مجلة الرسالة/العدد 621/الحياة صادقة!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 621/الحياة صادقة!

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 05 - 1945



بين الصوفية البلهاء والمادية الصماء!

للأستاذ عبد المنعم خلاف

الاعتراف بما أخرجته الحياة - السبيل إلى تعديل المادية الصماء - المجال الخصيب للجهد البشري - قضية لا شك فيها - الفكر والعمل - موازنة - عوامل الحياة أمينة - كفاح الحياة لحفظ الأحياء - إشارات إلى المستقبل

كل ما تجده في الحياة يجب الاعتراف به وعدم إسقاطه من حسابنا. . . فإذا ثبت أنه ينمي عوامل الحياة، وأنه من وسائل تقدمها المادي والمعنوي، فهو إذا من عالم الخير والصلاح، ويجب الوقوف في صفه والدفاع عنه والإكثار منه. . . وإذا ثبت أنه من عوامل الإفناء والفساد، أو من معوقات تقدم الحياة، وسبب الوقوف في وجهه ومكافحته وإفناؤه.

وعلى هذا ينبغي ألا نثور على أي عامل من عوامل نمو الحياة وصلاحها، مهما بدا فيه تكليفاً مجهداً، كما ينبغي ألا نبقى على أي عامل من عوامل فساد الحياة، مهما بدا أن فيه لذة عاجلة.

ومصلحة الاجتماع البشري كله هي محور هذا؛ لأن حياة الاجتماع هي طريق الترقي والقدرة على تسخير عوامل الطبيعة. فلسنا نستطيع السير وراء النظريات التي تنظر إلى الأفراد كوحدات مستقلة عندما نتحدث عن الإنسانية العامة، بل لا نستطيع السير في هذا المقام وراء النظريات التي تنظر إلى الشعوب والأمم كوحدات مستقلة، وإنما نسير وراء النظرية التي ترى إنسانية واحدة أما طبيعة واحدة!

تلك أولى المقدمات في السبيل إلى إدراك صدق الحياة، وتصور ما بها تصوراً صحيحاً، وتصحيح عقائد الناس فيها، وحملهم على الكفاح لإسعاد أنفسهم في رحلتهم إلى الأرض أولاً، وإلى الملكوت الذي ينتظرهم بعدها ثانياً.

ولكن مع الأسف يحاول كثير من الأدباء والفلاسفة والصوفية أن يفروا من وجه الحياة وينطلقوا مما يسمونه سجونها وأقفاصها، ويقللوا من قيمة الجانب المادي فيها ويقللوا تبعاً لذلك من قيمة الجهد الصناعي الإنساني، ولا يعترفوا بالأجسام والشخوص والشكول الواضحة التي تملأ الحواس، وتشغل الوعي الذي وراءها، وتثير كفاية العمل إلى تقليده ومحاكاة نماذجها. . . كأنهم لا يرضيهم إلا أن تكون الدنيا رموزاً مبهمة وأفكاراً طليقة غير محدودة ولا مبلورة. . .

إن المادة التي بها يضيقون ذرعاً، ويحاولون أن ينفلتوا من سجونها وأقفاصها خلق عجيب لا يليق بنا أن نزعم تفاهة اتصال النفس به وإعمال الفكر به. وإن أساطين العلم في حيرة من أمر نشوئها وتعدد عناصرها. وقد خلقنا فيها وصورنا منها، لندركها ونتعرف إليها ونتعجب. . .

إننا ندرك الله تعالى وقدرته وعلمه من عمله البديع في دولة الأجسام والأشكال. . . ولم يأخذنا جميعاً إليه بأي ليل إلا من الأدلة المبثوثة فيها أو المرتبطة بها. . .

إنها من نوعية أسراره، ومجلي أنواره التي يرسلها إلى عقولنا وقلوبنا حتى نهتدي إليه ونؤمن به من غير أن نراه.

فلماذا تلك الحملة عليها والإزراء بها والتهوين من شأنها؛ كأننا صرنا خالقين مبدعين قد أبدعنا شيئاً غيرها أو ظفرنا جميعاً بأمر عجيب خارج عن نطاقها!

قد يكون من المعقول أن نتطلع إلى القدرة التي أبدعت الطبيعة متلهفين إليها أن تطلعنا على عجائب ما لا نراه مثل ما أرتنا من هذا العجب الذي نراه؛ فإن هذا دليل على شدة الحساسية ويقظة الأشواق وحسن الإدراك والتقدير لتلك القدرة. . . ولكن ليس من المعقول أن نحقر ما نراه ونزري به ونزعم أنه تافه؛ فتنبو عنه حواسنا وعقولنا، ونبحث عما عداه من المخبوء، ونتطلع إلى ما وراءه مع أننا لم نفرغ من استيعابه وإدراك جميع أسراره.

