مجلة الرسالة/العدد 617/تأييد لاقتراح (الرسالة)
مجلة الرسالة/العدد 617/تأييد لاقتراح (الرسالة)
للأستاذ علي الطنطاوي
ما تفتأ الأفكار تحمل وتلد، وما تني المطابع تتلقى الولائد وتلفها بالثياب، وتخرجها للناس كتباً، فلا يدرى القارئ من كثرتها ماذا يقرأ، ويحار المرء من تعددها ماذا يختار. ولكن العبقري في الكتب كالعبقري في الناس، لا تراه الدنيا إلا مرة واحدة في الدهر الطويل، ولا يكون إلا واحداً في ملايين. أخص السابقين من العباقرة في الأمم كلها تجدهم قد جمعهم لقلتهم سجل واحد، وضمت أسماءهم صحيفة، ثم أذكر كم من ملايين البشر عاشوا معهم، وتنفسوا الهواء الذي كانوا يتنفسونه، وأكلوا من الطعام الذي كانوا يأكلونه، ثم طوتهم الأيام، ونسيهم الناس، فكأنهم ما ولدوا ولا عاشوا، بل ربما كان في هؤلاء المنسيين بحق، المجهولين من كانت له دنيا أعرض من دنيا أولئك العبقريين، وكانوا يتمنون الأقل منها فلا يصلون إليه، وكانت لهم منزلة وكان لهم سلطان، ولكن الزمان محص الحقائق، وماز الأباطيل، فإذا ذلك السلطان زبد يذهب جفاء، وإذا العبقرية تمكث في الأرض لأنها تنفع الناس. وكذلك الكتب، فرب كتاب يطبل له ويزمر، ويقام له مقعد، وآخر لا يدري به أحد، يبطل الزمان الأول، ويبقى الثاني خالداً. ولقد قرأت في بعض ما قرأت من شعر الإفرنج كلمة أحسبها لتيوفيل غوتييه يقول فيها مخاطباً الملك العظيم لويس الرابع عشر: (لقد نسى التاريخ اللآلئ التي كانت في تاجك أيها الملك، ولكنه لا يزال يذكر الرقع التي كانت في حذاء كورني). كما نسى التاريخ ألوف الأمراء والملوك إلا ما خلده شاعر حين أمر أسمه على لسانه في قصيدة من قصائده.
هؤلاء الرجال العبقريون، وهذه الكتب العبقريات، التي لا تقوى حدود البلدان، ولا فوارق اللسان، على إبطال فتنتها، وأذهان روعتها، هذه الكتب (قدر مشترك) بين أبناء الشعوب المتمدنة كلها، ليست لشعب ولا لجيل، لأنها حديث القلوب فهي لكل ذي قلب، ولغة القلوب واحدة وإن اختلفت الألسنة وتعددت البلدان، فما يليق بأمة لها شعور وكرامة وعقل، أن تجهل هذه الكتب ولا هؤلاء الرجال.
أكتب هذا تعليقاً على مقالة الأستاذ الزيات في العدد الماضي من الرسالة. وإذا كتب الأستاذ في موضوع لم يدع فيه ركناً يعرض له بالوصف مثلي، لأنه يوفى فيه على الغاية، ويبلغ في الإجادة فيه النهاية، وما علقت مستدركاً بل معيداً ومردداً، وليكون لي في هذه الدعوة المباركة نصيب.
ولقد عادت بي مقالة الأستاذ إلى أيامي الخوالي حين قرأت قصة (رفائيل) أول مرة، بإذن من أستاذنا شيخ أدباء الشام سليم الجندي، وكان يحرم علينا أن نلم بشيء من الأدب الحديث أو ننظر في جريدة من الجرائد، قبل أن نتمكن من الأدب القديم، ونألف الصياغة العربية، وتستقيم ملكاتنا على طريق البلاغة السوي خشية أن تدخل جراثيم العجمة إلى أسلوبنا، وأن يفشو الضعف في بياننا، فلما سألته عن قصة رفائيل غداة صدورها هل أقرئها؟ نظر فيها ثم أذن لي بقراءتها لأنه رآها بليغة الأسلوب، صافية الديباجة، سليمة اللغة، سامية البيان، فكانت أول ما قرأت من الأدب الحديث بعد (النظرات) ولا والله لا أستطيع أن أصف أثرها في نفسي ولا في خيالي ولا في قلمي، ولا أملك حتى الإلمام بذلك إلماماً، لأنه شيء فوق الوصف وإنما أعترف أنها أحد المصنفات القلائل التي كانت غذاء أدبي من الكتب الجديدة، بعد أن غذيته بأمهات كتب الأدب القديم. وقرأت (آلام فرتر) فكان لها مثل ذلك الأثر؛ ثم افتقدت هذا اللون من الأدب فلم أجده؛ ثم وجدت شبهه في مثل (عطيل) مطران و (مرجريت) زكي و (فاوست) عوض وإن كانت هذه من قماش وتلك من قماش، وإن اختلف النسيج وتغيرت الديباجة، وأمثال (تأبين فولتير) التي نقلها (المنفلوطي) إلى العربية بقلم أحسب لو أن (هوغو) كان عربياً ما كتبها بأبلغ منه؛ كما أن لامارتين لم يكن ليكتب قصته ولا جونت كتابه، خيراً مما كتبهما الزيات ولو خلقا عربيين من أبين العرب وإني