مجلة الرسالة/العدد 614/الرصافي وأغاخان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 614/الرصافي وأغاخان

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 04 - 1945


أو الزعيم الأدبي والزعيم الديني

لك الله يا بن آدم، ما أغمض سر الطبيعة فيك! تزعم أن فيك عقلا

وأنت تتبع هواك، وأن لك ديناً وأنت تعبد دنياك، وأن عندك علماً وأنت

تجهل نفسك!

ما هذا الذي نرى من خذلان المنطق لك، وإسراف الرأي عليك؟ تعرف الله وتفسق عن طاعته، وتخلق الصم وتخلص في عبادته، ثم تقدس الجرائم باسم العدل، وتعتقد الأباطيل باسم العقل، وتفسد قوانين السماء وتقول إنه الشيطان، وما الشيطان إلا نفسك؛ وتزيف طبائع الأشياء وتقول إنه الحظ، وما الحظ إلا عماك!

إن من عماك لا من عبث الحظ أن يكون في بيتك الكلب يتقلد الذهب، ويتوسد الحرير، ويتهنأ اللحم، وفي جوارك الإنسان يفضح جسده العري، ويلحس كبده الجوع، ويقض مضجعه الهم

وإن من هواك لا من نزغ الشيطان أن تلح على أخيك بالأثرة والحرمان ثم ترثي لحالته؛ وإذا كان من عمل الشيطان أن تقتل القتيل فليس من عمله أن تمشي في جنازته؟

في الأسبوع الذي كان الرصافي شاعر العربية يعالج فيه آلام المرض، ويكابد غصص الموت، على الفراش القلق، في المضجع الموحش، وكل ما يملكه من حياته الطويلة العريضة أسماله البدوية وأشعاره المخطوطة، في ذلك الأسبوع نفسه كان أغا خان زعيم الإسماعيلية يقعد في كفة الميزان المأثور المشهور كما ترى، وبازائه في الكفة الأخرى مائة كيلو من سبائك الذهب المصفى، هي مثقال الزعيم العظيم في هذا العام، خرج له عنها أتباعه في الهند وفي غير الهند، ونفوسهم راضية، وقلوبهم مطمئنة!

إي والله! مائة كيلو من الإبريز الخالص، هي ضريبة العقيدة يقدمها المؤمنون المخبتون كل سنة إلى أميرهم المقدس، ورقابهم من الجلالة خواضع، وعيونهم من المهابة نواكس، فيتعطف صاحب السمو بأخذها، ليطهرهم بها، ويزكيهم لأجلها، في حلبات السباق، وخلوات العشاق، ومعابد الحب، على البحيرات الناسمة بالنعيم، والجبال الباسمة بالجمال، والشواطئ المائجة بالفتنة الحياة الروحية بسببه، فما بالهم تركوه يكتب في وصيته الأخيرة هذه الفقر التي تستدر الشؤون وترمض الجوانح:

(كل ما كتبته من نظم ونثر لم اجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به خدمة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. . . لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها؛ وكل ما عدا ذلك من الأثاث الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. . .)

أين كان ذوو النفوس الشاعرة القادرة من أتباع الرصافي حين أفرط عليه إباؤه وكبرياؤه، فانطوى على نفسه يهدهد آماله بالصبر، ويخدر آلامه بالشراب، وروحه الوثاب ينبثق انبثاق النور، وأمله الطماح يتقلص تقلص الظل؟ لو شاء الرصافي أن يهاوي السلطان، ويمالق الحكومة، وينافق الشعب، لعاش أرغد العيش وبلغ أرقى المناصب؛ ولكنه آثر الحرية على الرق، واستحب الصراحة على الرياء، فذهب شهيد كرامته وعفته.

