مجلة الرسالة/العدد 616/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 616/البريد الأدبي
الزار ظاهرة اجتماعية أفريقية
حاضرنا الأستاذ علي أحمد عيسى، في مدرج كلية العلوم، بجامعة فاروق الأول، عن الزار كظاهرة اجتماعية أفريقية.
فابتدأ بأن قال: إن هذا الموضوع الجديد على الباحثين الاجتماعيين في مصر لا يعتمد على الكتب، أو المراجع، بقدر ما يعتمد على المشاهدة عن كثب. كان أول عهد اهتمام الأستاذ المحاضر بهذا الموضوع الخطير حين وجهه إلى دراسته البروفيسور (هوجارت) الأستاذ بجامعة فؤاد الأول - وكان أستاذاً لمحاضرنا الفاضل في سنة 1935
وقد أخبرنا الأستاذ عيسى، أنه عثر على كتاب في - طب الركة! - يرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر، أورد مؤلفه حديثاً عن الزار لأول مرة في مصر، واستدل الأستاذ المحاضر بذلك، على أن تلك الظاهرة الاجتماعية لم تكن معروفة في مصر قبل ذلك القرن، ثم حدثنا عن سيدتين كتبتا عن هذا الموضوع أيضاً وفصلتا بعض طقوسه هما: زينب فواز، وحواء غرزوزي، وكانت من سيدات القرن التاسع عشر.
أما المصادر الأوربية، فقد ذكر الأستاذ الفاضل أن البروفيسور (تشيروللي) تحدث عن الزار في دائرة المعارف الإسلامية.
وخلاصة رأى العلماء في صدد هذا الموضوع أن الحبشة هي المنبت الأول لهذه الخرافة، وقصة الزار في الحبشة تبتدئ منذ اعتناق الأحباش للديانة المسيحية - وقد كانوا من قبل يعبدون إلهاً يسمى ظارو! أو دارو! أو زارو! على حسب الروايات - فلما استجابوا للدين الجديد ظلت آثار الديانة القديمة راسبة فيها وراء اللاشعور، وابتدءوا يتوجسون في أعماق نفوسهم خيفة من مظنة انتقام الإله المندحر، زارو! وأنشأوا ضروباً من الطقوس والشعائر البدائية يترضونه بها، وصاروا يجتمعون فيرقصون رقصات تشبه كثيراً من المشابهة رقصاتهم الدينية القديمة تقرباً وتزلفاً للإله القديم. . .
فظاهرة الزار إذن، ظاهرة دينية، لا تسود في غير الشعوب البدائية، تلك الشعوب التي تختلف أداة تفكيرها عن أداة التفكير لدى الشعوب المتحضرة، والتي تتفشى أمثال هذه الخرافة في بيئاتها تفشياً يبعث على كثير من التأمل.
وإذا نحن علمنا أن رجل الشعب البدائي، يجمع بين الأشياء التي تفصل بينها، وأن لا فرق لديه بين شخصه وبين ظله! ولا بين شخصه وبين اسمه! وأن الرجل الصيني حريص على أن يباعد بين ظله وبين نعش الميت وقت تسميره، مخافة أن يموت في الحال إذا ما قدر لهذا الظل أن يلتصق وقتذاك بالنعش. إذا علمنا ذلك، أدركنا إلى أي مدى تتحكم الخرافات في أمثال هذه البيئات.
وليس من شك في أن هذه المعتقدات تجعل معتقدها مهدداً في كل آن بغارات خفية من عالم الأرواح، فهو في فزع دائم لا ينقطع، وهو محاط بغيوم من الروع جاثمة لا تنقشع. ولا عجب إذا ما اندفع إلى استرحام تلك الأرواح التي تهدده كل وقت باحتلال جسمه، مقدماً إليها القرابين المختلفة، ممارساً لأجلها شتى الطقوس والشعائر، استجلاباً لعطفها واستدراراً لرحمتها ورفقها.
وقد تلقت مصر أيام العثمانيين هذه الخرافة عن الرقيق الذين توافدوا إليها أثناء حملات محمد باشا وغزواته للحبشة والسودان، وساعد على انتشارها في البيئات المصرية أنها كانت في حال من الانحلال النفسي تبرر تقبلها لكل دخيلٍ من أمثال هذه الفكر.
