مجلة الرسالة/العدد 623/حول انهيار فرنسا
مجلة الرسالة/العدد 623/حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
حينما انهارت فرنسا أحدث انهيارها المفاجئ هزة أرضية عالمية، دهش لها من دهش، وابتهج بها من ابتهج، وبكى بها من بكى. وكان الظن بكتاب العرب يومئذ وهم الذين اكتووا طويلاً بنار الاستعمار الفرنسي أن يتنفسوا الصعداء بزوال هذا الكابوس، ولكنهم انقادوا للنوازع الإنسانية والأدبية فيهم فكتبوا يرثون فرنسا ويرثون لها ويعطفون عليها، إلا هذا الكاتب المفكر الكبير فأنه عارض هذه النزعة وعالج الموضوع على ضوء الحقائق المجردة والوقائع الثابتة. ولم تتهيأ لنا الفرصة يومئذ لنشر هذه الآراء القيمة، فنشرها اليوم بمناسبة المأساة السورية فإنها جمرة متقدة من تلك النار، وأثر سيئ من آثار ذلك الانهيار.
. . . أخذ عدد غير قليل من الكتاب العرب يتبارون في نشر المقالات ونظم الأشعار، حول هذا الانهيار، وكان معظم ما كتب في هذا الموضوع (عاطفياً) بكل معنى الكلمة. كان أكثرها مراثي تندب حظ فرنسا، وتظهر أسفاً شديداً، وحزناً عميقاً على الكارثة التي حلت بها؛ وكان بعضها يغالي في الرثاء، إلى أن يبلغ به درجة البكاء. . .
غير أن هذه المراثي قوبلت بمعارضة شديدة، فقد حمل عليها بعض الكتاب حملات عنيفة وقالوا: كيف يجوز لكاتب عربي أن يبكي على فرنسا وينسى ما فعلته بالقسم الأعظم من البلاد العربية؟ كيف يجوز لمفكر عربي أن يرثي النكبة التي حلت بفرنسا وهو يعلم أنها كانت من أهم العوامل التي أنزلت أكبر النكبات بالأمة العربية وبخاصة بعد الحرب العالمية؟
احتدم الجدال بين الفريقين؛ وحاول كل فريق أن يبرر حسن عواطفه بمقالات حارة، أودع فيها كل ما أوتي من قوة البلاغة والبيان. . .
أنا من الذين يعتقدون أن الكتابات العاطفية تعبر عن نفسية كتابها الشخصية وخوالجهم الذاتية، فلا تتحمل المناقشة مناقشة علمية. . . غير أن أصحاب المراثي لم يكتفوا بإظهار عواطفهم وتثبيتها، بل أخذوا يدافعون عنها ويدعون إليها، وحاولوا أن يدعموها ببعض الآراء والنظريات السياسية والاجتماعية. .
فإذا جاز لنا أن نسكت تجاه (العواطف الشخصية)، فلا يجوز لنا أن نلزم مثل هذا السكوت تجاه الآراء والنظريات التي صارت تنشر لتبرير تلك العواطف. . .
لقد قال البعض (يجب أن نميز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية المستعمرة)، كما قال آخرون: (يجب علينا أن نفرق بين عمل الساسة وعمل الأمة كلها، فلا يجوز أن نعتبر الشعب الفرنسي مسؤولاً عن أعمال حكامه. .
فلننعم النظر في الآراء التي تتضمنها مثل هذه الأقوال. . ولنفكر جيداً: هل يمكن التمييز بين فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا المستعمرة تمييزاً حقيقياً؟
أنا لا أقول بذلك أبداً. . . لأن الأدب الفرنسي نفسه لم يلتزم الحياد تجاه السياسة الفرنسية بوجه عام وحيال السياسة الاستعمارية بوجه خاص. بل يعكس ذلك انبرى لخدمة تلك السياسة بكل الوسائل الممكنة. وقد كتب الأدباء عدداً لا يحصى من المقالات والخطب والأشعار والقصص والروايات التي تمجد الاستعمار وتزينه في النفوس، وتحث على الاستعمار وتحببه إلى القلوب. . .
