المائة درجة والمائة دركة) بما فيها من حقائق وأباطيل، وضلال وهدى، ورشد وسَفَه.
أما الثورة الفرنسية فلم أر ثورة حبطت في أرضها وضاع أكثر ما بذل من الدماء هباء منثوراً مثل حبوطها وضياع جهودها. . . ومع ذلك فقد ظفرت في الشرق الإسلامي وخاصة مصر بدعاية فتنت الشباب فتنة العمى، وأنستهم أن في مواريثهم الفكرية ولسياسية مبادئ أكمل وأكرم من مبادئها قد رآها التاريخ وسجلتها صحائفه قبل أن تثور فرنسا بألف ومائتي سنة. فلا ينبغي لهم أن يذكروها إلا بترتيبها التاريخي كصدى بعيد جداً للثورة الإسلامية الكبرى. ولكنا نحن العرب لسنا أمة فيها طفولة تحب الإعلان والطنطنة الجوفاء. . .
وللشباب معاذير من قصور البرامج الدراسية للتاريخ الإسلامي قصوراً معيباً. ووزر ذلك على الذين مسخوه ولم يكلوا دراسته للمؤمنين به الواقفين على أسراره، ومعاذيره من الدعاية العريضة التي تنفق عليها فرنسا (العلمانية) والكاثوليكية وتحشد لها الذين أفئدتهم هواء وأعينهم وشهواتهم ثقيلة، فانطلقوا يحرقون البخور ويفرشون الأزهار ويعطرون الأجواء لفرنسا والثقافة اللاتينية، ويقيمون من فرنسا تمثالاً أمام أعين الشباب للحرية والقوة والعلم والجمال حتى جهل الشباب الإسلامي والعربي أنهم أعرق في الحرية والمساواة وأعرف بهما، ولكن أممهم لا تحسن الإعلان.
ولقد مهد هؤلاء الدعاة للثقافة الفرنسية في نفوس المصريين، وطبعوا النفس المصرية بالطابع الفرنسي في المدرسة والبيت والذوق العام. . . وكان من الأنسب لنا إذا كان لابد من شيوع روح أجنبية فينا أن تشيع فينا الروح العالمية التي في أمريكا أو الروح بنوعيها: الإنكليزية والجرمانية، فأنها روح قائمة على الخلق والعلم والعمل وفن الحياة بالجسم والروح. ولكننا على الرغم من وجود الحكم الإنجليزي السياسي بيننا نيفاً وستين سنة لم ننتفع بأساليب الحياة الإنجليزية ولم تتأثر بها كما تأثرنا بالروح الفرنسية، ولو كنا تأثرنا بتلك التربية لكان لرجالنا من السياسة الإنجليزية موقف آخر عملي غير موقفهم الهستيري الكلامي الحزبي الفردي الطليق من أكثر القيود الوطنية المقدسة. والذي يماثل موقف رجال فرنسا في ديارها أشبه من الغراب بالغراب!
ولو كانت الثقافة الفرنسية مرضياً عنها عند الاجتماعيين والمفكرين الفرنسيين أنفسهم لكان لنا وجه من العذر في اقتفائها ولكن هؤلاء الاجتماعيين كثيرو الانتقاد والسخط عليها دائمو الإهابة بأمتهم للأخذ بثقافة أمم الشمال لأنها ثقافة عملية منتجة معتدلة خاضعة لأصول الأخلاق، وهي التي غيرت وجه الأرض وسيطرت على العالم.
قد يعذر الأوربي إذا وجد في الثورة الفرنسية بعض دواعي الإعجاب بجهاد قادتها ومؤرثي نارها في سبيل تحرير الفرنسيين من استبداد الملوك وجمود الكنيسة وطغيان أمراء الإقطاع، لأنه قد يجد فيها أمراً جديداً عظيماً غيّر الحياة الأوربية فيما مضى. . ولكن لا عذر لعربي عرف أبسط مبادئ الإسلام في العدالة والحرية والأخوة والمساواة، وقرأ تاريخ الثورة الإسلامية الكبرى التي غيرت وجه التاريخ وأعلنت ووطدت حقوق الإنسان وجسدتها في أشخاص أقاموا دولا مستقرة عمرت عمراً طويلاً.
هذا إذا تغاضى الأوربي عن الوحشية التي طبقت بها هذه الثورة فكشف عن قسوة النفس الفرنسية وإسرافها في سفك الدماء، وإذا تغاضى عن تقلبات تلك الثورة وسيرها على غير هدى وعقمها عن إنتاج النتائج المستمرة التي أثيرت من أجلها كما سارت ثورات الأمم العاقلة المعتدلة وأنتجت واطردت خطوات الأمة بعدها ولم ترتد على عقبيها كارتداد فرنسا بعد تلك الثورة الكبرى.
(فليس الفرنسيون شعب التطور التاريخي البطيء ولكن شعب التغيرات الثورية الفجائية. شعب قوى الاندفاع بلا (فرامل). وخط تطوره كثير التعرج والالتواءات؛ ففي آخر القرن الثامن عشر قلبت الأمة الفرنسية الحكومة الملكية باسم الديموقراطية والحرية، ومع ذلك لم تمض سنوات حتى عادت فرنسا إمبراطورية مطلقة ثم ارتدت فصارت ملكية محافظة! ثم تحولت إلى ملكية محافظة! ثم تحولت إلى ملكية برجوازية حرة؛ ثم كانت ثورة أخرى ردت الجمهورية الثانية. ثم انقلاب حكومي أعاد للسلطة إمبراطورا. فلا توجد على هذا أمة كفرنسا في اندفاعها وتحولها وانقلابها.)