ويحاول آخرون أن يفضلوا حياة الأقدمين الحالمين العجزة الجهلة على المحدثين القادرين، ما دامت الحياة الحاضرة قد جرت هذه المتاعب وهذه الضجة الآلية التي ملأت اليابس والماء والهواء فأقلقتهم. فمذهب هؤلاء وأولئك بالطبع غير ملائم لنمو الحياة وأطراد تقدمها، فيجب إهداره وعدم الالتفات إليه؛ لأنه مذهب فيه ارتداد وانتكاس وتشاؤم ومقاومة لدورة الفلك التي اعتقد أنها تجري بالناس إلى غاية صالحة لابد من الوصول إليها، لأن الله لم يخلق هذا العالم الإنساني لكي يضيعه أو يعوقه أو يفوت على نفسه الغاية من خلقه.

هو مذهب يحول بين معتنقيه وبين حياة القوة والسيادة على مرافق الطبيعة، وهي سيادة لا يظفر بها من اتصل بها اتصالاً وثيقاً وتعرف إلى الأسرار المكنونة فيها ولم يقف عند حد ما دامت الطبيعة تفتح له أبوابها وترفع أستارها. . .

ومع أن مذاهب الإزراء والتحقير للمادة وشئونها والتشاؤم والنظر إلى الوراء دائماً والانتقاض على الحاضر، لم تظفر في مرحلة من مراحل تاريخ الإنسانية، ومع أن الإنسانية لم تلتفت لقائليها أي التفات يبرز مضغ قضاياها وترديد دعواتها. . . نجد كثيرين من الدعاة الدينين والفلاسفة والشعراء يصرون على إحياء الدعوة إليها وتحكيمها في الحياة وإفهام الناس أن في الأخذ بها عقلاً وحكمة وإصابة لأهداف الحياة. . . واعتقادي أن أكثر الإخفاق في تعديل العقلية المادية الصماء وتقليل جشعها وتوسيع ضيقها راجع إلى هذه المغالاة من هؤلاء السادة في إهدار القيم المادية للحياة، وإلى مبالغتهم في تجريد الحياة الإنسانية من ملابسات المادة، وإلى افتراء أكثرهم في إلصاق مذهبهم هذا بالمسألة الدينية التعبدية التي هي لباب القلب البشري ومصباح العقل الإنساني. حتى لقد اعرض وأجفل كثير جداً من الناس من الإقبال على الله والاعتقاد به، وحاول كثير منهم أن يخفتوا صوته المجلجل في ضمائرهم ويتجنبوا التفكير فيه، حتى لا يحرمهم ذلك تذوق الحياة في دنياهم والعمل المادي فيها والإحساس بها والتمتع بطيباتها التي رأوا هؤلاء المتشائمين المحرومين يقبحونها وينفرون عنها، ويزعمون أنها عبث ومأساة وخديعة ومجلبة لسخط الله وخذلانه. . .

لقد ثبت أن المادة هي مجال عمل إنساني خصب ثابت دائم النفع للإنسانية جميعها، وأنها هي الشيء الوحيد الذي تلتقي فيه الإنسانية بأفكارها وأيديها، وترتفق منه مرافق نفعها جميعاً.

أما المذاهب والفلسفات النظرية فلم تلتق فيها للآن، فلا غرو إذا كان الإكثار منها والإسراف فيها مما يزيد الإنسانية افتراقاً وبلبلة وتقطع أمر.

وقد يجد أنصار الشك سبيلاً إلى كل قضية فكرية، ويستطيعون أن يلبسوا فيها حقاً بباطل، ويقيناً بشك، إلا قضية فكرية واحدة، هي قضية (تفوق) الإنسان واطراد تقدمه المادي المبني على أساس إدراكه أسراراً من الطبيعة. وهذا يجعلنا نتيجة إلى إعطاء هذا الجانب من حياته أعظم اهتمام، حتى نخترق به حجاباً وراء حجاب مما يدنينا من الراحة والسعادة والعلم بالأسرار؛ بل يجب أن نتخذ هذا الجانب العظيم في الإنسان أساساً للإيمان به وبصدق الحياة كما هي ثابتة في فكره العام. وإن هذا يعطي المثبتين لحقائق الأشياء حججاً دامغة، ويقضي على مذاهب السفسطة والتشكيك. بل متى اتخذ هذا الجانب العظيم أساساً للوحدة الإنسانية الشاملة التي طالما دعا إليها النظريون فلم يستمع إليهم إلا الأقلون؛ لأنهم اعتمدوا على نظريات تختلف باختلاف الأجناس والبقاع، وليست عامة يراها سكان الأرض جميعاً رؤية واحدة ويخضعون لنتائجها خضوعاً واحداً كما هو الحال في رؤيتهم وخضوعهم لنتائج الأبحاث الطبيعة ذات الآثار الواحدة في جميع الأمكنة والأزمان.