فمصر، كما اهتم الأستاذ المحاضر أن يؤكد لنا، ليست عريقة في اعتناق ديانة زارو، بل هي حديثة العهد بها جداً، إذ لم تعرفها قبل الربع الأول من القرن التاسع عشر.
ولا يسعني إلا أن أقول في إيجاز: إن الأستاذ المحاضر قد أعطانا صوراً دقيقة من مراسيم الزار، وأكد لنا أن كلمة - زار - هي بلا شك تحريف لاسم الإله الحبشي القديم زارو!! كما برهن على أن الطقوس التي تؤدي في هذا الصدد ليست طقوس مصرية أصيلة، ولكنها طقوسٌ دخيلةٌ محدثةٌ
(الإسكندرية)
علي حسن حمودة
إلى ابنتي عفاف
في الربيع النضر، حين سرى الماء في العود اليابس، ونبضت الحياة في البراعم النابتة، وتألق الجمال بألوانه الزاهية في الزهور المتفتحة؛ في الربيع النضر يا ابنتي، حين أشرق كل شيء بالبهجة، ورقص كل حي من المرح، ونعم كل ألف بإلفه؛ وسكن كل طير إلى عشه، تذبلين أنت يا زهرتي الغضة، وربيع شبابك لا يزال في إبانه، ويذوي غصنك الرطيب في غير أوانه، ويخلو عشك الناعم من بسمتك الحلوة ونظراتك الأنيسة وصوتك الغرد!
وفي الربيع الماضي، وفي مثل هذا الشهر، ذوت أختك الجميلة أمام عينيك وبين يديك، فعلمت كيف يروع البين، ويتصدع الشمل، ويوحش الأليف، ويرمض الحزن، فهلا رثيت لأبيك الواله فلا تجعلي بذبولك في هذا الربيع روضة من غير زهر، وقلبه من غير أمل، وبيته من غير أنس!
ثلاثون يوماً يا عفاف رقدتها على جنب واحد تتبخرين كما تتبخر دمعة الحب، وتذوبين كما تذوب شمعة العرس، وبسمات الرضا لا تغيب عن ثغرك، وومضات الأمل لا تخبو في صدرك، وداء السل الوبيل يخادعنا ويخادعك، فيتورد خدك، ويرهف إحساسك، ويرق حديثك، ويتسع رجؤك، فتنذرين النذور للشفاء، وترسمين الخطط لتغيير الهواء، فنصدق الظواهر ونكذب الأطباء ونتعلق بأهداب الأمل!
ماذا دهاك يا عفاف وقد تركتك في المساء وأنت على حالة مطمئنة، ونفس راضية مؤمنة، وقلت لك مساء الخير فقلت أنت مساء الخير والسعادة. أين الخير وأين السعادة؟
وا لهفتاه حين أصمني صوت الناعيات المروع وأذهلني عن نفسي، وأخرجني عن حسي، فلم أعد أعلم مما جرى شيئاً.
أختك يا عفاف طال عليها الكرى، وهاهي ذي في جوارك، فحلى دثارك، ودعي أزاهيرك البيض والحمر تتناثر على جسدها البالي برفق، ثم ارقدي مطمئنة يا عفاف فليس وراءك في هذه الحياة ما يقلقك في قبرك، فابنتك الصغيرة قد ماتت منذ أشهر، وأمك منذ ثماني حجج في جوار الله، فحييها تحية صامتة كدموع أبيك، ولا نقضي عليها ما كان من أمر (عواطف) وهي تندبك وتبكيك!
نامي طويلاً كيف شئت يا عفاف فقد طال بك السهاد ونال منك التعب، وقد قلت لي ليلة عدت من حلوان:
أنا بخير! لا أحب البكاء! أريد أن أستريح! فاستريحي يا ابنتي المحبوبة، واسمحي لي يا زهرتي الأولى أن أقدم إليك هذه العبرات الجافة الصامتة وإن كنت تكرهينها؛ فإن فيها تفريجاً عن قلب أبيك الثاكل، وما أملك لك يا أعز الناس عندي غير الذكريات الطيبة طول حياتي، والدعوات الطاهرة في خلواتي وصلواتي. وإلى اللقاء.
