مجلة الرسالة/العدد 618/من تاريخ الأدب الفرنسي
مجلة الرسالة/العدد 618/من تاريخ الأدب الفرنسي
بوفون وحديثه عن الأسلوب
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
(بقية ما نشر في العد الماضي)
ولاشيء كذلك أيضاً يضاد الفصاحة الحقة إلا استخدام هذه الخواطر الضعيفة والبحث عن الأفكار السطحية المنحلة التي لا صلابة فيها، والتي تشبه أوراقاً معدنية مطروقة لا تنال اللمعان إلا بفقدان الصلابة، وكلما أفرغنا من هذه الروح الضعيفة اللامعة في مؤلف قل نصيبه من القوة والوضوح والحرارة والأسلوب، إلا إذا كانت هذه الروح هي الغرض من الموضوع، ولم يكن للكاتب هدف إلا الفكاهة. إن فن الحديث عن الأشياء الصغيرة ربما كان أصعب من الحديث عن الأمور العظيمة.
لاشيء أكثر مضادة للطبيعة السليمة إلا التعب الذي يتكلف للتعبير عن أشياء عادية أو شائعة بطريقة شاذة أو مبهرجة، ولا شيء ينزل الكاتب عن درجته أكثر من ذلك؛ ففضلاً عن عدم الإعجاب به يلام لأنه قضى وقتاً طويلاً في تركيب مقاطع جديدة لأجل ألا يقول إلا ما يقوله كل الناس. هذا عيب النفوس المتعلمة العقيم، فلديها كلمات كثيرة، ولا أفكار عندها. مجال عملها إذا الكلمات، وتتخيل أنها كونت فكراً ما دامت قد رصت جملاً. وأنها قد نقت اللغة في حين أنها قد أتلفتها بتغير معناها هؤلاء الكتاب ليس لهم أسلوب، أو - إن شئت أن تقول - ليس لهم منه سوى الظل. إن الأسلوب يجب أن ينقش بالأفكار، وهم لا يعرفون إلا أن يرسموا ألفاظاً.
للكتابة الجيدة إذاً يجب امتلاك ناصية الموضوع امتلاكاً تاماً، والتفكير فيه تفكيراً كافياً حتى يرى الكاتب بوضوح نظام عناصره، ويكونها متتابعة، ويجعل منها سلسلة متصلة فيها كل نقطة تمثل فكرة، وعندما يأخذ القلم يجب أن يعالج الموضوع يالتوالي مبتدئاً بالنقطة الأولى من غير أن يسمح له بتركها، أو أن يعنى بالعناصر عناية غير متساوية، أو أن يضع عنصراً في مكان غير مكانه المحدد له والذي يجب أن يشغله. بهذا تبدو صراحة الأسلوب، وذلك أيضاً هو الذي يجعل منه وحدة، وينظم سرعته، وهو فقط ما يكفي لأن يجع الأسلوب دقيقا بسيطا متساوياً، واضحاً، حياً، متتابعاً.
إذا ضم إلى هذه القاعدة الأولى التي يكفل تحقيقها الموهبة - الرقة، والذوق، والدقة في اختيار التعبيرات، والعناية بألا تسمى الأشياء إلا بأكثر الأسماء عمومية حاز الأسلوب نبلاً، وإذا ضم إلى ذلك أيضاً الاحتراس من أول انفعال والاحتقار لكل ما ليس فيه سوى البريق والنفور الدائم من الإبهام والسخرية، نال الأسلوب رصانة وجلالاً أيضاً. وأخيراً إذا كتب الإنسان كما يفكر، وإذا كان مقتنعاً بما يريد أن يقنع به سواه، أنتج هذا الاقتناع الذي يرتاح إليه الغير، وصدق الأسلوب - كل آثارهما على شريطه ألا يعبر عن هذا الاقتناع الداخلي بعبارات حماسية قوية، وأن يكون دائماً، التحرز أكثر من الثقة، والتعقل أكثر من التحمس.
هكذا، أيها السادة، يبدو لي وأنا أقرؤكم أنكم حدثتموني وعلمتموني: وإن روحي التي تلقت بشراهة إلهامات الحكمة هذه رغبت في القفز والارتقاء إليكم؛ وما أضيعها من جهود. إن القواعد، كما قلتم أيضاً، لن تحل محل الموهبة، فهي إذا فقدت أصبحت القواعد غير مجدية. فالكتابة الجيدة هي التفكير الجيد والشعور الصادق والإبانة الممتازة مجتمعة معاً، هي أن يجتمع للمرء ذكاء وإحساس وذوق. وإن الأسلوب يتطلب اجتماع القوى العقلية وتمرينها. والأفكار وحدها تكون روح الأسلوب، وتناسق الكلمات ليس إلا تابعاً، ولا يتعلق إلا بحساسية الأعضاء. ويكفي أن تكون لك أذن دقيقة نوعا ما لتتجنب تنافر الكلم، ويكفي أن تمرنها وتكملها بقراءة الشعراء والخطباء، لتندفع بدون وعي إلى تقليد التناسق الشعري والأسلوب الخطابي، لكن التقليد لم يخلق شيئاً، وتلاؤم الكلمات أيضاً ليس أساس الأسلوب، ولا قوته، وكثيراً ما يوجد في مؤلفات خالية من الأفكار.
