مجلة الرسالة/العدد 618/نهاية دكتاتورين!
مجلة الرسالة/العدد 618/نهاية دكتاتورين!
عمرك الله، أهي نهاية دكتاتورين، أم نهاية دولتين، وعبودية أمتين، وعبرة الدهر لمن يسول له الحمق الآدمي أن يطاول الله في سمائه، ويصرف الأقدار في أرضه؟!
سبحانك ربنا ما أبلغ حكمتك وأعدل حكمك! كأنما يقضي عدلك المطلق بين آدم وإبليس في صراع الخير والشر أن ترسل من الجحيم رسلاً للفساد، كنيرون وجنكيز وهتلر، كما أرسلت من الجنة رسلا للصلاح، كموسى وعيسى ومحمد! وإلا فكيف يتصور عقلنا المحدود أن رجلا كسائر الرجال، فيه الخطل والجهل والعجز والهوى، وليس فيه إيمان لوثر، ولا سياسية بسمرك، ولا أدب جوته، ولا فلسفة نيتشة، يستطيع أن يسيطر على ستين مليوناً من الجنس الأوربي الممتاز، وأن يسخرهم اثني عشر عاماً في ابتكار افظع ما يتصور الذهن الجبار المجرم من وسائل الفتك وآلات الدمار، فابتكروا من المهلكات المعجزات ما لو وجهوه إلى الخير لعمرت الأرض، وأنفقوا من الأموال والثمرات ما لو سلطوه على الفقر لسعدت الدنيا. ولو أن هذا الشقي وأحلافه فعلوا ذلك فساعدوا الخير بمبتكرات العلم، وأشاعوا الغنى ببراعات الإنتاج، لكانت رسالتهم أكرم وسيادتهم أعم ومجدهم أخلد؛ ولكنهم لم يهيئوا بطبائعهم لهذا الأمر لحكمه يريدها الله من هذا الكون العجيب الذي يحيا بالموت، ويصلح بالفساد، ويتجدد بالبلى، ويقتات بعضه ببعضه، ويتربص كله بكله!
نعم هلك الطاغيتان موسوليني وهتلر في أسبوع واحد بعد أن ظلا ستة أعوام ينشران الفزع والجوع والموت والخراب والحداد في كل أمة وفي كل آسرة وفي كل نفس، دون أن يعصم الناس من كل أولئك عاصم من دفاع أو ملجأ أو بعاد أو حيدة. ومن سخر الأقدار أن الفوهرر الذي كان يدعو إلى النازية في مشرب من مشارب البيرة في ميونخ، يقتل وهو يدافع في برلين فيهوي على قاعدة مدفع؛ وأن ألدتشي الذي كان يخطب للفاشية على ظهر مدفع في البندقية، يصرع وهو يفر إلى الحدود فيخر على صدر مومس!! والحق أن هاتين الميتتين: ميتة الأسد لزعيم الألمان، وميتة الكلب لزعيم الطليان، هما الخاتمان اللذان صاغتهما الحوادث للزعيمين من معدن الأمتين ليطبعهما التاريخ على وثيقة هذه المجزرة البشرية فيرمز بهما الى نفس كل زعيم وطبيعة كل أمة! وفي المجرمين تفاوت في الطباع يدعو بعضها إلى الإكبار وبعضها إلى الإصغار؛ ولكن اللص الإيطالي الذي يغتالك خف بالموسى، لا يختلف في رأي القانون عن اللص الأمريكي الذي يقتلك جهرة بالمسدس؛ وليس في الأجرام تفاضل ولا في الشر خيار.
انبعث هذان المسيخان من ركنين متجاورين من أركان التمدن الحديث، فاستوحيا الشيطان دينين جديدين يجعلان الآخرة للدنيا، والأمة للفرد، والعقل للهوى، والعلم للشر، والحضارة للدمار، والحياة للموت. ثم خرجت هاتان النحلتان من الكهوف والمواخير وانتشرتا في جواء برلين وروما انتشار الظلام المضل والغاز الخانق، فعميت عيون كانت ترى، وغبيت قلوب كانت تفقه. ثم هتكت النازية أستار الدول بالجواسيس، وبلبلت عقائد الناس بالدعاية، واشترت ضمائر الساسة بالمنى، وبثت في دخيلة كل أمة دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحمية في كل رأس، حتى تركت القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم رمت جوانب الأرض وخوافق السماء بالموت الوحي في شتى أشكاله وأهواله، فأصبحت أوروبا الجميلة خليطاً من الأنقاض والأشلاء، ومزيجاً من الدموع والدماء، وانبسط الطغيان المحوري على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً للأحياء وقبوراً للموتى. ثم وقفت الديمقراطية من الدكتاتورية موقف الفريسة المرتاعة تنظر إلى الناب البارز، أو الشهيد الصابر ينتظر هوي الحسام المصلت؛ ولكننا قلنا يومئذ والأمل في النصر كبصيص المنارة الخافت على محيط من اليأس يموج بالظلام والهول: إن الفوز مكفول للديمقراطية، لأنها هي الصحة التي انتهى إليها جسم الإنسانية العليل؛ إما الطغيان والبربرية فهما نكسة المرض؛ والنكسة خلل عارض لا يلبث بحسن علاج الطبيب وصدق إيمان المريض أن يزول. وقد صدق الله هذا القول، فانهارت النازية على نفسها وأهلها انهيار الطود الأشم فلم تدع خنزوانة في رأس طاغية ولا أملاً في صدر طامع.