والدك الحزين
حسن عبد العزيز الدالى
أرض مصر: معرض صور جان هيكمان
معرض صور جان هيكمان من المعارض القليلة الجديرة بعناية كل مشتغل بالفن محب له. ولا أذكر أني زرت معرضاً حافلاً بالمعاني والدروس مثل هذا المعرض، وصاحبته ولدت في وادينا وعاشت بين ظهرانينا، وهي إن لم تكن مصرية بالدم، فهي مصرية صميمة بالقلب والروح، ومعرضها دليل بليغ على صحة هذا الكلام.
ومن المفرح حقاً أن توفق هذه الفنانة الكبيرة إلى إنتاج هذا الفن المصري الصميم الذي يجمع بين الطابع المحلي البحت والروح الإنسانية الشاملة التي يتميز بها كل فن ناضج في أي بيئة.
ويجب أن نتحدث أولاً عن القيمة الفنية الذاتية لرسوم السيدة جان. وهذه الفنانة تجمع بين الإحساس الفني الصحيح وهو الشعور بالقيم اللدينة للأشكال والأوضاع، ورقة العاطفة وحيويتها، وقوة الخيال واكتماله. ومتى توفرت هذه الملكات لفنان استطاع دون عناء أن يعثر فيما حوله من أشكال على الصور التي يتخذ منها أداة للتعبير عن ذاته، ومع ذلك قد يظل مثل هذا الفنان بعيداً عن روح البيئة التي أنتجته فينتج إنتاجاً خالصاً للفن ينظر إليه المصري بنفس العين التي ينظر بها إليه الصيني مثلاً. ولكن هذه الفنانة، مع احتفاظها بطابعها الشخصي الخالص، استطاعت أن تعبر عن روح بيئتنا تعبيراً وفياً فذاً.
وصورها كلها تمثل مظاهر الحياة المصرية الصميمة التي نشاهدها كل يوم: الفلاحون بملابسهم وأوانيهم، السحنة المصرية تشرق من أساريرها الروح المصرية الصميمة، آلاتنا الموسيقية المحلية الساذجة، الغيط والساقية والقوارب النيلية، والعامل المصري بأعبائه الثقيلة ومسكنه المتواضع.
وصورها لا تمثل (مظاهر الحياة) فقط، بل جوهر الحياة المصرية وروحها، فصورة (الأمومة) تمثل المرأة المصرية الوادعة المستسلمة المستغرقة في شؤون العيش، يفعم قلبها السلام والإيمان مادامت تجد الكفاف، وتمثل صورة (عزبة في إمبابة) منزلاً يكاد يحدثك عن الحياة التي تنطوي عليها جدرانه. وفي صورة (أرض النيل: الفلاح) تخفق روح القرية، بل تكاد وأنت واقف تتأملها تشم رائحة التربة المصرية وتشعر بقلبها النابض، والنسيم المتجاوب في أنحائها، وتلمس شقاء الفلاح وبؤسه وصبره وأمله وإيمانه وتعاونه مع زوجه.
ومن مزايا هذه الفنانة شدة الإحساس بالضوء المصري الصافي وما يضفيه على الألوان من حيوية وقوة، ويتجلى هذا جيداً في المناظر الطبيعية التي رسمتها، وهي نماذج صادقة من الجمال العبقري وأناقة الطبيعة المصرية، كما أنها مفعمة بالإحساس الشاعري الرقيق - وبينما تطالعك لوحة الفلاحين مثلاً بغلطة الحياة الواقعية وقسوتها، كأنها جلاد لا يرحم، تطالعك صورة (المحمودية) بجمال الطبيعة ورقتها وحدبها علينا، كأنها أم رؤوم.
ولا شك أن الفنانة التي تستطيع أن تستوعب كل هذه الاحساسات وتعبر عنها تعبيراً موفقاً فنانة كبيرة - ولا شك أن الفن الذي يجمع بين: (1) الشيء في حد ذاته، أي الشكل ذو الدلالة المعنوية و (2) التعبير عن رؤيا فنية شخصية و (3) الإحساس البيئي الاجتماعي الذي يصور الآلام والآمال المشتركة، فن جدير بالذكر والتنويه والدرس والاعتبار. وإني لأزف إلى صديقتي جان أخلص تهنئة على توفيقها التام في رسومها التي تفتح أعيننا على صور الجمال التي تفيض بها (أرض مصر).
نصري عطا الله سوس