مجلة الرسالة/العدد 623/عصرنا العجيب
مجلة الرسالة/العدد 623/عصرنا العجيب
للأستاذ عباس محمود العقاد
أعجب العصور في تاريخ الإنسان كله هو عصرنا الذي نحن فيه، ولا سيما هذا النصف الأول من القرن العشرين.
لك أن تلغي التاريخ كله مكتفياً بهذه السنين الأربعين أو الخمسين، لأنك واجد على اليقين مائة عبرة مكان كل عبرة تلغيها من تلك التواريخ الغابرة، ولأنك على يقين وأجدها أضعافاً مضاعفة، في القوة والكثرة والدلالة والوضوح.
لقد كانت السنون ينقضي في تواريخ الماضين عشراً بعد عشر، ومائة بعد مائة، بل ألفاً بعد ألف في بعض الأحايين، قبل أن يظهر للعالم رجل خطير يضطلع بأعباء حادث خطير، أو قبل أن تقام دولة وتسقط دولة، وقبل أن تنجلي للأبصار والبصائر بواعث القيام ودواعي السقوط.
أما اليوم فقيام الدول وسقوطها من أنباء الصباح والمساء، واختلاف العبر وتقلبات المقادير من ذكريات العمر الواحد الذي لم يتجاوز الثلاثين، ومسرح القدر كريم بالمآسي والملهيات يعرضها خمساً خمساً أو عشراً عشراً في وقت واحد، فلا يفوتك فصل هنا إلا عوضته بفصول هناك، ولا تذكر خيال يوربيبد وأرستفان وسفوكليس واسكايلاس وشسكبير إلا تلقيت حولك من نسج الواقع روايات مشهودة تفوق كل خيال.
موسوليني من بيت الحداد، إلى أزقة جنيف، إلى مظاهرات ميلان، إلى دست الحكم في روما القياصرة، إلى الصولة على العالم كله وهو في شرفات قصر البندقية يقعقع بالسلاح فيرتجف الأقوياء والضعفاء، ويحمدون الله على السلامة إذا انقضى ذلك الدعاء بغير النيران والدماء.
وموسوليني أيضاً من محب السلام يلقى بنفسه أمام القطار ليعوق حركة الجنود التي تغزو طرابلس، إلى مسعر للحرب لا يقوم ولا يقعد في حكمه إلا بثمانية ملايين من الحراب! وألوف الألوف من صرعى البلاد والخراب!
ثم موسوليني هو هو بعينه هارباً يتسلل على أبواب التخوم لا يزال يطمع في الحياة بما بقي له من سبائك الذهب وسلوى الغرام، ثم يفوته هذا المطمع الذليل فإذا هو معلق م قدميه لأنظار السابلة الشامتين، لا تسلم جثته بعد الموت من رصاصة انتقام وبصفة ازدراء
وهتلر سيد الألمان وصاحب الأمر المطاع في القارة التي تطلب الطاعة من جميع القارات. . .
من طفل مدلل، إلى جندي مخذول، إلى شريد على أبواب الصدقة في العاصمة النمسوية، إلى حلس قهوات في ميونخ عاصمة البافاريين، إلى وارث العرش العريق في برلين، وسيد الأمة المختارة كما قال بين أمم العالمين. كلمة فإذا العالم يتساءل ماذا يريد؟ وهمسة فإذا هي أجهر في الآذان من البروق والرعود، وحركة فإذا الأكف على الصدور، وغضبة فإذا المغرب والمشرق يتحدثان بالشرور وعظائم الأمور.
عاش ليفتح الأرض بما رحبت، ومات لتضن عليه الأرض بقبر من ألوف القبور.
وفي روسيا، أين دولة القياصرة ومن كان منهم يدعى بالأب الصغير إذا دعي الله بالأب الكبير؟
وفي القسطنطينية أين دولة الخواقين ومن كان منهم يدعى بظل الله وخليفة رسول الله؟
وفي أمة الفرس أين عرش الأكاسرة؟ وفي أمم الصين أين عرش أبناء السماء؟
لا تسل عن هؤلاء وسل عن لينين وكمال ورضا وشيان، وكلهم بين طالب منفي وجندي ناشئ وثائر مغضوب عليه.
ودع السياسة والحرب وانظر إلى النسك والزهادة تر في الهند ناسكاً حاسر الرأس حافي القدم ينازل الدولة التي صمدت للنزال، في ميادين السياسة وميادين القتال.
ودع النسك والزهادة وانظر إلى عواطف القلوب وخلجات النفوس تر العاهل العظيم الذي يتخلى عن ملكه ولا يتخلى عن زوجه وشريكة فؤاده وروحه.
ودع كل هذا وانظر إلى الصناعة والاختراع تر الإبداع الذي ينسيك كل إبداع: هاتف في أقصى المغرب تسمعه في لمحة عين وأنت على عشرات الألوف من الأميال، وطيارة تسابق الشمس فتذرع الشرق والغرب فيما بين ليلة ونهار.
ما من شيء في مصارع الدول ومقادير الشعوب، وما من شيء في مظاهر القوة بين مظهر خادع ومظهر صحيح. وما من شيء في أفانين الدعوة التي تقال ولا تقال، وما من شيء في أساليب الغلب بالسياسة أو بالسلاح، وما من شيء في موازيين التقدير ومقاييس النجاح والإخفاق، وما من عبرة في حياة الأمم أو الأفراد خلت منها هذه السنون الخمسون، أو نقص نصيبها منها عن نصيب الدهور متجمعات متلاحقات.
