انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 626/فرنسا على حقيقتها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 626/فرنسا على حقيقتها

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1945



للأستاذ علي الجندي

أعرف ـ كما يعرف غيري ـ أن فرنسا دولة لا دينية، ولكني أعرف كذلك أن فرنسا اللادينية هي التي تلقب ببنت الكنيسة البكر، وتزعم لنفسها حماية الكاثوليك في الشرق من غير أن يطلب منها أحد ذلك، وأعرف أنها تُضاهر بعثات التبشير في كل مكان بمالها ونفوذها العسكري والسياسي، وأنها تحرق المعابد وتهدم المساجد، وتقتل إخواننا المغاربة في ظل المحاريب، لأنهم هذه الدولة الغاشمة من ألوان العذاب! وأعرف أنها واقفة للإسلام بالمرصاد في مستعمراتها الشاسعة الواسعة، لتحولا دون نشره بقوة القانون وبقوة الإسلام! ويبلغ بها التعصب أن تمنع عشرة آلاف من سكان (مدغشقر) من اعتناقه بحجة أنهم لا يفرقون بين الإسلام وغيره من الأديان! بل يبلغ بها التنطع أن تقطع ما بين برابرة المغرب وبين الإسلام من أسباب؛ وتضرب بينهم وبين إخوانهم العرب بالأسداد، فتلغي المحاكم الشرعية، وتغلق المدارس الدينية، وتخرج القضاة والقراء ومشايخ الطرق وتمنع قراءة القرآن وتعليم اللغة العربية، وتلفِّق لهم الشريعة جديدة من قوانينهم العرفية، لتسلخهم من الإسلام دفعة واحدة بهذه الطرق الإبليسية!

نعم أعرف أن فرنسا دولة لادينية كما قلت، ولكني كنت أرى في الوقت نفسه هذه الأعمال التي تعيد لنا محاكم التفتيش في أبشع صورها! فأقف حائراً ذاهلاً بين هذه المفارقات المضحكة المبكية! حتى حل لي هذا الطلّسم المعقد حجة الإسلام المرحوم السيد رشيد رضا حين قال ذات يوم في عرض حديث عن فرنسا وأعمالها: إن الفرنسيين واللاتين عامة يتربون في حجور القساوسة قبل أن يتربوا في حجرات المدارس، ومن هذا كانت كراهتهم للإسلام وللمسلمين وللعرب خاصة! حتى ولو صاروا ملحدين.

وأعرف أيضاً تقليدياً أن شعار فرنسا: الحرية والإخاء والمساواة، وأنها تفتح صدرها لطرائد الاستبداد، وتُسبغ حمايتها على شذاذ الآفاق من كل جنس ولون، وأنها لا تبخل بمنح جنسيتها (الغالية) لكل من هب ودب - وإن قصدت من ذلك سد النقص المطرد في عدد سكانها ـ وأن عاصمتها مرتع خصيب لطلاب المعرفة وطلاب اللذة، وأنها عاصمة الفن وعاصمة اللهو، ومدينة النور ومدينة الظلام، وأن العدالة الاجتماعية بلغت فيها غاية مزيد بعدها لمستزيد، فرئيس جمهوريتها (مسيو) وماسح الأحذية (مسيو)، والعامل يتقاضى أجراً على الفراغ كما يتقاضاه على العمل! وأن حرية الأحزاب فيها وتمسكهم بآرائهم قضى ألا يزيد متوسط عمر لوزارات الفرنسية على ستة أشهر منذ قيام الجمهورية الثالثة إلى نشوب هذه الحرب

عرفت هذا جيداً وسمعت إلى جانبه هذه النعوت البراقة التي يخلعها إخواننا المتفرنسون على فرنسا من رقة ولين ودماثة وظرف حتى ليلذذ للأمريكيين أن يُلجئوا الفرنسيين إلى الإساءة ليستمتعوا بعد ذلك باعتذارهم الطيف بلغتهم الرشيقة! ولكني كنت أشاهد أن فرنسا سوط عذاب ونقمة على كل بلد يرفرف عليها علمها المثلث الألوان، فهي الدولة التي تخرج الأهليين قسراً من أرضهم الخصبة لتوزعها على المستعمرين من أبنائها، وتعمل جاهدة على فرنستهم في كل مرافق الحياة بقوة الحديد والنار، وتستنزف أموالهم بما تفرضه من ضرائب باهظة بلغت في سوريا من 70 % إلى 80 % على بعض المواد بعد أن كانت من 11 إلى 25 في العهد العثماني، وبما تنشئه من الوظائف ذوات المرتبات الضخمة للفرنسيين وصنائعهم وجواسيسهم، حتى ارتفعت ميزانية النفقات في سوريا من خمسة ملايين ليرة سورية في آخر العهد التركي إلى 31 مليون ليرة، وارتفع عدد الموظفين من ألف موظف منهم خمسون تركياً يتناولون مرتبات ضئيلة إلى 18223 موظفاً منهم 1500 من الفرنسيين بين مدني وعسكري يتناولون أضخم المرتبات عدا الامتيازات التي تفوق الحصر هذا إلى 475000 ليرة تدفع سنوياً للجيش الفرنسي! أي لغربان السنغال جزاء تنكيلهم بها!