ولقد أثبتت سيادة الغرب على الشرق أن عالم القوة المادية هو أساس حياة الحق وعمادها، وأن الحق المجرد لا يعدو أن يكون فكرة فاكر، أو حلم حالم، ما لم تبرزه القوة المادية وتجسمه في أشخاص وآلات.

وبعد أن رأينا مردة الجو والبحر والبر يقذفون القنابل مصارع لراهبات الكنائس، وأطفال المدارس، وعجائز المنازل، وغير هؤلاء من عباد السلام والحق والرحمة: كيف يصح لنا أن نقول إن هناك حقاً يدافع وحده عن نفسه أمام باطل مدرع ببأسه؟!

وبعد أن رأينا أمماً كأمم الهند وشمال أفريقية تعبد الله بالأقوال والأشعار، وتسبح بحمد الحق ليل نهار منذ مئات السنين، يحمها ذلك أمام سيادة القوة وجبروتها؟!

إننا لم نجد غير الأقوياء بالقوة المادية مضطلعين بأعباء الحياة الاجتماعية، فهم أسرع الذين يؤثرون في الأخلاق وفي سير الحياة، ومن عداهم فلا تأثير لهم في مجرى الحياة إلا بمقدار ما تسمح القوة المادية بدراسة آرائهم ومذاهبهم. فلو أن ذوي الأفكار العليا والأخلاق الكاملة التمسوا القوة المادية كالتماسهم الحق، وأثروا بها في مجرى حياة الجماهير، إذا ما وجدنا هذا التخلف الفظيع بين حياة الفكر والخلق وحياة الواقع.

مهما صفا الفكر وامتلأ بالخواطر الراجحة الكريمة فلن يجدي المجتمع جدوى واسعة متعدية، إلا إذا عاونته اليد بوسائل تنفيذ ما يمتلئ به.

ومها امتلأت المعابد فلن يجدي امتلاؤها الحياة شيئاً، إلا إذا امتلأت الشوارع والمعامل والأسواق والحقول والجيوش بمن ينفذ روح العبادة في هذه المجالات.

كل فكرة معرضة للفناء السريع، أو للركود والدفن في الصحف، إذا لم يسعفها التجسيم والتشكيل والتطبيق.

والفكرة إذا جسمت في قالب دخلت باب الوجود الحسي، وصارت محلاً للتحسين والنمو والتجميل ممن يأتي بعد صاحبها الأول. أما إذا تركت حيث انبثقت فهي كائن موقوت من عالم الأطياف!

فيا رجال التصوف والشعر من كل جنس! لا تحاولوا أن تصرفوا الناس عن حياتهم المادية، فقد صارت جميلة معقدة منوعة مغرية ذات قيمة كبيرة وسلطان على النفوس؛ وحاولوا أن تفهموا أنتم وأن تفهموا الناس أن الدين جزء من الحياة، وليس منفصلاً عنها إلا في جزاءاته الموعودة في المصير الآجل المحتوم.

ومن السهل إفهام الناس ذلك في هذا العصر الذي اتسعت فيه أدوات الإقناع والتأثير.

اجعلوه امتدادا لأحلام الناس في السعادة والجمال الذي يفتهم من دنياهم، ولا تجعلوه حرماناً وخواطر وضعف تشاؤم وبكاء.

اجعلوا الأخرى صورة كاملة مضخمة دائمة من هذه الدار الناقصة الفانية

ومن السهل أن تجدوا من منطق العقل ومنطق الوجدان ومنطق القدرة العملية للإنسان حججاً للإقناع. . .

