مجلة الرسالة/العدد 614/بعد الرصافي. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 614/بعد الرصافي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1945



للأستاذ عبد الوهاب الأمين

الآن ختم جيل الشعر في العراق، وانطوت صفحة أخيرة من كتابه، بعد أن فاضت روح معروف الرصافي، فقد توفي صباح يوم الجمعة الماضي، المصادف 16 آذار سنة 1945 في الأعظمية ببغداد.

وبموت الرصافي تبدأ صفحة جديدة في عالم الشعر العراقي، وتنتهي سلسلة الشعراء الكبار الذين امتدت حياتهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين، والذين كان أخرهم في العراق - قبل الرصافي - جميل صدقي الزهاوي.

وحياة الرصافي تختلف عن حياة كل من عاصره من الشعراء من عدة وجوه. وليس المجال متسعاً للإفاضة في تاريخ حياته، لأن ذلك لا يتسع له مجال محدود، بل الأجدر أن تقوم فئة بتدوين حياته تدويناً علمياً، ولكن نقطة الاختلاف التي أشرت إليها تنحصر في عقدة نفسية كانت بارزة فيه. هي شدة حبه المطلق للحرية بجميع معانيها، حتى لقد كان هذا الحب الجارف أشبه بالقيد الذي قيد حياته، وأثر في نفسه تأثيراً عظيماً. فهو من قبيل القيد النفسي الذي تقيد به العبيد والمتصوفون. ومن مظاهر هذا القيد الخفي في نظري، حياته الأخيرة البائسة قبيل وفاته، حيث انزوى وانقطع عن العالم، وأصبح يعيش مهملاً.

ومن المآسي النفسية أنه كان في وضعه ذاك يأنف أن يشار إلى حالته بغير ما لا يأتلف وكرامته الجريحة. فقد أذاع بياناً على الناس قبيل وفاته رفض فيه النغمة التي كانت ترددها بعض الصحف عن بؤس حالته وقال إنه يتبع فلسفة أبي العتاهية الذي يقول:

حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت

وهذه حركة تدل على أنفته وكبريائه الجريحين اللتين خفف من حدتهما السن والمرض.

ولقد أدى الإهمال وسوء الحال بصحة الرصافي إلى التردي يوماً بعد يوم مع أنه يملك جسماً يكاد يكون عملاقاً. ومن مميزاته الشكلية وضوح النظرة، وجهارة الصوت، وقوة العارضة.

عرف الناس الرصافي الشاعر الذي لا حدود لصراحته ولا رقيب على لسانه غير ما يعتقد، منذ زمن بعيد، كما عرف بكرمه الزائد وعدم انصياعه للضرورة مهما كان شكله وهاتان الحالتان تكفيان لأشقاء فرد في العراق لا مال له ولا سلطان، ولا يعتمد اعتماد القرابة أو النسب على ذوي المال والسلطان. ولذلك كانت حياته سلسلة من تشرد ضيق الحدود، فيه فوق صفة التشرد التزام الحشمة التي ينبغي على رجل كالرصافي أن يؤدي جزيتها.

فمن غريب المفارقات أن الرصافي كان يستخدم اسمه وشهرته وحب الناس له في قضاء حوائج غيره ممن لا يرتدعون عن اللجوء إليه في طلب الشفاعات، ولعله كان أجدرهم بطلب الشفاعة لو أنه كان يأبه للضروريات، ولو أن نفسه تقيل التوسيط والرجاء.

ولقد نبذ الزي المدني منذ زمن والتزم زي البدو من العشائر، وسكن قبل مدة في الفلوجة إحدى القرى القريبة من بغداد، وعاش عيشة المتزهدين المتصوفين، ثم انتقل إلى الأعظمية قرب بغداد حيث ختمت بها أيامه.

وهذا التغير هو الآخر يدل على حبه للحرية، فإنه لم يرض أن يتقيد بالزي (الأفندي) وقبل أن يلتزم قيد اللباس العربي البدوي. ولعله لم يشعر بالنقلة شعور الذي يتفرج عليها، بل لعله لم يشعر بها مطلقاً.

لا أظن قلباً إنسانياً ينبض بحب الإنسانية لا تحركه هذه الكلمات البسيطة من وصية الرصافي التي كتبها قبل أن يموت

(لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه فهو بالخيار، إن شاء عفا عني، وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين).

في هذه الكلمات أتخيل الرصافي كالأسد الجريح. الأسد الذي هدت من حياته تصورات الموت وسخف الحياة الماضية. إن هذه النغمة ليست نغمة المستكين الضعيف، ولكنها نغمة القوي الذي وضح لعينه سخف القوة والأقوياء.

لقد كانت في حياة الرصافي عدة دروس جديرة بالاعتبار. ومما لا شك فيه أن ستقوم هنا وهناك حفلات التأبين، وسنسمع أصوات أولئك الذين يمجدونه ويلهجون بحمده وحمد شعره وآثاره. ولكن لن يكون لكل هذا من جواب من الرصافي نفسه، لو أنه يطلع عليهم من وراء الحجب، غير ضحكة الاستهزاء والسخرية. فما كان أكثر تعريضه بهذه الأساليب التكريمية وقلة جدواها

هل سنتعظ من درس الرصافي هذا؟

أشك في ذلك.

(بغداد)

عبد الوهاب الأمين