إن دلائل ذلك تظهر للعيان من خلال جلسات الأكاديمية الفرنسية أيضاً. لأن هذه الندوة الأدبية العليا قد حرصت على كل الحرص على أن تختار بعض أعضائها من بين رجال السياسة والجيش، كما اختارتهم أحياناً من بين صناديد الاستعمار. وهؤلاء لم يتجردوا من نزعاتهم السياسية والاستعمارية عند دخولهم قاعة اجتماع تلك الندوة حتى أنهم لم يترددوا أحياناً في اتخاذ تلك القاعة منبر لإسماع آرائهم الاستعمارية في خطب أدبية رائعة.
ولعل أقرب وأوضح الأدلة على ذلك انتخاب الماريشال (ليوتي) عضواً في الأكاديمية المذكورة. ومن المعلوم أن هذا الماريشال يعتبر من أكبر رجال الاستعمار، فقد لقبه الفرنسيون بلقب (الأفريقي) - تقليداً لما فعله الرومان في القرون الأولى، عندما خلعوا مثل هذا اللقب على (اسجسيون) بعد تمكنه من تدمير قرطاجنة. إن الأكاديمية الفرنسية انتخبت الماريشال ليوتي عضواً بها، أفتدرون ماذا كان موضوع (خطبة القبول) التي افتتحت حياته الأكاديمية وفقاً لتقاليد الندوة الأدبية المذكورة؟. . . كان موضوع الخطبة (الاستعمار). . .
اقرءوا الخطبة المذكورة تجدوها قطعة أدبية رائعة في مدح الاستعمار وتمجيده. . . إنها تشرح فوائد الاستعمار المادية والمعنوية بأسلوب حار بليغ، وتدعوا إلى (الإيمان) بضرورته لحياة فرنسا! (لأن الاستعمار - مصدر هام للقوة والثروة، ومنبع لا ينبض للجيش، وساحة تدريب وتكوين للقواد. . . ولأن الأمم المحرومة من المستعمرات تكون جانحة إلى الركود والجمود الروحي. . .)
أعتقد أن هذه الخطبة من أبرز الأمثلة والأدلة على تداخل وتشابك الأدب والاستعمار؛ فلا يجوز لنا إذن أن نقول بوجوب التمييز بين (فرنسا الأدبية المتمدنة وفرنسا السياسية الاستعمارية) بوجه من الوجوه.
وأما إذا قيل: (أن القصد من التمييز المبحوث عنه، هو (تقدير الأدب الفرنسي) في حد ذاته، بقطع النظام عن السياسة الفرنسية والاستعمار الفرنسي)، فأنا أسلم بصحة هذا الرأي، غير أنني أقول بلا تردد: إذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى داع ولا مبرر للرثاء. . . لأن (الأدب الفرنسي) ظل خارجاً عن حدود النكبات؛ فإن النكبة التي نحن بصددها حلت بالدولة الفرنسية والجيش الفرنسي لا بالأدب الفرنسي. . .
لأن انهيار الجيش لا يستوجب انهيار الأدب، والاندحار في ميادين الحرب والسياسة لا يستلزم الاندحار في ميادين الأدب والثقافة. .
إنني أستطيع أن أخطو خطوة أخرى في هذا السبيل فأقول:
(إن مثل هذه النكبات قد لا تخلوا من الفائدة إلى الأدب، لأنها قد تكون منبتاً خصباً للإنتاج الأدبي. فإن الآلام والأتراح تكون - بوجه عام - أفعل من الأفراح في إثارة العواطف، وتوليد الأدب الرائع. . .