والدكتاتورية نظام من أنظمة الحكم الشاذ يقتضيه حال ويستوجبه جيل ويستسيغه زمن؛ ولكنه كالعلاج بالسم إذا زاد مقداره قتل. وعيب الدكتاتور الصالح أنه يعرف كيف يبتدئ ولا يعرف كيف ينتهي. إنه عجلة من غير فرملة، يحمل عليها أمته المتلكئة المتخلفة، ثم ينطلق بها انطلاق الطائرة المطاردة لا يلوى على شيء، حتى إذا غلا في السرعة وأوغل في المسير أعياه الوقوف فيضل في مفازة سحيقة، أو يتردى في هاوية عميقة.
والطاغية إذا ركب رأسه تنكر للنصح وتمرد على المشورة. فهو يسكت أقطاب الرأي ليتكلم، ويؤخر أبطال القيادة ليتقدم. والغالب أنه يجيد القول ولكنه يزور، ويحسن العمل ولكنه يطيش. وما زلنا قريب عهد بشقشقة هتلر وثرثرة موسوليني، فقد كانا يقولان القول ولا يصدقان فيه، ويعدان الوعد ولا يبران به؛ لأن الاستبداد بالرأي ينفى التبعة، والاعتداد بالنفس يلغى الرقابة؛ والتبعة والرقابة مزيتا الديمقراطية. ومن ذلك كانت خطب تشرشل وروزفلت وثائق يستشهد بها السياسي ويعتمد عليها المؤرخ. والديمقراطية تنظر إلى الشي من جهاته الست، وتسلك إلى الغاية طرقها المختلفة؛ ولكن الطغيان لا ينظر إلى الشي إلا من الجهة التي تجذبه، ولا يسلك إلى الغاية إلا الطريق التي تعجبه. ثم يحمل الشعب على رأيه ونهجه بالإرهاب المستمر، والتعليم المسموم، والتربية الآلية، والدعاية المغشوشة، فلا يجوز لصوت أن يرتفع بتعريف أو إنكار، ولا ينبغي لأحد أن يقول للقاطرة الرعناء إلى أين تذهبين بالقطار!
الآن، وقد تحطمت النازية بعد أن تحدث بجبروتها سنة الله وقوة الطبيعة، وارتفعت أيدي الأبالسة عن منشأ هذه الرجفة العامة من الأرض، وأخذت غواشي الليل الطويل تتكشف عن فجر السلام المشرق، وأوشكت الإنسانية المكروبة أن تجد نفساً من الرجاء وروحاً من الطمأنينة، وآن لقادة الحديد والنار أن يتركوا الميدان لساسة الرأي والهوى، الآن يجمل بالأقطاب الثلاثة أو الأربعة الذين يقرون اليوم مصا ير الأمم والشعوب أن يتخذوا لهم من أهوال ست سنين موعظة وعبرة. يجمل بهم أن يذكروا وهم حول الموائد الخضر تلك الميادين الحمر فتتمثل لعيونهم تلك القذائف الجهنمية تذرو أجساد الشباب كما تذرو العاصفة غشاء الهشيم! يجمل بهم أن يذكروا وهم ينعمون بالحفلات الساهرة بعد المناقشات الثائرة، تلك الدور الحزينة التي خلت من عائلها الكادح، وفتاها الشابل، وأنسها الأنيس، وعيشها الآمن، فترد على خواطرهم تلك المآسي الدامية التي مثلتها الحرب في كل مكان! نعم يجمل بهؤلاء الأقطاب أن يذ كروا أنهم أنقذوا المدينة هذه المرة أيضاً بأعجوبة. وليست الأعاجيب والمعجزات مما يكشف أو يخترع؛ إنما هي الفرص والمصادفات تسنح أو تبرح كما يشاء القدر. إنهم إذا ذكروا كل أولئك كانوا حريين ألا يقبلوا في مؤتمر الصلح مندوبين عن أصحاب الجلالة: الاستئثار والاستعمار وبسط النفوذ! وإذن يتمتع العالم بسلم طويلة يضمد فيها جروحه يستأنف بها سيرة.
احمد حسن الزيات