مجلة الرسالة/العدد 613/العناية الإلهية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 613/العناية الإلهية

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1945



للكاتب الفرنسي (لامنية)

للأستاذ زكريا إبراهيم

(. . . إلى اللآنسة المهذبة (ا. م): يا فتاتي: إن العناية الإلهية

ترعانا، فدعيني أضع بين يديك هذه القطعة الجميلة الرائعة

التي تعبر - في بساطة مقدسة - عن تلك العناية الإلهية

الفائقة. . .)

ز. إ.

كانا جارَيْن، يعيش كل منهما مع زوجته وأبنائه الصغار، ولا همَّ له سوى توفير أسباب الحياة لأسرته.

وذات يوم، طافت برأس أحدهما خواطر مزعجة، فقلقتْ نفسه، واضطرب باله، وأخذ يفكر في نفسه قائلا: (ماذا يكون من أمر زوجتي وأبنائي، لو عَدَا عليَّ عادي الموت أو المرض؟).

وألحَّت عليه هذه الفكرة، فلم يجد للخلاص منها سبيلا. وهكذا أخذت الخواطر المزعجة تأكل قلبه، كما تأكل الدودةُ الثمرةَ التي تختبئ فيها.

أما الآخر، فقد طافت بذهنه هذه الفكرة نفسها، ولكنه لم يتوقف عندها، ولم يِعْرها أدنى اهتمام، بل قال في نفسه: (إن الله يعرف كل خلائقه، وهو يعتني بها جميعاً، فلابدَّ أنه سيعتني بي، أنا وزوجتي وأبنائي).

وهكذا عاش مطمئناً هانئاً، بينما رفيقه في حيرة وقلق واضطراب، ولم يستطع - لحظة واحدة - أن يستمتع بالراحة والهدوء

وذات يوم، كان صاحبنا يعمل في حقله، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الحزن والكآبة، من فَرْط ما به من قلق وهَمّ، فرأى بعض العصافير، وهي تدخل إلى إحدى الشجيرات، ثم تخرج منها، ثم لا تلبث بعد قليل أن تعود إليها.

وحينما اقترب من تلك الشجيرة، رأى عشَّين متجاورين، في كل منهما عصافير صغيرة، لم ينبت لها الريش بعد!

وعاد الرجل بعد ذلك إلى عمله، ولكنه يرفع بصره من وقت إلى آخر، وينظر إلى تلك العصافير التي تروح وتجئ حاملةً القوت إلى صغارها: وذات مرّة، كانت إحدى الأمهات عائدة إلى عشها ومعها القوت الذي جلبته لصغارها، فانقضّ عليها نسر كاسر، ومضى بها، وهي تتلوَّى في قبضته، وترسل الصرخات الأليمة المدوية!

وحينما وقعت عينا الرجل على هذا المنظر لجَّت عليه خواطر السوء أكثر من ذي قبل، فزاد قلقه واضطرابه، وأخذ يفكر في نفسه قائلا: (إن في موت الأم موتاً للأبناء، فماذا عسى أن يفعل أبنائي، لو قُدّرَ أن أموت، وما لهم من معين سواي؟).

وظل الرجل طوال اليوم حزيناً كاسف البال، وبات طيلة ليلته ساهداً لم تكتحل عيناه بنوم.

وفي اليوم التالي، حينما عاد إلى عمله في الحقل، فكّر في نفسه قائلاً: (تُرَى ما الذي صار من أمر الصغار الذين خلّفتهم تلك الأمّ المسكينة، لابدّ أن يكون عدد كبير منهم قد مات جوعاً) ومضى الرجل إلى الشجرة، لكي يرى بعينيه ما حدث وألقى الرجل نظرة على الشجيرة، فراعه أن الصغار جميعاً في أحسن حال، ليس بينهم من يبدو ضعيفاً أو خائراً أو موشكا على الموت) ولما كانت الدهشة قد بلغت به كل مبلغ، فقد اختبأ ليرى بنفسه ما الذي سيحدث.

وبعد لحظات، سمع الرجل صرخة خفيفة، ولمح صاحبة العش الآخر، وقد أسرعت تحمل القوت لصغارها، وصغار رفيقتها التي اقتنصها النسر. ورأى صاحبنا هذه الأمّ الرحيمة وهي توزع القوت على الصغار جميعا بلا تفرقة ولا تمييز، فيصيب كل منهم طعامه، ولا يُتْرك واحدٌ منهم يتيماً لا عائل له!

وفي المساء، مضى الرجل إلى جاره المؤمن، يروي له ما رآه بعيني رأسه.

وعند ذلك قال له رفيقه: (فيِمَ القلق والاضطراب إذن؟ إنَّ الله لا يتخلّى عن عباده أبداً، وهذه محبَّته لها أسرارٌ لا سبيل لنا إلى معرفتها. فحسبنا أن نؤمن، ونأمل، ونحبّ، ولنواصل السير في طمأنينة وسلام.

(وإذا قّدر لي أن أموت قبلك، فإنك تصير أباً لأبنائي، وإذا قّدر لك أن تموت قبلي، فإنني أصير أباً لأبنائك.

(أما إذا قُدّر لنا نحن الاثنين أن نموت قبل أن يصبح أبناؤنا رجالاً، فسيكون أبوهم، عندئذ ذلك الأب الذي في السماء!)

زكريا إبراهيم

مدرس بمدرسة السويس الثانوية