متانة الأسلوب ليست إلا ملاءمته لطبيعة الموضوع، ولا يصح أن تنال قسراً، بل يتولد تولداً طبيعياً من معنى الموضوع نفسه، وترتبط غالباً باستخدام العبارات العامة التي تجذب إليها الأفكار. وإذا كان من المستطاع الارتفاع إلى أعظم الأفكار عمومية، وإذا كان الموضوع في نفسه عظيماً، ارتفعت النغمة إلى المستوى نفسه. وإذا قدمت الموهبة ما يكفي لأن يوضح كل غرض وضوحاً تاماً مع احتفاظ النغمة بهذا المستوى؛ وإذا أمكن أن نضيف جمال التلوين إلى قوة الصورة، وفي كلمة واحدة، إذا كان من المستطاع أن نبرز كل فكرة في صورة حية محددة تحديداً تاماً، وأن نكون من سلسلة الأفكار لوحة متسقة، حية - لم تكن قوة الأسلوب رفيعة فحسب، بل غاية السمو.
هنا، أيها السادة، يكون التطبيق أفضل من القاعدة، والأمثلة تفيد أكثر من النظريات، ولكن بما أنه لا يسمح لي أن أذكر القطع السامية التي كثيراً ما أثرت في لدى قراءة مؤلفاتكم أجد نفسي مضطراً إلى الوقوف عند حد التأملات. إن المؤلفات الجيدة الكتابة هي وحدها فقط التي تنتقل إلى الخلف، وإن كمية المعارف، وطرافة الأعمال بل وجدة المكشوفات ليست ضمانات كافية للخلود. وإذا كانت الكتب التي تحويها لا تتحدث إلا عن أغراض تافهة، أو إذا كانت مكتوبة بلا ذوق ولا سمو ولا موهبة، فسوف تبيد؛ لأن المعارف والموضوعات والمكشوفات تسرق بسهولة وتنتقل، بل وتكتب أيضاً بأيد أكثر مهارة. إن هذه الأشياء خارجة عن الرجل، أما الأسلوب فالرجل نفسه وإذا فالأسلوب لا يستطاع سرقته ولا نقله ولا تحريفه، فإذا كان رفيعاً نبيلاً ساميا صار المؤلف أيضاً موضعاً للإعجاب في كل زمان لأنه لا شيء يبقى ويخلد سوى الحقيقة، وإذا فالأسلوب الجميل لم يكن كذلك إلا بما يبرزه من عدد لا يفنى للحقائق، وكل المحاسن العقلية التي به، وكل التفصيلات التي يتكون منها حقائق بمقدار نفعها، وقد تكون أغلى عند النفس الإنسانية من هذه الحقائق التي تستطيع أن تكون أساس الموضوع
إن السمو لا يستطيع أن يوجد إلا في الموضوعات العظيمة. والشعر والتاريخ، الفلسفة، لها كلها موضوع واحد عظيم هو الإنسان والطبيعة؛ فالفلسفة تصف وتصور الطبيعة؛ والشعر يصورها ويزخرفها، ويصور الناس أيضاً ويمجدهم ويبالغ في أوصافهم، ويخلق الأبطال والآلهة. والتاريخ لا يصور إلا الناس ويصورهم كما هم؛ وهكذا نغمة المؤلف لا تصير سامية إلا عندما يضع صور أعاظم الرجال، وعندما يعرض أعظم الأعمال وأعظم الحركات، وأعظم الثورات. وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون جافاً عابساً، ونغمة الفيلسوف تسمو في كل حين يتحدث فيه عن قوانين الطبيعة، والمخلوقات بوجه عام، وعن المكان، والمادة، والحركة، والزمن، والروح والنفس الإنسانية والعواطف والانفعالات؛ وفيما عدا ذلك يقاسي عناء أن يكون فخما عاليا. ولكن نغمة الخطيب والشاعر، متى كان الموضوع عظيماً، يجب أن تكون سامية دائماً؛ لأنهم السادة الذين يجمعون إلى سمو موضوعهم سمو التصوير والحركة والتخييل الذي يسرهم، ولأن من الواجب عليهم أن يصوروا الموضوعات ويفخموها - يجب أيضاً في كل حين أن يستخدموا كل قواهم وأن ينشروا ما تستطيعه عبقريتهم.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بحلوان الثانوية للبنين