وعلى كل حال فإن نظرية التمييز بين فرنسا الأدبية وفرنسا الاستعمارية لا تستند على أساس قويم من هذه الوجهة أيضاً.
وأما القول في وجوب التفريق بين الشعب والحكام وعدم اعتبار الشعب مسؤولاً عن أعمال الحكام. . . فهو غريب جداً، ولا سيما بالنسبة إلى فرنسا التي تفخر وتباهي بالديمقراطية والجمهورية والإدارة الشعبية. . .
أنا لا أنكر أن الحكام قد يستطيعون في بعض الأحوال أن يجروا شعبهم إلى الاتجاه الذي يريدونه؛ غير أنني أعتقد أن ذلك الاتجاه لا يمكن أن يستمر طويلاً إذا لم يأت موافقاً لنزعات الشعب ويجد هوى في أمياله النفسية. . .
ومن المعلوم أن (الاستعمار) لم يكن من الحوادث العارضة في تاريخ فرنسا. . . بل أن تاريخ الاستعمار هناك طويل وطويل جداً؛ حتى أن بدء الاستعمار الفرنسي للبلاد العربية نفسها يعود إلى أكثر من قرن. فإن فرنسا بدأت حملتها على الجزائر سنة 1830 وقد مضى على ذلك التاريخ قرن كامل مع عقد من السنين. . . غيرت فرنسا (نظام حكمها) - خلال هذه المدة أربعة مرات بل خمساً، انتقلت من الملكية إلى الجمهورية، فالإمبراطورية، ثم عادت إلى الجمهورية. والآن أخذت تجرب شكلاً جديداً من نظام الحكم. . . مع هذا لم تنحرف عن سلوكها الاستعماري طوال هذه المدة وخلال هذه النظم المختلفة. فإنها أتمت استعمارها للجزائر بين شتى الانقلابات السياسية، واستولت على تونس سنة 882، وبسطت حمايتها على مراكش سنة 1911، واستولت على سورية، وأتمت استعمارها للمغرب الأقصى بعد الحرب العالمية. . . وقد توالى خلال هذه المدة الطويلة عدة أجيال، ونشأ وتنازع في غضونها عشرات الأحزاب، وتولى الأمر فيها عشرات وعشرات من الحكومات المتضارية النزعات. . . ومع كل هذا، لقد ظل (العمل الاستعماري) هو هو، دون أن يتوقف أو يتغير من جراء تبدل نظم الحكم، أو تعاقب الحكومات وتوالي الأجيال. . . فلا يجوز لنا أن نسلم بأن (الاستعمار الفرنسي) من أعمال حكام فرنسا، فلا يعتبر الشعب مسؤولاً عنه. . .)
هذا، ومما يسترعي النظر، أن معظم ما كتب في رثاء فرنسا وفي الدفاع عن ذلك الرثاء - في اللغة العربية - يظُهر آثار افتتان غريب بها ومغالاة شديدة في اعتبارها أرقى شعوب الأرض على الإطلاق. . .
فقد قال أحد الكتاب (إن المساواة في العدل الاجتماعي لم تكد تتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلاَّ في فرنسا). . . كما قال كاتب آخر: (لم يثر ثائر على الاستعمار في مشرق أو مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب).
وقال أحدهم (لا أعرف فرداً قد ربى فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربى في الرجل الفرنسي).
وقد صاح أحد الكتاب قائلاً: (إن قوة الألمان فيض من قوتك يا باريس) كما خلع كاتب آخر على فرنسا سلسلة نعوت خارقة مثل (مبعث النور والحرية ومهد الاختراعات)
إن معظم هذه المدعيات تخالف الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما أن ما تبقي منها ينطوي على مغالاة صارخة. . .
فإن التاريخ يذكر لنا عشرات الثورات التي قامت قبل ثورة باريس المعلومة. الفرنسيون أنفسهم يعترفون بأنهم تأخروا كثيراً في تحقيق المساواة في العدل الاجتماعي. كما أن معظم مفكريهم يشكون بمرارة ضعف الوازع الشخصي في نفوس مواطنيهم، ويحسدون بصراحة بعض الأمم من جراء الوازع الشخصي المبحوث عنه. . .
