مجلة الرسالة/العدد 613/المذاهب تتقارب
مجلة الرسالة/العدد 613/المذاهب تتقارب
للأستاذ عباس محمود العقاد
من أهم الأنباء التي نقلها إلينا البرق في الشهر الماضي ذلك النبأ الذي يلخص نظام التوريث والوصية في البلاد الروسية، وفحواه أن القوانين الجديدة تبيح لمن يشاء أن يترك ميراثه لمن يشاء، بعد أن كانت التركات من حق الدولة وحدها إن لم يكن للمتوفى ورثة أو أقارب.
سئلت منذ تقدمت الجيوش الروسية في الأرض الأوربية: ماذا يكون مصير أوربا أمام الدعوة الشيوعية واحتلال الروس للأقطار التي يحتلونها الآن وقد يحتلونها إلى ما بعد انقضاء الحرب بسنوات؟ فقلت: إن الروسيا لن تكون شيوعية ماركسية في ذلك الحين، لأنها ستقترب من النظم الاشتراكية المعتدلة، ثم تقترب من النظم الديمقراطية، وسيكون للديمقراطية حظ السبق إلى التطور السريع في مسائل الثروة والتأمين الاجتماعي، فتحل المشكلات التي عجزت الماركسية عن حلها بعد ربع قرن من التجارب والمحاولات، فإن توفق الديمقراطية إلى الحل الحاسم في جميع هذه المشكلات فهي موفقة لا محالة في الابتداء الذي يكفل لها حسن الانتهاء أو حسن التقدم والاطراد في الطريق.
وقد يقتضي الأمر بضع سنوات قبل أن تصطبغ الماركسية بالصبغة الأخيرة التي تقربها من الديمقراطية، فلا نقول إن الماركسية اليوم قد تغيرت كل التغيّر ولا أنها قد رجعت في مسألة الطبقات عن القواعد التي قام عليها المذهب منذ أعلنه دعاته في القرن الماضي، ولكنا نقول إنها شرعت في النقلة التي لا رجوع فيها، وإن المسألة بعد ذلك مسألة الوقت والمناسبات.
والذي تغير حتى الساعة من أصول الدعوة الماركسية غير قليل فأول عوارض التغير هو العدول عن نشر الدعوة في العالم والاكتفاء بالتجارب الميسورة في البلاد الروسية وما جاورها، وقد كان هذا مبعث الاختلاف الشديد بين الزعيمين الكبيرين تروتسكي وستالين.
وجاءت بعد ذلك عوارض أخرى لم تكن تدور للينين - فضلاً عن كارل ماركس - في حساب. فاعترفت الحكومة السوفيتية بالكنيسة وبعض النظم الدينية، ثم اعترفت بالوطنية التي كانت تعتبر في عرف كارل ماركس وأصحابه بقية من بقايا رأس المال، ولجأ الزعماء إلى إثارة النخوة في صدور الشعب بتسمية الحرب الحاضرة (حرباً وطنية) وإحياء التراث الوطني في الأغاني والمواكب والمسرحيات.
وعمد ديوان التعليم إلى التفرقة بين الجنسين في المدارس الابتدائية والثانوية، مع حرص الماركسيين على إعلان المماثلة التامة بين الرجال والنساء في جميع الأعمال وجميع الكفاءات.
وقد سلم ولاة الأمر الروسيون في الملكية الصغيرة وسلموا في تفاوت الدرجات والأنصبة على حسب اختلاف الأعمال، وسلموا في معاملة الصناعات الفردية بغير النظام الذي يعامل به الأجراء في المصانع الكبيرة، ونشأت عندهم طبقات ممتازة في المعيشة تبعاً لامتيازهم في الوظائف المدنية أو العسكرية.
