مجلة الرسالة/العدد 626/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 626/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 07 - 1945


9 - الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

الفصل السادس - جمال النساء

كان ذلك المنزل القديم الجميل المعروف باسم (أوتيل دي بيرون) الواقع في شارع هادئ على ضفة اليسرى لنهر السين بباريس - كان إلى عهد قريب مقراً لدير (قلب المقدس) ولكن بعد أن ألغيت الرهبنة النسوية شغله بضعة مستأجرين من بينهم رودان.

وللفنان كما رأينا مراسم أخرى في ميدون، وفي مستودع الرخام بباريس؛ غير أن له ولعاً خاصاً بهذا المنزل الذي بنى بالبلدة في القرن الثامن عشر لأسرة سطوة وجاه. وهو مسكن جميل تشتهيه نفس كل فنان، فغرفه الكبيرة عالية، بحوائطها حشوات بيض يطيف بها حُلّي بارزة مموهة بالزخرف واللون الأبيض. أما الغرفة التي اختارها رودان ليعمل فيها فمستديرة تطل نوافذها الفرنسية العالية على حديقة غناء أهملت وطال عليها الإهمال. ومع ذلك فلا زال من المستطاع متابعة صفوف الأشجار التي تقوم على حوافي الطرقات والممرات المعشوشبة ورؤية بعض النباتات الخضراء المقامة على العرائش وقد ركبتها أنجم متسلقة عجيبة وفي كل ربيع تتفتح الأزهار الناضرة من بين الحشائش الكثة التي تملأ حاشية الحديقة. ولا يتسنى لشيء أن يبعث في النفس كآبة حلوة أكثر من هذا المنظر الذي يتلاشى فيه عمل الإنسان ويمحى رويداً رويداً بيد الطبيعة القاهرة.

يقضي رودان أكثر وقته في الرسم بذلك المنزل. ويحب أن يخلو إلى نفسه في هذا المنعزل الهادئ، وستودع الورق أشكالاً لا أعداد لها من الأوضاع الجميلة التي تتخذها المثل البشرية أمام عينيه.

وفي مساء أحد الأيام كنت أنظر معه في طائفة من تلك الرسوم، وكنت أبدي إعجابي بتلك الخطوط المؤتلفة المتزنة التي استطاع بها أم يبرز كل انسجام الجسم الإنساني على الورق. أما الخطوط التي عملت بجرة واحدة قوية من جرات القلم فتبدأ حدة حركات أو فتوره وسكونها. وأما جمال التمثيل فيظهر بقليل من الظل يحدثه بإبهامه. وكان يبدو عليه وهو يدرس الرسوم كأنه يرجع بذاكرته مرة أخرى إلى المثل الحية التي أخذ عنها تلك الرسوم وعند ذلك صاح:

(آه يا لجمال أكتاف هذه المرأة! بالها من متعة عظيمة وما أجمله من منحن كامل الحسن! إن رسمي أثقل مما يجب. لقد حاولت كثيراً ولكن!! أنظر. هاهي ذي محاولة أخرى لنفس المرأة. إنها أقرب شبهاً بها. ومع ذلك!

(ثم أنظر إلى نحر هذه، وإلى ملاحة هذا الخط الممتلئ المحبوب. إن له رشاقة لا تشوبها شائبة.

وهنا سألته:

(يا أستاذ أمن السهل العثور على مثل جميلة؟) فقال:

(نعم) فقلت: (إذا فالجمال ليس في فرنسا.) فقال:

(كلا. إني أقرر لك ذلك.) فقلت: (ولكن خبرني. ألا تظن أن الجمال القديم يفوق جمالني الحديث، وأن النساء العصريات يقصرن عن أن يداين أمثال أولئك اللاتي أخذ عنهن فيدياس) فأجاب: (كلا، البتة.) فقلت (ومع هذا فجمال وكمال تماثيل زهرات الإغريق. . .) فقال: (كان لفناني ذلك العصر أعين يرون بها. أما فنانونا المعاصرون فعمي لا يبصرون. وهذا كل ما هنالك من فارق. كانت النساء الإغريق جميلات، ولكن ترعرع جمالهن قبل كل شئ في أذهان المثالين الذين نحتوهن. توجد اليوم نساء مثلهن تماماً وعلى الأخص بجنوب أوربا. فمثلاً ينتمي الإيطاليون المحدثون إلى نفس النوع الذي انتمت إليه مُثُل فيدياس. وأخص ما يميز هذا النوع هو اتساع الأكتاف والأرداف اتساعاً متساوياً) فقلت: (ولكن ألم تؤثر غزوة البرابرة في مستوى الجمال القديم بما نجم عنها من اختلاط في الجنس؟) فقال: (كلا. حتى إذا افترضنا أن البرابرة كانوا أقل جمالاً وتناسباً من جنس البحر المتوسط - وهذا محتمل - أقول حتى إذا افترضنا هذا فإن الزمن قد محا محواً تاماً كل عيب نشأ عن امتزاج الدم، وأعاد الانسجام إلى أجسام النوع القديم مرة أخرى. وإذا ما امتزج الجميل بالقبيح فأغلب الظن أن الغلبة تكون للجميل في النهاية. إن الطبيعة لتتجه دائماً أبداً - بقانون سماوي - وجهة الأحسن والأصلح، وتنحو ناحية الكمال بلا توقف.

