مجلة الرسالة/العدد 616/العلم الحديث والعمران

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 616/العلم الحديث والعمران

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 04 - 1945



للأستاذ نقولا الحداد

يقوم عمران البلاد على نتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية، ودماره يقوم على هذه أيضاً.

المدينة الغربية الحديثة هي مجموعة الاختراعات المادية العملية العجيبة التي أثمرها هذا العقل الإنساني القدير في القرن الماضي ونصف الحاضر مستندة إلى العلوم الرياضية والطبيعية ومقترنة بتوسع الشؤون الاجتماعية من اقتصادية وسياسية وصحية.

وأسوأ مساوئ هذه الاختراعات التي تعاظم شأنها مع تقدم العلم أنها كانت أفعل العوامل في تقويض العمران وإطفاء نور المدنية. فما ابتكرته هذه المدينة الحديثة من علم واختراع كان مقوضاً لأركانها وهادماً لبنيانها. وقد يكون في المستقبل العامل الوحيد لفنائها (كدودة القز ما تبنيه يهدمها).

سطعت هذه المدينة الغربية حتى غلف ضياؤها سطح الكرة الأرضية، وكادت تغمر النوع الإنساني بلوامع السعادة والهناءة، لولا ما اعتورها من غياهب النزعات السياسية والاقتصادية، فكانت هذه النزعات تثير ثورات الشعوب والأقوام بعضها على بعض فتطفئ تلك اللوامع بألوف منتجات الكيمياء والبخار والكهرباء التي تمتع بها العالمان القديم والجديد مما يعمله كل إنسان وبألوف تلك المنتجات وما أضافته عقول الحرب إليها يتدمر الآن عمران العالم كله. لذلك يقول بعض قصار النظر: (لا كان العلم والاختراع ولا كان هذا الدمار).

وقد خفي على هؤلاء أن الذنب ليس ذنب العلم والاختراع، وإنما هو ذنب هذا العقل الإنساني العجيب الذي ابتدع هذا العلم الأرضي الباهر، ولم يبتدع إلى جنبه خلقاً سماوياً ساطعاً.

لهذا أمكن جيش الشياطين والأبالسة أن يغزو ملكوت الإنسان ويفتحه وستتب فيه ويملكه. فليس الذنب ذنب العلم، بل هو ذنب النفس الأمارة بالسوء، أصلح النفس وطهرها فيطهر العلم من عوامل الشر ويعمل للخير وحده. ماذا كان نصيب الشرق من هذه المعمعة التي التحم فيها العقل المبدع والنفس الأمارة بالسوء.

كان أن الشرق سرق من فردوس الغرب بعض ثمار علمه وشاركه بالتمتع بها ولكنه لم يشاركه في فلاحة ذلك الفردوس وزراعته. على أنه لما جاء دور التدمير أصاب الشرق ما أصاب الغرب من ويلات التدمير. وأقل ما منى به الشرق أنه ازداد عبودية للغرب في السياسة والاقتصاد وغيرهما، وبالتالي أصبحت سعادته الحيوية متوقفة على الفضلة من سعادة الغرب. وهذا الفقر في السعادة جزاء ذلك الفقر في العلم. وكيف يمكن أن تغتني بالسعادة ونحن لم نشترك مع الغرب في تحصيلها بل نسرق فضلاتها منه؟

لا يمكن أن نرفع عن رقابنا نير العبودية للغرب إذ لم نباره في العلم العملي والاختراع والاصطناع. لو كان لنا علم وقوة اختراع وأمكننا أن نخترع الطيارة واللاسلكي والبارجة والغواصة، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الاختراعات لاستحال على الغرب أن يستعبدنا وأن يبتذ ثرواتنا وأن يزعزع كياننا وأن ينغص عيشنا.

أخذنا العلم الحديث عن الغرب فلا حرج، ولا عيب أن نقتبس العلم منه. الغرب اقتبس قلبنا من الشرق. ولكن أية فائدة عمرانية استفدنا من هذا العلم؟ هل استفدنا منه أن نخلص من الاتكال على الغرب؟ هل استطعنا أن نستقل عمرانياً أو اقتصادياً على الأقل؟