أيهما أوقع في النفس وأشد إثارة لابتهاجها بالحياة؛ وأدعى إلى الفرح بالإنسانية: أن نظهر الوحدات الإنسانية في حشود استعراضاتها النظمية والرياضية، ومواكبها الفنية التي تظهر جمال أجسامها وإشراق ديباجة الحياة بها. . . أم أن نظهرها في أفراد منثورة وزمر مبعثرة من الفقراء الضعاف العجزة الجهلاء المهزولين المكتئبين المتشائمين، الذين يقتلهم الصمت والعزلة والوحشة، قد طمست نظرة الحياة في وجوههم، وانطفأ نورها من عيونهم، وخمدت شعلتها في قلوبهم، وتعطلت أيهم من العمل، وأذهانهم من العلم فليس لهم مهارة في مهنة، أو أثاره من علوم الدنيا؟

لاشك أن رؤية استعراض عسكري أو نظامي أو رياضي كاف أن يقذف في قلوب المتشائمين شعلاً وشحناً كهربائية تردهم إلى الفرح بالحياة والحماس لها، وللمعيشة بالأجسام عيشة رحبة، إن كانوا ذوي طبع سليم يستجيب لعوامل الحياة.

أننا نستطيع أن نقول: أن أجسام الإنسانية ما هي إلا نبات، كماله وظهور أسراره والابتهاج به يكون عن طريق تصحيح أعواده وتقويتها وتجميلها إلى آخر حدود الصحة والجمال.

وإذا تفتحت أجسامنا في صحة وقوة وجمال كما تتفتح الأزهار وتنضج الثمار، حملنا ذلك على أن نحب الحياة وتحبنا، مادمنا قد جعلنا عقولنا وقلوبنا كمناطق النمو التي في النبات، محفوظة من الآفات وعوامل الفساد. وإن كل تنظيم جسمي ومادي مما يكون في ذات الإنسان أو في مرافق حياته يزيد في ثقة الإنسانية بنفسها، ويوضح أسرارها، ويجلو امتيازها على غيرها.

وقد تدخلت يد الإنسان في نبات الحقول، ووزعت البذور بحيث ينال كل منها حظه وحقه من الماء والهواء والضوء، وتنبت أعواده متباعداً بعضها عن بعض بدون احتكاك وطغيان، وسهرت عينه عليها فحرستها من الآفات والجراثيم الضارة، فخرجت أعواده وأوراقه وثماره مخضلة وارفة راقصة، تعطي الأرض الجمال والنماء وسداد الاحتياجات.

وكذلك فعلت مع الحيوان، فأحسنت نسله وتخيرته ومنعت طغيان بعضه على بعضه؛ وروضته واستأنسته حتى صار منظره في المراعي والحظائر كذلك يعطي الأرض جمالاً ورواء ومنافع.

فما بال يد الإنسان لا تتدخل في مناطق نمو النفوس والأجسام الإنسانية بالتعليم والتهذيب والترتيب والتجميل، بل تركتها تنمو نمواً (شيطانياً) متطاغياً؟

ولقد أرى الوجه المشوه الأكمه المجدور القبيح المركب على جسم مهزول، والحامل للسان قذر وعقل ممسوخ، فأقول: هل يجوز أن تخرج ثمرة بطبيعتها إلى الحياة هذا الخروج؟! أم أن هناك اعتداء على عوامل التكوين والتجميل التي تولت إخراج هذه الثمرة منع عنها الصحة والجمال؟!

إنه اعتداء مسلسل في الأنسال المنحدرة في أجيال الجهالة والضلال. . .

فاسألوا الأمراض الخبيثة الوراثية، وسلوا الأغذية السامة، وسلوا الإهمال الشائن للأبوة والأمومة؛ ولا تتهموا عوامل التكوين الأمينة الدقيقة.

إن كفاح الحيلة الإنسانية في سبيل حفظ ذاتها كفاح هائل! فبرغم عوامل الفناء والدمار قد كثر عدد الإنسانية كثرة غصت بها أكثر بقاع الأرض خصوبة، وضوعف عدد كل أمة أضعافاً مضاعفة، وصارت مجموعات الناس وتشكيلاتهم أمراً لا يقاس به ما كان لهم في القديم. وهذا مما يدل على أن شجرة الحياة الإنسانية وفصائلها خلقت للنمو والصحة والقوة والإنتاج، وملء المسرح الأرضي الذي قدر عليها أن تمثل دوراً فيه.

فنمو العدد، ونمو صحة الأجسام، ونمو العلوم، ونمو الاختبارات والتجارب. . . كل أولئك إشارات بليغة من حياة صادقة إلى مستقبل سعيد لهذا النوع الذي لما يعرف أسراره بعد!. . .

عبد المنعم خلاف