حين أقرأ اليوم هذه الروائع من أدب الغرب مترجمات في (روايات الحبيب) مثلاً أكاد أخرج من ثيابي غيظاً وغضباً لهذه المعاني الكريمات تجيء في هذه الكلمات، وأسفاً على هذه العرائس الفاتنات تخرج في هذه الثياب الأخلاق الباليات. وأفكر لو أن الله قيض لقصة (ذهب مع الريح) مثلاً أو (الفندق الكبير) أو (الأم) وأمثالها الكثيرات من عبقريات القصص العالمية التي ترجمها كتاب روايات الجيب، ونشكرهم على كل حال على حسن اختيارها، وبذل الجهد فيها، إذ لم يدخروا في التجويد وسعاً؛ لكن البلاغة درجات، والكتاب طبقات؛ لو أن الله قيض لها قلماً لدناً قوياً، لا يضعف فينكسر ولا يقوى فيؤذي، فترجمت بأسلوب عذب بليغ، لا يصح من غير جمال فيجف ويجمد، ولا يجمل من غير صحة فيميع ويسيل، لكان منها لهذا النشء مدرسة، الله وحده يعلم كم كانت تخرج لهذه الأمة من كتاب. وليست العبرة في الترجمة بنقل المعنى المجمل للقصة بل بنقل التفاصيل الفنية الدقيقة والصناعة الناعمة، وطريقة عرض الفكرة، وأسلوب تصوين المشهد، ولو أن المعنى المجمل هو المقصود للخصت قصة يوسف مثلاً في كلمات وضاع إعجاز السورة وجمالها الإلهي، ولكانت كل قصص الحب في الأدب متشابهة لا تخرج عن أن رجلاً أحب امرأة حباً عاطفياً أو جسمياً، فوصل إليها أو حيل بينه وبينها؛ فهذه أنواع أربعة للقصص الغرامية ينشأ منها أربع قصص فقط ويكون الباقي كله لغوا. مع أن في كل قصة جواً خاصاً بها ودنيا لها وحدها، لا تغنى في المتعة الروحية بها قصة منها عن قصة، وما ذاك إلا لاختلاف الدقائق والتفاصيل، ولا يظهر هذه الدقائق والتفاصيل إلا قلم بليغ، بصير بمواقع الكلام، عارف بأوجه الدلالة في الألفاظ، له الحاسة الخفية التي يفاضل فيها بين الكلمات ويحسن انتقاءها، إذ رب كلمتين بمعنى، وبين إحداهما والأخرى مثل ما بين البلاغة والعي. ورب كلمة في لسان لها جو ولها مدلول، وتحيط بها ذكريات عند أهل ذلك اللسان، لا يمكن أن تجيء بها مرادفتها في اللسان الآخر، ومن هنا علت بعض النصوص كالقرآن مثلاً عن الترجمة واستحال أن تنقل إلى غير لغتها.
ونحن اليوم في أشبه العصور بعصر المنصور والمأمون، أمة كانت معتزلة منطوية على نفسها، ثم اتصلت بأمم غيرها لها مدنيات ولها علوم، فإذا استمرت على عزلتها علت عليها تلك الأمم بعملها وقويت، وإن تعلمت ألسنتها لتفهم علومها، أضاعت لسانها وعصبيتها: فلم يبق إلا أن تنقل كتب تلك الأمم إلى لسانها، فتزداد به غنى في الأفكار وفي طرق التعبير، ثم تفهمها وتسيغها وتهضمها كما يقولون ثم تنشئ مثلها إنشاء.
ونحن في الواقع لا نستغني عن الترجمة ولا نقل منها، ولكننا نسيء الاختيار فندع الكتاب العبقري الفذ الذي يعد واحداً من مائة كتاب هي خلاصة آداب الأمم كلها ونترجم الكتاب لا فائدة فيه. ثم نسئ التعبير فلا ننقل هذه الكتب إلى العربية وإنما نضع في مكان ألفاظها الأعجمية ألفاظاً عربية، ولا يقدر على الترجمة الصحيحة إلا متمكن من اللغتين، بليغ في اللسانين، يقرأ الفقرة ثم يفهمها ثم يدعها تخالط روحه وتصير كأنها له، ثم يعبر عنها بلسانه، ويزينها بجمال بيانه.
والأستاذ الزيات يوجه كلامه إلى معالي الأستاذ السنهوري بك الذي عرفناه في بغداد ودمشق عالماً قبل أن نعرفه وزيراً. ونحن نعلم وجه الصواب في الأمر ولا نملك تحقيقه، والوزراء على الغالب يملكون ولا يعلمون. فلما جاء الوزير العالم الذي يعرف الحق ويقدر عليه، كان موضع الأمل، ومحل الرجاء، فإذا ألهمه الله أن يفعل فقد أراد الخير لهذه الأمة على يديه.
بقيت كلمة للأستاذ الزيات، هي أنه ترجم فكان أبرع المترجمين، فلماذا لا يكمل ما بدأ به، ويترجم لنا قصة (غرازيلا) ثم (جوسلان)؟ وينتقل بعد ذلك إلى غير لامارتين من أمراء البيان، وأئمة الأدب في كل لسان؟ وما فيمن سيجمعهم معالي الوزير السنهوري فيما أظن من هو أقدر على ذلك من الزيات وأولى به.
الجواب عندك يا أستاذنا!
(القاهرة)
علي الطنطاوي