وكل هذا والروسيا بمعزل عن العالم يتخيل أبناؤها أن الإصلاح في ظل الديمقراطية مستحيل، وإن إنصاف العمال مع قيام رأس المال ضرب من الأساطير، فإذا ارتفعت الحواجز غداً وأبيح للروسيين السفر إلى أنحاء العالم وأبيح للأجانب السفر إلى روسيا فلا بد من تبدل الأحوال في أمد قصير، ولا بد من تغير النظر إلى حقائق الأمور. فإن الشيوعي الذي يعلم يومئذ أن الأمور تنصلح في ظل الحكم الديمقراطي، وأن العمال ينالون من خيرات الدنيا في البلاد الأخرى فوق ما ينالونه في الجمهوريات التي تسمى بجمهوريات العمال لن يثبتوا على توجسهم من الديمقراطية ولا يأسهم من صلاح الأمور على يديها، ولن يثبتوا على تعصبهم للشيوعية، ولا حصر الخير كل الخير في دعوتها، ولا سيما بعد التوسع في تطبيق مذاهب التأمين الاجتماعي وإنصاف العاطلين والعجزة والشيوخ، وشعور الروسيين حكومة وشعباً بضرورة التعاون بينهم وبين سائر الحكومات والشعوب.
والأرجح عندنا أن سياسة العزلة الروسية لن تدوم بعد الحرب بزمن طويل، ونعني بسياسة العزلة تصعيب السفر على الروسيين وتصعيب الدخول إلى الأرض الروسية على الأجانب، فإن قيام هذه العزلة لا يتاح لمن يريد، بعد تشابك المصالح وتواتر الأخبار والعلاقات من هنا وهناك، وبعد احتياج الساسة الروس إلى بسط قضاياهم السياسية، وتحصيل المواد الصناعية والسلع التجارية التي لا يستغنون عن توريدها والمبادلة عليها وعقد الصفقات الطويلة أو القصيرة بشأنها، وربما أحس هؤلاء الساسة قبل غيرهم بضرورة التيسير في مسألة السفر من بلادهم والسفر إليها، لأنهم يأمنون بذلك معارضة المنكرين لكل تغيير في الأساليب الماركسية إذا وجب أن يغيروها ويقتربوا بعض الاقتراب من النظم الديمقراطية، فإنما يصعب الخروج على قواعد كارل ماركس لمن يجهل أعمال الإصلاح وأحوال العمل في البلاد الديمقراطية ويمتنع عليه أن يعقد المقارنة بينها وبين أعمال الإصلاح وأحوال العمال في الجمهوريات السوفيتية، فإذا تيسرت هذه المقارنة للمتعصبين المتعنتين لم تقم الحوائل الحاسمة دون التغيير درجة بعد درجة، ومرحلة بعد مرحلة حتى يتم التقارب والتوفيق بين أطراف المذهبين، أو بين أطراف المذاهب التي تتناول مسائل الإصلاح ومشكلات الاجتماع.
وقد كان من قوانين العدل المروغ منها عند الماركسيين أن تحرم الوراثة كما تحرم الملكية. ولكن تحريم الوراثة فيما نرى أدنى إلى الظلم والمفارقة من تحريم الملكية حيث كانت في المال أو العقار، لأن الحكومات والقوانين لن تمنع الإنسان أن يرث عن أبيه أمراضه وعيوبه وسوء العلاقة بينه وبين غيره، فليس من حقها أن تمنعه ميراث الخير الذي يصل إليه أو تقطع الصلة بينه وبين مساعي أبيه، وإذا كان للمجتمع حق في ميراث الفرد الغني فليس للمجتمع أن يجهل حق بنيه وبناته وأقرب الناس إليه.
فاليوم يرجع الشيوعيون إلى الاعتراف بالميراث والتوصية بعد الاعتراف بالملكية الصغيرة مدى الحياة، وإذا كانت الأملاك المنتجة للثروة لا تزال في الجمهوريات السوفيتية مستثناة من حيازة الأفراد فالديمقراطية نفسها لا تمنع استيلاء الدولة على هذه الأملاك، ولا تمنع مشاركة المجتمع في التركات الكبيرة بحصة تربى على حصص الأبناء الأقربين.
