مجلة الرسالة/العدد 615/كلمة لابد منها
مجلة الرسالة/العدد 615/كلمة لابد منها
للأستاذ علي الطنطاوي
ولقد كنت أود أن أجد من نشرها بداً - غير أن ما تنشره صحف مصر ومجلاتها في موضوع الأدب الشامي والتعريف بأهله لمن نعرف ومن ننكر من الكتاب أوجب نشرها - وأنا اعرف قولهم (العبرة بما قيل لا بمن قال) ولكن ذلك في الحقائق التي يستقل العقل بتمحيصها ووزنها، والحكم عليها بالصحة أو الفساد، أما الأخبار الممكنة التي تحتمل الصدق والكذب، كقولنا: إن لفلان أسلوباً بارعاً، وفلان بليغ، وله كذا من الكتب، لمن لم يسمع بفلان هذا ولم يقرأ له، فلا يمكن الحكم عليها بالتصديق أو بالتكذيب، وبالقبول أو بالرد، إلا بعد معرفة حال راويها ومخبرها، ومبلغه من الاطمئنان إلى خبره وحكمه، فإن كان عدلاً ضابطاً، والضبط في الأدب هو التمرس به والذوق فيه وفهمه، والعدالة ألا يميل به حب ولا بغض، وأن يحكم على الرجل بأثره، فلا تمنعه عداوته مجوداً من الثناء عليه، ولا صداقته مسيئاً من نقده. فان كان كذلك قبل خبره وإلا رده، وأنا أقول آسفاً إن مجلات مصر لما فتحت صدرها لمن يعرف قراءها بالمجهول من أدب الشاميين، جاءتها مقالات من أشخاص هم أكثرهم وكبير مطلبه أن يرى اسمه منشوراً في هذه المجلات، ومنهم من لم يكد يضع من قبل سواداً في بياض، فنشرت لهم كل الذي جاءها منهم وحكمتهم في قارب الأدباء، وجعلتهم من أهل الترجيح في الأدب، فكتبوا أشياء لا يفهم منها الجاهل بأدبنا شيئاً، ويضحك منها العارف به أو يشنعوا على صاحبها، ومنها ما يخرج في جملته وتفصيله عن أن يكون دعاية لمن كتبه ولأصحاب الكاتب وأصدقائه، وحشراً لهم بين مشايخ الأدب والمقدمين فيه، ثم كانت الطامة التي لا أقول إنها الكبرى لأني لا أدري ماذا يجيء من بعدها، فنشرت مجلة محترمة مقالة في ذنبها اسم لم نسمع به، خلط فيها صاحبها وخبط، وانتهى به الخلط والخبط أن نحل رياسة الأدب في الشام رجلاً ليس منه في العير ولا النفير، وليس منه فرس ولا بعير. وأشهد لقد ضحكنا منها في مجالسنا كأشد ضحك ضحكناه قط. ولكن القراء لم يضحكوا لأنهم لا يعرفون من الأمر إلا أنه (كف عدس. . .)، ولأنهم يثقون بأن هذه المجلات لا تقدم لهم إلا حقاً، ولا تنشر إلا لأديب أريب.
وأنا لا أنكر منافع (التشجيع) ولقد كتبت فيه وأثنيت على أهله، ولكن هذا التشجيع إذا بلغ هذا المبلغ صار أذى لن يشجع، وضرراً على الأدب وأهله، لأن من يشجع على الادعاء والغرور والعدوان يؤذي ولا يبقى فيه مصطلح، ويصدق أنه صار زبيبا وإن كان في ذاته حصرماً حامضاً يلذع اللسان ويجرح الحلق، ويكون عند نفسه أستاذاً جليلاً، وعلماً مشهوراً وهو عند الناس تلميذ صغير. . . ولأن الأدب إذا كثر الأدعياء فيه والواغلون عليه، وتصدر الجهلة مجالسة وامتهن العلماء الأبيناء هان الأدب وسقط. وهل في الهوان أهون من أن يكتب (زيد) من الأدباء مائة مقالة، يبذل فيها الغالي من عمره ومن قوته، ومن دم قلبه وضياء عينيه، بعد أن استعد لها بالدرس والتحصيل وسهر الليالي في مدارسة كتب العلم ومطالعة أسفار الأدب، وصرم في ذلك الدهر الأطول فيأتي (عمرو) فيختصر الطريق، ويقفز من فوق الجدران فلا يقرأ شيئاً ولا يكتبه، ولكن يكتب مقالة يقول فيها عن نفسه: إن له مائة مقالة أو يسخر صديقاً له ليقول عنه إنه أحسن من (زيد) ذاك، وأرسخ منه في الأدب قدماً، وأضخم منكباً، وأعلى هامة، ويصدق ذلك القراء ويستوي عندهم الرجلان. أو هو يسب العاملين بدلا من أن يعمل، وينقص أقدار الرجال ليزيد بما ينقص منهم، ويعلو بما يظن أنه يخفض من منازلهم. . .