ستقول إن الزعيم أغا خان كذلك صريح حر، وإن صراحته لسافرة وحريته الطليقة لم تبغيا عليه في قومه، ولم تجرا إلي لكلام في صلاته وصومه. والجواب أن أتباع الزعيم الديني يصورونه في نفوسهم بصورة العقيدة التي يدينون بها، ويجعلون هيكله المادي رمزاً لهذه الصورة. ولهذا الرمز ظاهرة يراه الأوزاع، وباطن يستأثر بعلمه الأتباع؛ فهم يسددون ما يبصرون من زيغه، ويؤولون ما يسمعون من باطله، ويسبلون على عمله المريب ما يسبله لصوفيون من القداسة على الطبل والدف والناي والصنج، فتصبح هذه الآلات في أيديهم غيرها في أيدي القيان والمجان، وهي في نظر الناس لا تختلف في شيء عنها. قل إنها الجهالة أو السذاجة أو البلاهة، فلن يقدح ما تقول في الحقيقة، ولن يغير من الواقع.

أما أتباع الزعيم الأدبي فإنهم يتخذون صورته من فنه وروحه؛ فلصورته في كل ذهن شكل مختلف، وفي كل قلب أثر خاص. وطبيعة هذه الصورة أو تلك الصور مشتقة من طبيعة الفن: تتضح تارة وتبهم تارة، وتختفي حيناً وتلوح حيناً، على حسب استعداد النفوس لتقبل الجمال الفني حالا على حال، ووقتاً بعد وقت. لذلك كانت عقيدة هؤلاء الأتباع في زعيمهم كالعرض المنفك: تزول ثم تؤول، فإذا زالت نسوه كما ينسون السرور والحزن واللذة والألم؛ وإذا آلت سمعوه كما يسمعون البلبل على فنن الدوحة، يطربون لشدوه ويعجبون بريشه، ثم لا يعنيهم بعد ذلك أيجد الحب والغش، أم يجد الفخ والقفص. وكذلك شأن أصحاب السلطان وأرباب الحكم مع رجال الأدب، يقتبسون من عقولهم النور إذا أظلمت الخطوب، ويستمدون من نفوسهم اللهب إذا خمدت العزائم، حتى إذا استوثق لهم الأمر، وتنازعوا الغار، وتقاسموا الفئ، أنكروا ما بذل الأدباء، وقالوا بلهجة الساخر البطر: وماذا صنع هؤلاء؟ لقد قالوا وإن الكلام طبع، وكتبوا وإن المداد رخيص! ذلك إلى أن أكثر عشاق الأدب مفاليك لا يملكون لأزبابه إلا الدعاء في الحياة، وإلا الرثاء في الموت! وإذا كان لدى بعضهم فضل من القوت لم يجد في نفسه من سلطان العقيدة ما يحمله على المواساة به؛ وذلك هو الفرق بين العقيدة الأدبية والعقيدة الدينية. فالعقيدة الدينية سلبية لا تتجاوز الإعجاب بالكلام والإنفاق من الكلام؛ فإذا وجدت من يبذل في سبيلها المال كان ذلك قطعاً للسان الهاجي، أو شراء لضمير المادح، أو تزييفاً لصورة الحق، وليس في مثل هذا البذل كسب للأدب ولا نفع للأديب. ولكن العقيدة الدينية إيجابية تقوم على إعلان الفكر بالشعيرة، وتمثيل المعنى بالرمز، وتحقيق النية بالعمل. والسلطان الروحي فيها قاهر، والأثر المادي عليها ظاهر. وحسبك منها الزكوات والصدقات والأضاحي والنذور؛ ففي بعض أولئك للزعيم الديني ذهب وميزان، ومدد وسلطان، وقصور ورآسة، ثم ضريح وقداسة!

حظك يا معروف هو حظ الأديب منذ كان في الناس أدباء وفي الأرض أدب! يموت أمثالك شرقاً بالبؤس، كما يموت أمثال أغا خان غرقاً في النعمة! فلو أن ربك حقق لك ما كان يرجوه شيخك الالوسي من رسوخ قدمك في الدين، وعلو منزلتك في التصوف، إذن لخلفته في الزعامة الدينية، وبلغت من (طريقتك) ما بلغ أغا خان في الدنيا، ونلت من (صوفيتك) ما نال معروف الكرخي في الآخرة.

احمد حسن الزيات