نعم إن الملكية الصغيرة في الجمهوريات السوفيتية تخالف الملكية الصغيرة في الأمم الديمقراطية، لأنها هناك أشبه بالحكر الذي يستغل بإشراف الدولة ولا يجوز لمن يستغله أن يتصرف فيه بالبيع أو الهبة أو التأجير، ولكنه - كائناً ما كان - أقرب إلى الديمقراطية منه إلى الماركسية في أساسها. فهو قد تجاوز منتصف الطريق في اتجاه الديمقراطية، ولا سيما بعد تسويغ التوصية والميراث.
وليست الشيوعية وحدها بالمذهب الذي يقترب في إبان الحرب - وبعد الحرب - من المذاهب الاجتماعية على اختلافها.
فإن الديمقراطية مثلها تقترب من ناحية إلى الاشتراكية كما تقترب من ناحية أخرى إلى النازية أو الدكتاتورية. وإنها لمضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الهوادة والإغضاء في معاملة الخارجين على مبادئ الحرية الفردية والحرية القومية، ومضطرة لا محالة إلى العدول عن خطة الحيدة التامة - من قبل الحكومة - في الرقابة على شؤون الثروة ومسائل الأرزاق، ومضطرة لا محالة إلى اختصار (الإجراءات) الشكلية التي كانت تعوق حركة العمل في الحكومات البرلمانية، وهي اليوم بما تفرض من الضرائب على التركات وعلى الأرباح المفرطة والمرافق العامة أصح اشتراكية من مذاهب الاشتراكيين، لأنها تشارك الأفراد في أملاكهم الخاصة وغلات تلك الأملاك وتنقلها إلى المفتقرين إليها، على سنة الدعاة الشيوعيين الذي جعلوا شعارهم: (من كل حسب ما يستطيع، ولكل حسب ما يحتاج إليه).
إلا أن الفرق بين الديمقراطية والشيوعية في هذه الحالة أن الديمقراطية تدع الفرد مستطيعاً لجمع الثروة حتى يؤخذ منه العون الاجتماعي على حسب ما يستطيع، أما الشيوعية فقد سلبت الفرد نخوة المنافسة وحمية الطموح إلى التفوق، وتركت له شيئاً واحداً وهو أن ينتظر المدد من المجتمع على حسب الحاجة إليه.
ومن ثم لا يبقى بعد الحرب مذهب اجتماعي واحد كما كان قبلها أو أراد دعاته أن يبقى، وإنما تتقارب مع الزمن حتى يخلص منها مذهب واحد جامع لمحاسنها معتبر بمساوئها، والديمقراطية هي المذهب الغالب عليها في النهاية لأنها هي المذهب الذي لا يصطدم في أساسه بموانع التطور والاقتباس، فالشيوعية التي تبيح الملكية وتبيح الميراث تناقض أساس المذهب الذي قامت عليه، والدكتاتورية التي تنكر على الزعيم قداسته تناقض أساسها وتنتزع حجتها في محاربة الديمقراطية، ولكن الديمقراطية التي تحد الملكية على سنة المساواة، أو تزيد في سلطان الوزير المقيد برقابة النواب والناخبين لا تزال ديمقراطية في الصميم ولا تنقض مبدأ من المبادئ التي تقوم عليها الحرية الفردية، وتعاون الأمة ذلك التعاون الذي يشمل الطوائف والأفراد.
ما من حركة إنسانية هي شر محض من مبتدئها إلى منتهاها حتى الحرب العالمية وما أشنعها وأقساها.
فلعل هذا التصالح بين المذاهب التي تسعى إلى خدمة الإنسان هي ثمرة الخصومة التي تسفك فيها دماء بني الإنسان، ولن يزال الارتقاء غنيمة غالية الثمن في تاريخ أبناء آدم وحواء.
عباس محمود العقاد