منذ بنى خزان أسوان إلى اليوم ونحن نتحدث عن توليد الكهرباء منه. واصطناع السماد بواسطتها فلماذا لم نولدها؟ - ليس ذلك لأنه لا يوجد عندنا رأس المال اللازم لهذا العمل العظيم، ولا لأن الحكومة عاجزة عن تقديم المال، ولكن ليس عندنا مهندسون كهربائيون ويجرءون أن يقدموا على هذا العمل أو يوثق بكفايتهم. وليس عندنا الآلات والأدوات اللازمة لهذا العمل ولا مصانع لها عندنا. ولذلك نعرض المشروع على المهندسين الأجانب مضطرين. فإذا لم يتفق الأجانب معنا على هذا المشروع لا يتكهرب خزان أسوان. وقس عليه كثيراً من المشروعات الاقتصادية العمرانية الكبيرة التي نحن محرومون منها لقصور فينا. إذا فماذا استفدنا من هذا العلم الذي اقتبسناه؟ ما استفدنا إلا أن شبابنا حصلوا على بعض الثقافات الفنية العملية التي تمكنهم من الارتزاق فقط. ولكن بعد الحصول على وسائل الاسترزاق لم يستمر المثقفون في طلب المزيد من العلم بعد الحصول على الدبلوم التي توصل إلى حرف الارتزاق. قلما نرى مثقفاً يستمر في الدراسة بغية الاسترداد من المعرفة، ولا ترى مثقفاً قصد البحث في العلم بغية اكتشاف نظرية علمية أو استخراج حقيقة جديدة. والأرجح أن معظم الذين تخرجوا وغنموا الشهادات التي تخولهم حق العمل لم يعودوا يفتحون كتاباً لترويض عقولهم وتوسيع معارفهم لكي تحفز أذهانهم للبحث والتفكير والاستنباط.

أكسلا كان هذا الإهمال أم عجزاً أم ضعفاً عقلياً أم قلة ثقة بالنفس وتمادياً في الاتكال على الغرب؟

فلقلة اكتراث المثقفين بالمطالعة لا نرى في مطبوعاتنا اليومية إلا النزر اليسير من المؤلفات العلمية المفيدة التي تحتوى على كل ما استجد من الحقائق العلمية، وكل يوم تظهر معلومات جديدة في العلم. ولكن الذين كانوا في معاهد العلم قبل ظهورها لم يقفوا عليها لأنهم لم يجدوها في مطبوعاتنا الجديدة. وإذن فكأنهم لم يثقفوا الثقافة التامة.

لا نرى من المطبوعات الجديدة عندنا واحداً في المائة حتى ولا واحداً في الخمسمائة من المؤلفات العلمية التي تلم بكل جديد من العلم. لا نرى إلا مئات المؤلفات في الأدب والقصص واللغة والتاريخ الخ. ولكن بكل أسف لا تقوم المدنية على الأدب. ولولا ما نقتبسه من علم الغرب لكنا بلا مدنية عصرية نجارى بها العالم.

الأدب ليس قوام المدنية وإنما هو حلية لها. فإذا كانت المدنية مزينة بأجمل الحلي وأثمن الجواهر ولكن على بدنها أطمار الجهل العلمي فهل نقول إنها حسناء رائعة الجمال؟

وكيف تحيا وتترعرع وهي بدن سقيم وجسم ضعيف. وكيف يبدو جمالها وهي لا قلب ولا روح. ليس بالقصائد والقصص وروائع الأدب اخترعت الطيارة والسيارة واللاسلكي والسينما والمطبعة إلى غير ذلك من ألوف الاختراعات التي يتمتع بها البشر الآن. الأدب وحده لا يبنى مدنية أو عمراناً بل هو ثانوي في بناء العمران وإنشاء المدنية.

بكل أسف نقول إن الأدب طغى عندنا على العلم حتى كاد يختفي هذا وراء الغيوم، ولم يعد المثقف وقليل الثقافة يرى في سوق الطباعة إلا قليلاً من الأدب الجميل وكثيراً من الأدب السخيف. فكيف يمكن أن تكون لنا مدنية ذاتية خاصة بنا وغير مستعارة وغير مزيفة؟

لسنا فقراء في رجال العلم. ولكننا فقراء في قراء العلم حتى من المثقفين، وأغنياء بقراء الأدب الفكاهي وبقليل من الأدب الراقي الصافي. ولذلك قل الذين يؤلفون في العلم ويقدمون ثمرات العلم الحديث.

لولا بعض المجلات التي تعنى قليلاً بطرائف العلم الحديث، ولولا بعض المؤلفين الذين أغرموا بالمطالعة والتأليف والنشر لكان عندنا قحط علمي يعنون مدنية زائفة.

حبذا لو أمكن إحصاء إقبال القراء على المؤلفات العلمية ذات القيمة لكي نعلم هل نحن جادون في التقدم العلمي، وأن هذا التقدم يبشرنا بأننا مقبلون على مساهمة الغربيين في الإنتاج العلمي والاختراع والاكتشاف لكي نستبشر بالاستقلال العمراني الحقيقي وعدم الاضطرار إلى الاتكال على الغرب في بنيان مدنيتنا.

إذا عرفنا أن للمؤلفات العلمية ونحوها إقبالاً من القراء كبيراً عرفنا أننا نبني عمراننا وليس الغربيون يشيدونه. هل يا ترى من وسيلة لهذا الإحصاء لكي نعلم في أية درجة نحن من التقدم العلمي؟

نقولا الحداد