مجلة الرسالة/العدد 622/التعليم ووحدة الأمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 622/التعليم ووحدة الأمة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 06 - 1945



- 5 -

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

يسرنا أن نشهد في هذه الأيام شيئاً من الاهتمام بمسائل التعليم وإصلاحه فقد رأينا نقاشاً يتردد بين بعض رجال التعليم في الجرائد والصحف الأسبوعية ما يدل على هذا الاهتمام وعلى أن وزارة المعارف ترحب بالآراء الجديدة التي تتناول المشاكل التعليمية وتعمل لإنماء روح البحث والاجتهاد في هذا الموضوع الجليل الشأن. غير أني أرجو أنم يتحول البحث إلى المسائل التي في الصميم والتي تتغلغل في روح المدرسة وروح النهضة التعليمية التي تنشدها البلاد.

فالبحث الذي دار فيه النقاش والجدل أخيراً كان خاصاً بزيادة مرحلة وسطى بين مرحلتي التعليم العام. والتعليم العام سواء اشتمل على مرحلتين أو ثلاث مراحل هو في حاجة ماسة إلى إصلاح أهم وأعم لا يتناول مراحله فحسب، بل يتناول نظمه ويتناول روحه حتى نحصل منه على الثمار المرجوة. ولقد تناول صديقنا الأستاذ فريد أبو حددي إحدى مسائله الهامة في العدد 333 من الثقافة. تناول مسألة المعالم فطالب وزارة المعارف إذا شاءت أن تعد البلاد للمستقبل الذي تنشده أمم العالم جميعاً أن تتجه اتجاهاً جدياً إلى المعلم، وطالب الدولة كلها بأن تعين وزارة المعارف على ذلك وأن تحلها من كل قيد وأن تبذل لها من عنايتها ما يمكنها من أن تجعل المعلم روحاً يبعث الحركة في ناشئة البلاد. وهذا مطلب لا نشك في أهميته ولا في عدالته ولا في ضرورته للنهضة التعليمية. ولقد سبق أن طالبنا الأمة به في مواقف كثيرة، وسبق أن أوضحنا ما للمعلم من اثر فعال في تكوين أبنائه وفي بناء نهضة هذه البلاد، وأنه هو العامل الحي الذي يبث في النشء ويبصرهم بأمور الدنيا ويفتح عيونهم على ما يجري حولهم في الحياة. وهو القدوة الحية أمامهم يحاكونه في أعمالهم ويتخذونه مثلا أعلى لهم ويقلدونه في حركاتهم وسكناتهم ويلجأون إليه في معضلاتهم. وإذا كنا نشكو اليوم ما في المدرسة من جمود وخمود وما في تلاميذها من استهتار وقلة تبصر وعدم اهتمام بمسائل الحياة وعدم إقدام خريجيها على العمل الحر المنتج فإنما يرجع الكثير من ذلك إلى خمود العلم وجموده، وإلى سيره في حياته على طريقة أوتوماتيكية خالية من البحث والتفكير والابتكار. وله العذر في ذلك لأن الحالة القائمة بين جدران المدارس وفي تقدير كفايات المدرسين وأعمالهم لا تشجع مع الأسف على شيء من ذلك. فمعلم اليوم مكبل بقيود ونظم وتقاليد لا تسمح له بالتفكير في مستقبل تلاميذه إلا في دائرة محدودة جداً هي دائرة المنهج المقرر وعدم الخروج عنه لأي سبب من الأسباب، والعمل على إنهاء دراسته في المدة المحدودة له حتى يستطيع طلابه اجتياز الامتحان. وهذا هو كل ما هو مسئول عنه. فهو بذلك معذور حقاً إذا لم يحاول أي عمل أكثر من إلقائه الدرس المليء بالمعلومات التي لا تمت إلى الحياة بصلة في الغالب مكررا على أسماع تلاميذه برغم أنوفهم تلك المعلومات التي لا تثير ميولهم ولا غرائزهم ولا تثير فيه ميلا إلى البحث والتفكير؛ لأن ما ذكره في الأعلام الماضية يجئ فيكرره في عامه الحاضر دون تنويع أو تحوير ما دامت الطريقة التي اتبعها من قبل قد أرضت المفتش والناظر وأدت إلى نجاح معظم تلاميذه في الامتحان. هو معذور إذا لم يعمل عملا ما لتحسين حال تلاميذه من الوجهتين الصحية والخلقية لأن المدرسة لا يعنيها ذلك. وهو معذور إذا لم يحاول أن يعرف تلاميذه شيئاً عن الحياة وما يحيط بهم منها وما يتعلق بها داخل المدرسة وخارجها، لأنه إن فعل ذلك أجهد نفسه فيما لا يقدره أحد ولا يشجعه أحد؛ ويجد نفسه قد أضاع جزءا من الوقت الثمين المخصص لإنهاء المنهج الذي لا يقدر رؤساؤه غيره، فلا بد له من ملء الأدمغة وحشوها بكل ما جاء فيه مهما كان نوعه ومهما كانت قيمته بالنسبة إلى ميول التلاميذ. وما عليه من بأس ما دام قد خلق المنهج في أدمغة التلاميذ سواء اعرفوا شيئاً عن الحياة بعد ذلك أم لم يعرفوا. ثم هو معذور إذا لم يعرف شيئاً عما يجري في مختلف البلاد المتحضرة من آراء حديثة وأفكار جديدة في التربية والتعليم لأنه لا يتابع قراءة شيء عن ذلك. ولعل أكثر من تسعين في المائة من المعلمين لم يقرءوا شيئاً من مقالاتي هذه لما يستشعرون من رؤسائهم من عدم اهتمام أو عدم تقدير لكل تفكير جديد. ثم نحن محاطون بكثير من المدارس الأجنبية المنتشرة في البلاد التي تتبع طرقاً في التعليم غير طريقتنا. فمن يا ترى من رجالنا فكر في الاتصال بها ومعرفة شيء مما يجري بين جدارنها! فالمعلم المسكين لا يفتح عينيه إلا على تلاميذه ومنهجه ودرسه! ثم هو معذور إذا لم يتعاون مع زملائه التعاون الضروري لرفع مستوى التعليم في معهده وتكوين الجماعات التعاونية بين طلابه؛ لأنه مشغول بنفسه وبالدفاع عن قضية عيشه في أوساط تكلفه أكثر مما يطيق وتغمط حقه في الحياة ولا تقدر مسئولياته فيها؛ ولأنه مشغول بالكر والفر بين زملاء يتنافر الكثيرون منهم معه في الثقافة والتكوين ولا يتفقون معه في الآراء ولا ينسجمون معه في العاطفة والروح بطبيعة اختلاف ثقافاتهم باختلاف المعاهد التي نشأوا فيها.