ويوجد بجانب نوع البحر المتوسط نوع الشمال الذي تنتمي إليه بعض نساء فرنسا ونساء العنصر الجرماني والسلافي والذي نشاهد فيه الأرداف وافية التكوين والأكتاف ضيقة نوعاً. إنه من نوع ما نشاهد في حوريات جان جوجون وفي زهرة واتو التي بلوحته المسماة (حكم باريس)، وفي (ديانا) لهودون ونرى في هذا النوع أيضاً أن الصدر مرتفع بينهما نراه على نقيض ذلك مستوياً في النوع القديم ونوع البحر المتوسط. والحق أقول إن لكل نوع أو جنس من الأجناس جماله الخاص. والمسألة هي اكتشاف هذا الجمال. لقد رسمت بسرور شديد راقصات كمبوديا اللاتي حضرن مع مليكهن أخيراً إلى باريس؛ إذ أن للإشارات والحركات الصغيرة الرشيقة التي تصدر عن أعضائهن الجميلة جمالاً عجيباً مدهشاً.

ولقد عملت عدة دراسات عن الراقصة اليابانية هاناكو ذات العضلات القوية تبرز بروزاً واضحاً كما هو الحال في نوع الكلاب المسمى (فوكس تيريور). أما أربطة تلك العضلات فنامية لحد أن لمعاقدها ثخانة توازي ثخانة الأعضاء نفسها.

إنها لمن القوة بحيث تستطيع الوقوف على ساق واحدة لأي وقت تشاء، بينما تصنع بالأخرى زاوية مع جسمها فتبدو كأنها شجرة غرست في الأرض غرساً. ويختلف التشريح في جسم تلك الراقصة عما هو في أختها الغربية، ولكنه مع ذلك جميل كل الجمال في قوته الخاصة.)

وبعد هنيهة من الصمت عاد إلى الفكرة المحببة إليه قائلاً:

(قصارى القول يوجد الجمال في كل مكان. وليس هو الذي تفتقر إليه أعيننا، بل إن أعيننا هي التي تقصر عن إدراكه ورؤيته. فالجمال سجية وتعبير. هذا ولا يوجد شئ في الطبيعة له من السجية والتعبير أكثر مما للجسم الإنساني؛ فهو يبعث شتى الأخيلة المختلفة بقوته وجماله. فآناً نراه يشبهْ الزهرة بقوامه المائل الذي يكون بمثابة الساق منها، وبالثديين والرأس وجزالة الشعر وكلها بمثابة كأس الزهرة ونضارته. ونراه آناً آخر كالنبت المتسلق اللدن كالساق الفارعة المعتدلة يقول أو ليس لنوسيكا (كأني حينما أنظر إليك أرى نخلة باسقة بجزيرة ديلوس قريباً من مذبح أبوللو وقد نما فرعها الأوحد من الأرض إلى السماء). ثم إذا انحنى الجسم الإنساني قليلاً إلى الوراء كان كاللولب، أو كقوس جميلة يسدد عليها إيروس سهامه الخفية، وفي أحوال أخرى يبدو كالقارورة؛ ولطالما أمرت مِثالاً أن تجلس على الأرض بحيث تجعل ظهرها قبالتي، وذراعها وساقها متجمعة أمامها. ففي ذلك الوضع يبدو الظهر الذي يستدق قليلاُ نحو الوسط ثم يستعرض مرة أخرى عند الأرداف كأنه زهرية بديعة الشكل والتكوين.

وفوق كل هذا وذاك فالجسم الإنساني مرآة النفس، ومن النفس يستمد أعظم جماله. (يا لحم المرأة يا أعجوبة لعجائب، يا أعلى مراتب الطين وأسماها! يا أجلّ مستقر للروح من الحمأ المسنون! يا أيها الظرف المادي الذي تضيء فيه الروح كما لو كانت تضيء في أكفانها. أيها الصلصال الذي يرى المرء فيه انطباع أصابع الخالق المصور! أيها الطين الجليل الذي يستمطر القبلات ويستبي قلوب الرجال! بلغت من القدسية بحيث لا يُدرى إذا كانت الشهوات فيضاً الهيا، طالما كان الحب مسيطراً قاهراً والنفس منجذبة منقادة، بلغت من القدسية بحيث لا يسع المرء عندما تتأجج عواطفه وهو يحتضن الجمال إلا أن يتوهم أنه يعانق الإله)

(أي والله لقد أصاب فكتور هوجو كبد الحقيقة. إن أكثر ما نعشقه من الجسم الإنساني لا يقتصر على الظرف الخارجي الجميل، وإنما هو البس الداخلي الذي يخيل إلينا أنه يشتعل في جوفه ويضيئه.

دكتور محمد بهجت

قسم البساتين