وأما نعت فرنسا (ببعث النور ومهد الاختراعات) واعتبار الفرنسيين أرقى شعوب الأرض على الإطلاق، فإن كان ذلك من الدعاوى التي كان يمكن الدفاع عنها في دور من أدوار التاريخ، فقد اصبح من القضايا التي لا يمكن التسليم بها في الدور الذي نعيش فيه الآن. . .
لقد فنّد الفيلسوف الإنكليزي الشهير (هربرت سبنسر) الأسطورة القائلة (بتفرق الفرنسيين) على جميع شعوب الأرض في (المدخل) الذي كتبه لعلم الاجتماع، قبل نحو سبعة عقود من السنين، وانتقد انتقاداً لاذعاً المبالغات المفرطة التي كانت تلقب فرنسا بلقب (محررة الأمم)، والتي كانت تدعي بأن أندراس باريس يعني انطفاء مشعل المدنية.
أنا لا اشك في أن مثل هذه المبالغات التي استشارت انتقادات هذا الفيلسوف عندئذ، قد أصبحت أشد بعداً عن الحقيقة الآن، وأجدر بالانتقاد الشديد في هذا الزمان.
لا أنكر أن فرنسا كانت أرقى بلاد العالم في دور من أدوار التاريخ؛ هذا الدور هو العهد الذي يمتد بين أواسط القرن السابع عشر وأواخر الثامن عشر، وأعزف أن البعض من المفكرين الذين استعرضوا تاريخ أوربا استعراضاً فلسفياً، ولاحظوا تتابع دور الإقطاع ودور الانبعاث (قد سموا الدور الذين نحن بصدده باسم (الدور الفرنسي)؛ غير أنني أعرف أيضاً أن ذلك الدور قد مضى وانطمس في أغوار التاريخ منذ مدة طويلة؛ لأن حالة أوربا وحالة العالم تبدلت تبدلاً هائلاً خلال القرن التاسع عشر، فلم تستطع فرنسا أن تحتفظ بمنزلتها السابقة بين هذه التبدلات والتقلبات العالمية الهائلة. أنا لا أود أن أقول: أن فرنسا تأخرت منذ ذلك الحين؛ غير إنني أقول أن أمماً ودولاً أخرى قامت ونهضت بسرعة هائلة منذ ذلك العهد فأخذت تتسابق مع فرنسا تسابقاً عنيفاً في جميع ميادين التقدم والرقي. . . وقد لحقتها في معظم الميادين، بل سبقتها في بعض الميادين. فقد خرجت الحضارة العصرية من سيادة فرنسا المعنوية منذ مدة غير قصيرة، ففقدت فرنسا بذلك مكانتها السابقة بصورة قطعية.
مع هذا لا تزال تتمسك بالشهرة التي كانت اكتسبتها سابقاً، بالرغم من حرمانها من التفوق الذي كانت أحرزته قبلا في هذا المضمار.
إنني أشبه منزلة فرنسا وشهرتها المزعومة بمكانة (الوجوه والأعيان) الذين يتمتعون في بعض المجتمعات بشهرة المكانة التي كانوا امتازوا بها قبلا، دون أن يعترفوا بسمو المكانة التي قد أحرزوها غيرهم بكل جدارة واستحقاق.
وكما أن بعض الناس يتأثرون - عادة - بالشهرة السابقة دون أن يلتفتوا إلى (الحالة اللاحقة) فإن بعض كتابنا ظلوا تحت تأثير شهرة فرنسا السابقة، دون أن يعرضوا هذه الشهرة إلى حكم الأحوال الحالية ويزنوها بالموازين الجديدة.
(البقية في العدد القادم)