أفنحن سعداء بهذه الآونة العجيبة أم أشقياء؟
إن كانت السعادة وفرة الحياة وثروة التجربة فنحن سعداء، وإن كانت السعادة خلو البال من العبر والأحداث فنحن لا نغبط السعيد الخالي، لأن الخلو لم يكن قط بالنعيم الذي يعمر النفس ويحمده الأحياء.
فالعمر في هذا العصر الحافل لاشك أعمار، والحياة بين هذه العوالم لاشك حيوات، وما تخال أحداً يستبدل بأيامه في هذا العصر أياماً في العصور الأخريات ولديه سبب مفهوم.
قال قائل وقد كنت أذكر عجائب عصرنا: نعم ويخيل إلى أناس مع هذا أن العصر عصر باهت لا عجب فيه، وأن العجائب حق العجائب قد ذهبت مع ذاهب العصور، لأنهم يعجبون على البعد ولا يعجبون على القرب، ولا يعلمون أنهم يتعجبون إلا إذا قرءوا أنهم متعجبون!
وسأل سائل: لكن أليس بعجيب من هذا العصر أنه لم يبدع ملحمة من الشعر كملاحم الأقدمين، وما كانت طروادة وميادينها وأبطالها إلا حادثة من حوادث الأقسام في جوانب الحوادث التي مرت بأهل الزمان؟
قلت حذار يا أخانا أن تخطيء هذه الخطأة التي ينزلق إليها نقاد الظواهر مغمضين!. . . لو أن أدباء الملاحم الغابرة عاشوا في عصرنا هذا لما كان شأنهم غير شأن الأدباء الذين يعيشون فيه. لأن الاختلاف إنما يكون في النظر إلى الوقائع لا في ضخامة الوقائع ونصيبها من السعة والضجيج. وحذار يا صاح من كل رأي يسول لك أن تجرد الخلائق الآدمية في بعض الأجيال من سليقتهم التي طبعوا عليها في غير ذلك الجيل؛ فإن السليقة لا تتبدل إلا كما يتبدل الناس بين عصر اليقظة وعصر الغفلة والجمود، فإذا لم يكن العصر عصر غفلة أو جمود فسليقة النفس الآدمية واحدة من أقدم العصور إلى أحدث العصور، ولا سيما في مسائل الحسن والتعبير.
أما أن الأقدمين نظموا الملاحم فيما هو أهون من أعاجيب اليوم فإنما نظموها لأنهم كانوا يتلقون الحوادث بدهشة الخيال، ولا يستعظمونها مع هذا حتى يضفي عليها القدم ثوباً من الغموض والتهويل.
ولا كذلك يصنع المحدثون حين يتلقون الحوادث الكبر في عهدهم المشهود أو فيما غاب عنهم من العهود، لأن الحادثة الكبيرة تقع بينهم فإذا هي حيز في الصفيحة، وحديث في المذياع، وصورة على اللوحة البيضاء، وموضع للتحليل في كتاب، وباب للترجمة وسرد السير في سجل من سجلات التاريخ، ودرس من دروس الصناعة في المعامل أو معاهد التدريب. فقد شبع منها الحس واستنفدها اللسان، والحس إذا شبع من شيء لم يرجع به إلى دهشة الخيال؛ واللسان إذا استنفد القول تحليلاً وتعليلاً لم يبق منه بقية للغموض والتهويل.
ترى لو كان (هوميروس) قد شهد حصان طروادة صورة متحركة، وقرأ أبطال الإغريق كتباً مفصلة، وسمع المساجلات بينهم حديثاً مذاعاً أو أصداء على اللوحة البيضاء، وعلم أنه لا أرباب هناك ولا أنصاف أرباب، وأنه لا نبتون في البحر ولا زيوش على متن السحاب - أكان ينظم الإلياذة كما نظمها أو كان الناس يسمعونها منه كما سمعوها؟
إن الخيال يعمل حين يلجئه الخفاء إلى العمل، وإن المرء ليضفي حلل الخيال على الغانية في البرج المحجوب، ولكنه حين يراها إلى جانبه في الترام، وينظر إليها وهي تأكل الطعام، ويستمع إليها وهي تتكلم فتحسن الكلام أو لا تحسن الكلام، يفكر فيها كل تفكير يخطر على البال إلا أن يلحقها بأجواء الخيال.
ولسنا نعني بهذا أن الحوادث في عصرنا لم تبق بقية لخيال الشاعر وبديهة الفنان، ولكننا نعني أن النظريتين تختلفان وأن التخيل في عصرنا أصعب من التخيل في تلك العصور، فما كان يسيراً على هوميروس في أمام طروادة لن يتيسر له هذا اليسر في عصر دنكرك وستالنجراد.
نحن نشبع من تلك الحوادث حساً وفهماً فلا تعجب لها كما كانوا يعجبون وهم يتلقونها بالدهشة والخيال، وعلى هذا قد يمضي السنون الطوال قبل أن نحس ما نحن فيه كما ينبغي أن نحسه، وقبل أن نفهمه كما ينبغي أن نفهمه بمعزل عن الأهواء.
عباس محمود العقاد