وأشاهد أيضاً أن فنسا هي الدولة المتخصصة في تدمير القرى الآمنة ودك المدن الأثرية، وإحراق الزروع، وتسميم الماشية وموارد المياه، وانتهاك حرمات المنازل ونهب ما فيها، وتقتيل الشيوخ والنساء والأطفال، وإعدام الأحرار بالألوف، ونفي زعماء المجاهدين إلى جزيرة الشيطان، والإمعان في إذلال وطنية الشعوب وخنق روحها، حتى كان في تونس ناد ـ لعله لا يزال قائماً ـ كتب على واجهته (ممنوع دخول العرب والكلاب)!

كنت أرى وأسمع فأقف مضطرباً مشدوهاً بين هذه المتناقضات الفرنسية حتى كشف لي عن السر السيد الحسن بو عياد من أحرار مراكش ومجاهديها في أعمال زيارته لقاهرة منذ سنوات قال - وهو يقص علينا ظرفاً من أعمال فرنسا في مراكش - إن الفرنسيين في بلادنا، لقد قابلت مدير البريد في (مرسيليا) لبعض الشؤن، فبهرني برقته وسلاسة حاشيته، فلو أن الفرنسيين في مراكش كانوا من هذا الطراز المهذب الوديع لتشبثنا ببقائهم إذا أرادوا الخروج

من هذا الوقت عرفت أن الفرنسي ذو طبيعتين، فهو عذب دمث كيّس في فرنسا، وفظ عتل في كل بلد يُنكب بسيطرته عليه ولو كان في أوربا نفسها! فسياسة العسف التي سلكتها فرنسا إزاء الألمان عقب الحرب الماضية وتشددها في تقاضي التعويضات وتشجيعها زنوج السنغال على الاختلاط بالفتيات الألمانيات، وعجرفة النمر الفرنسي (كليمنصو) والنقطة المربعة (بوانكاريه) وخلفاؤهم من الغلاة أمثال (ترديو) و (برتو) القائلين: بأن المغلوب يظل مغلوباً أبداَ، وتمسكهم بمبدأ السلامة الإجماعية، وإصرارهم على نصوص معاهدات كان يصفها الساسة دائماً (بأنها عجة مصنوعة من بيض فاسد) ثم عدم مسايرتهم للسياسة الإنجليزية في تشجيع جمهورية (فيمار) الألمانية الناشئة، كل أولئك ممن أقوى الأسباب في إنبات هذا النبات الشيطاني المسمى (النازية) والتمهيد لقيام الطاغية (هتلر) وما استتبع ذلك من وقوع المأساة العالمية التي خرجت البلاد وأفنت العباد!

هذه هي فرنسا في صورتها الأصيلة: حرة مستبدة، لينة وقاسية، كيّسة ومتغطرسة، ومتمدينة ومتوحشة! ولكن حذار فهذه الجوانب الزاهية التي تلبس غلالة إنسانية في الظاهر، فاكهة محرمة على غير الفرنسيين! وهي بضاعة لم تصدر قط - وان تصدر - من (مرسيليا) و (بردو) و (الهافر) إلى الخارج!

فلا يعجبن الأستاذ سيد قطب من قول مجادله (إنك لم تعش في فرنسا) إلى آخر ما قال، فلهذا (البارزياني) بعض العذر، لأنه كان يتكلم وخياله عالق بضفاف السين وغابة بولونيا وعاملات الأزياء!

ولو أنه رنا ببصره إلى فاس والجزائر وتونس العانيات، والى دمشق وحمص وحماة الداميات، لتورع أن ينطق بهذا الهذر والهذيان!

علي الجندي