. . . خبروني بالله إن كنتم تعلمون، كيف يكون التدجيل إن لم يكن هذا تدجيلاً؟!
أما إنني لا أدعو إلى احتكار الأدب وما في سوق الأدب احتكار، ولكن أدعو المجلات المصرية المحترمة أن تتريث في نشر ما يحمله إليها البريد من مقالات النقد والتقريظ والكلام في الأدب وأهله حتى تعرف الكاتب، ومبلغ الثقة يخبره وحكمه، ومكانته في بلده، وألا تدع أسماء الكبار من أدباء الأقطار العربية مضغة في فم كل محب للشهرة، يشتهي أن يكون كاتباً ولم يعد للأمر عدته
وأنا لا ألوم الشباب أن يستمرئوا التدجيل ويستسهلوا طريقة، ويستصعبوا الجد والدأب ودخول البيوت من أبوابها. فهذا هو شأن الشباب، وكلنا كان كذلك أو كان قريباً منه، ولكنا لم نجد مجلات تعيننا عليه ووجدوها، وها أنذا قد دانيت الأربعين، وأظن أني كتبت من الصحائف المنشورة ما يزن أرطالاً، وإني والله ما أبعث اليوم بمقالة إلى مجلة إلا مستحيياً منها ألا تكون للنشر صالحة، وخائف أن تصير لقي، أفلا يحق لنا أن نعجب من صفاقة أقوام من هؤلاء الكاتبين وأن نعتب على هذه المجلات المحترمة، إذ تضع الشيء في غير موضعه فتجود في غير مجاد، وما لكل ناشئ اليوم لا يرضي بأقل من الرسالة والثقافة فلا ينشر فيها غذرمته. . . فقد كنا نتمنى جريدة يومية تنشر لنا فما كنا نصل، ونحن يومئذ أقل من أكثرهم اليوم جهلا!
ولقد كنا سألنا مجلات مصر أن تنشر لأدبائنا وتعرف بأدبنا وعتبنا عليها إنها لا تفعل؛ ولكنا لم نرد إلا الأدباء حقا لا أن تنشر لكل من يسود صحيفة ويضعها في ظرف ويبعث بها إلى المجلة. . . ثم تحمل ذلك علينا وتنسبه إلينا وتمثل به على أدبنا، وتقبل حكم صاحبه علينا يرفع منا من يشاء ويخفض من يريد.
والسبيل لا سبيل سواها هي تكليف أحد أدبائنا المعروفين ممن لا يطعن على شخصه وإن خولف في رأيه البحث في أدب الشاميين بحثاً علمياً منظماً خالياً من أثر الحب والبغض، مؤيداً بالدليل مستنداً إلى التحليل فينظم أدوار هذا الأدب وطبقات أهله من جهة السن، ومن جهة الأسلوب والبلاغة، إذ رب شاب هو أبلغ بلاغة، وأصفى ديباجة، وأعلى أدباً، من شيخ يحمل أمجاد نصف قرن، أي أنه يؤرخ أدبنا على نحو ما نؤرخ الأدب القديم الذي تقطعت بيننا وبين أهله أسباب الميل والنفار والحب والكراهية. أما هذا الطريق الذي سارت عليه مجلات مصر إلى الآن فحسبنا ما لقينا من وعره ووحشته والتوائه.
القاهرة
علي الطنطاوي