لذلك نكلف المعلم شططا إذا نحن طالبناه بالخروج عن جموده إلى العمل الجدي والنهوض بتلاميذه وبمدرسته، لأنه مقيد بقيود تقف حجر عثرة في سبيله بعضها يرجع إلى البيئة المحيطة به وبعضها يرجع إلى التصرفات التي تجري في محيطه التعليمي. فهو غالباً لم يدخل مهنة التعليم لحبه لها وشغفه بها كما يدخل غيره في باق المهن. معنى ذلك أنه مسوق إلى العمل في مهنته برغم ميوله وإرادته. ولقد اثبت هذا الرأي من زمن بعيد الخبير الفني المسيو كلاباريد في تقريره عن حالة التعليم في مصر تحت عنوان (النزعة البيداجوجية) إذ لاحظ أنه من بين الـ 69 طالباً بمدرسة المعلمين العليا الذين وجهت إليهم أسئلة عن سبب اختيارهم لمهنة التعليم لم يختر منهم هذه المهنة بدافع الميل غير 31 طالباً أي أقل من النصف؛ وأن كثيرين منهم التحقوا بهذا المعهد لأن معاهد أخرى رفضت قبولهم. ومعنى ذلك أن عدداً ليس بالقليل من المشتغلين فعلا بالمهنة البيداجوجية لا تتوفر فيهم النزعة الغريزية إليها. فإذا كانت هذه الحالة في مدرسة المعلمين العليا سنة 1929 قبل إلغائها فإن الحالة لا زالت هي هي في معهد التربية الذي أنشئ على أنقاضها وفي دار العلوم وفي معاهد المعلمين والمعلمات التي امتلأت بالفتيان والفتيات لا رغبة في مهنة التعليم وحبا فيها في كسب العيش عن طريقها. ولذلك فإنا لا نجد في خريجي هذه المعاهد من القائمين بأمر التعليم الآن إلا أناساً مسوقين بحكم وظائفهم مجبرين على العمل الذين يقومون به لا محبين فيه. ويزيد نفورهم من المهنة ما يقاسون فيها من عناء وكد وإجحاف بالحقوق بالنسبة لأقرانهم وزملائهم في المهن الأخرى. وما يقاسون فيها من تنافس وتنافر غير مشروع بينهم يظهر من آن لآن بسبب النزعات والثقافات المختلفة. ولذلك فإنا مقتنعون بأن الحجر الأساس في بناء نهضة التعليم في مصر ينحصر في تشويق الشباب إلى المهنة وتحبيهم فيها بما يجب أن يوجد فيها من مغريات ومشجعات لا أثر لها فيها اليوم، كما ينحصر في العمل الجدي على توحيد ثقافات المعلمين بضم معاهدهم المتنافرة المتناحرة بعضها إلى بعض في معهد واحد ليكون الجميع يداً واحدة متناصرين متعاونين متجهين جميعاً الاتجاه الصحيح في تفكيرهم وبحوثهم وعملهم في سبيل وحدة الأمة المنشودة. وإنه لن يتم للبلاد ما ينادي به الزعيم الوطني الكبير علي ماهر باشا في أن يتحد أبناؤها اتحاداً شاملاً حرا وأن يكون هذا الاتحاد اتحاد في القرية واتحاد في الإقليم واتحاداً في عاصمة البلاد كما ذكر رفعته في حديثه لمراسِل جديدة الأهرام بتاريخ 11 مايو سنة 1945؛ أقول لن تتم تلك الوحدة العزيزة المنشودة إلا إذا وضعنا أساسها بين معاهد تخريج المعلمين من اليوم ليكون المعلمون على مر الزمان دعاة تلك الوحدة وأنصارها والقابضين على زمامها في القرية والمدينة والعاصمة. ولتكون المدرسة نواة الإصلاح الحق في بناء تلك الوحدة وتدعيمها كما هو الحال عند غيرنا من الأمم التي سبقتنا في مضمار الحياة الحرة الكريمة. وإنا لنغتبط كل الاغتباط بما جاء في سياق حديث رفعته الممتع من حماس للوحدة القومية إذ قال: (وما دام الحق واحدا لا يتعدد فالوحدة القومية التي فيها إنقاذ شرف الأمة يجب أن تكتسح كل من يقف في سبيلها).

لهذا نأمل أن يعمل العاملون في بناء هذه الوحدة فوراً على وضع أساسها وتدعيم جدرانها بتوحيد معاهد المعلمين وتوحيد ثقافاتهم حتى يبني البناء الشامخ على أساس وطيد سليم لا تزعزعه العواطف بل لا تزيده إلا تماسكاً وقوة وعزة ورفعة.

عبد الحميد فهمي مطر