مجلة الرسالة/العدد 627/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 627/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1945



أقصوصتان لتشيكوف

1 - ابتهاج

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

ما كادت الساعة تشرف على الثانية عشر مساء، حتى دلف ميتيا كلدروف إلى داره، أشعث الشعر، منفعل الوجه، مضطرب النفس. فهرع إليه والداه وكانا على وشك النوم، وكذلك شقيقته وكانت قد أتت على الصفحة الأخيرة من إحدى القصص. أما اخوته التلاميذ فأغرقوا في النوم.

وصاح والداه في دهش:

- من أين أقبلت! ماذا دهاك؟!

- لا تسألاني. . . لم أكن أتوقعها. . . أنها المستحيل بغير شك. . .!

وعجزت ساقاه عن حمله - لما غمره من السعادة - فتهالك على أحد المقاعد ضاحكاً مردداً:

- أنها المستحيل!. . . انظروا، فأنتم لا تتصورون مبلغ ذلك! فخفت إليه أخته - وقد أحاطت نفسها بدثار - واستيقظ الأطفال على صدى هذه الضجة.

- ما الذي حدث؟ إنك تبدو في غير طبيعتك!

- ذلك لأني لا أكاد أتمالك نفسي من الابتهاج، ألا تعلمين أن روسيا بأجمعها تعرفني الآن؟ تعرف ذلك الكاتب المسجل دمتري كلدروف؟

وعاد ميتيا يهرول في غرف المنزل من جديد، ثم لم يلبث أن أدركه الكلل والعناء فتهالك على المقعد ثانية، وشك الجميع في أنه قد أصيب بلوثة في عقله، فصاح ميتيا في سخرية:

- أنتم تعيشون هنا كالوحوش، لا تدركون ما يدور حولكم لأنكم لا تعيرون اهتماماً ما ينشر في الصحف من الأخبار الهامة، إن الصحف تذيع ما يطرأ من الحوادث الخطيرة، فلا تبقى خافية على الناس. . . يا إلهي، كم أنا سعيد. . . ألا تدرون؟ لقد نشرت الصحف أسمي كما تنشر أسماء العظماء المشهورين!

فهرع الأخوة نحو أخيهم وقال الوالد وقد علا وجهه شئ من الشحوب: - ماذا تعني؟ أين ذلك؟

-ماذا أعني لقد نُشر أسمي في الصحف وعرفتني الآن روسيا بأجمعها. . . انظروا. . .

وجذب ميتيا من جيبه نسخة من إحدى الصحف وناولها والده وأومأ إلى فقرة علامة زرقاء واضحة

- هلا قرتها؟

فثبت الأب نظارته أمام عينيه، أما الأم ففغرت فمها وقد ارتسم عليه شئ من البله، وراحت تتمتم في صوت خفيض، وارتفع بعد هنيهة صوت الوالد وهو يتلو الفقرة:

(في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 ديسمبر، بينما كان كاتب مسجل يدعى ديمتري كلدروف. . .)

فقاطع ميتيا والده قائلاُ:

- أسمعتم؟ استمر

(. . بينما كان كاتب مسجل يدعى ديمتري كلدروف يغادر إحدى حانات الخمر في حي (كوزهين) بمقاطعة (بورونيا) وهو في حالة سكر).

- أنه أنا يا والدي، وكان معي سيمون بتروفلش، أنهم يصفون الحادث أروع وصف. . . أنصتوا. . . استمر

(في حالة سكر، تعثر وهوى تحت حصان عربة للثلج، يقودها رجل ريفي يدعى (إيفان دروتوف) من قرية (دريكينو) بإقليم (يونفسكي) فهاج الحصان ووطئ كلدروف، ومرت العربة فوقه وانقلبت بالقرب من تاجر موسكو يعرف (بستيبان لكوف)، فتحطم ما كان بها من الثلج على قارعة الطريق، واستطاع نفر من الناس أن يقبضوا على زمام الحصان الجامح، وحمل كلدروف في غيبوبته إلى مركز الشرطة حيث فحصه الطبيب وكانت الإصابة التي أصابته في مؤخرة رأسه. . .)

وعاد ميتيا يقاطع والده:

- لقد كانت من نوتأ في العربة. . . أتمم الباقي. . .

(. . . التي أصابته في مؤخرة رأسه لم تكن بالخطيرة، وقد كتب تقرير عن الحادث وأسعف الجريح بالمساعدة الطبية اللازمة) وأخبروني إنه يجب موضع الإصابة بالماء البارد. . . أصدقتم الآن؟ إن روسيا جلها تعرفني أنا ديمتري كلدروف ناولنيها يا أبتاه!

والتقط ميتيا الصحيفة من والده وطواها، ودسها في جيبه،

وراح يقول:

- سأنطلق الآن إلى أصحابي ومعارفي لأنبئهم بأن ديمتري كلدروف قد ذاع صيته في روسيا. . . نعم سأريهم الصحيفة. وداعاً

وارتدى ديمتري قبعته الحمراء. . . وهرول إلى الطريق وملء جوانحه الزهو والابتهاج. . .

مصطفى جميل مرسي