وفي العهد الأخير قبل الحرب الحالية وصلت فرنسا إلى عهد من الانحلال السياسي، والاجتماعي جعلها تتهالك لأول صدمة مع عدوها التقليدي، وتتخلى عن حلفائها وتنال من نفسها بأقلام قادتها وتدبير رجالها. وقد صدق هرست - وهو من أشهر رجال الصحافة الأمريكية - حين قال. في صحفه عقب سقوط فرنسا بتاريخ 24 - 7 - 1940 (لم تكن فرنسا ديموقراطية ولا حليفة كبيرة ولا أهلا للنهوض بأعباء الديموقراطية، ولم تكن لها سياسة مقررة خاصة، بل كانت متقلبة في إخلاصها وحليفة لا يمكن الاعتماد عليها لبريطانيا التي تحمل المبدأ الديموقراطي الحقيقي في قرارة نفسها، ولما أقبلت الأزمة قصرت فرنسا ثم سقطت).
أما المحوران الثاني والثالث يقوم عليهما أيضاً الإعجاب بفرنسا، فقد كفاني مهمة تناولهما بالنقد الأستاذ المفكر الجليل ساطع الحصري بك الذي نشرت له الرسالة ذلك التحليل القيم (حول انهيار فرنسا) في الأعداد الثلاثة الماضية. بل إن التصريحات الحديثة المتكررة لمفكري فرنسا كمسيو هريو وغيره، التي يعلنون فيها تألمهم من انحطاط معنويات الروح الفرنسية وانطلاقها وراء الشهوات والمنافع الشخصية وكراهيتها للقيود المقدسة وارتدادها عن مبادئ ثورتها، وعدم فهمها لوحي الساعة ومقتضيات الظروف العالمية الحاضرة، مما تطالعنا به الصحف منذ سقوط فرنسا للآن لأكبر شاهد على أن فرنسا لا تصلح أن يكون لنا فيها أسوة ولثقافتها فينا تقليد وتأثير.
وإني لأوقن أن السر في بلبلة أخلاقنا نحن المصريين واضطراب مزاجنا بين الروح الشرقية الكريمة التي كانت لنا ولا تزال باقية في الريف، وبين ذلك الانسلاخ الشائن والتحلل البالغ في المدن إنما هو أثر من جوارنا للثقافة اللاتينية وخصوصاً الفرنسية وتأثرها بها.
وعلى ذكر مسيو (هريو) أود أن أجلو جانباً من عداوته هو الآخر للعرب وسعيه لعدم إنصافهم، وقد علمت بذلك الجانب حين كنت عضواً في (الجمعية الإسلامية الأسبانية) التي تأسست في مصر سنة 1934 برياسة الأستاذ عبد الرحمن بك وكان من أعضائها ذلك الرجل العظيم المغفور له فؤاد باشا سليم الحجازي. ومسيو (بونسو) أحد الأسبان بمصر. وكانت أغراضها تنمية العلاقات العربية الأسبانية وتوطيد الصداقة بينها تمشياً مع تلك الحركة المشكورة التي بدأها الجنرال فرانكو لإنصاف مغاربة المنطقة التي تحت النفوذ الأسباني من مراكش والتي كان من نتائجها الشروع في تأسيس جامعة عربية في مدريد تسمى (البيت العربي) لخدمة التراث العربي في أسبانيا ويكون فيها كراسي أستاذية بأسماء ملوك العرب الذين يساهمون في معاونتها. ودعت لذلك فعلا العلامة المرحوم الشيخ الخالدي الفلسطيني والعلامة المجاهد الأمير شكيب أرسلان للبحث والمشاورة، ووعد الملك فيصل الأول ملك العراق الراحل رحمه الله بالإنفاق على كرسي فيها، وابتدأت الحركة تسير خطوات نحو النجاح. فما كان فرنسا إلا أن أوفدت مسيو (هريو) إلى حكومة أسبانيا ليحبط هذا المشروع الجليل والمسعى الكريم محذراً أسبانيا من عواقب سياسة التسامح مع المراكشيين ومبدياً مخاوف فرنسا من تسرب (عدوى) هذه الحركة إلى مراكش الفرنسية والجزائر وتونس. . . وكان لفرنسا ما أرادت ووقف المشروع.
ويزور مسيو (هريو) مصر لتوطيد حياة المعاهد الفرنسية بها قبل الحرب فيبالغون في الاحتفال به ولا تلقي في أذنه كلمة عتاب. . . ويزورها أخيراً في طريقه من موسكو إلى فرنسا أثناء الاعتداء الفرنسي الأخير على الشقيقة سوريا فيحتفل به كذلك. . . ولا يقولون له ما كان يجب أن يقال في مثل هذا الظرف. كأن منادح البيان قد ضاقت عن أن تتسع للترحيب والعتاب في آن واحد!
عبد المنعم خلاف