مجلة الرسالة/العدد 613/التكتم في البحث العلمي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 613/التكتم في البحث العلمي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1945



للأستاذ خليل السالم

لا يصيخ العلماء اليوم لصرخة الضمير الحي، الذي يهيب بهم أن يخففوا من غلواء إنتاجهم المهلك واستكشافهم المدمر، فالأسلحة السرية تثب من مكامنها، وتعبث بحياة البشر آنا بعد آن، وتهدم من معالم الحضارة عمراناً بعد عمران. ولا يذهبن الخاطر إلى الفتك والتدمير مقصوران على الأسلحة السرية وحدها، ولكن هذه أكثر إزعاجا وأفعل في بث الرعب والفزع لأنها كالعدو المفاجئ يخرج من الظلام في حين لم يحسب له الإنسان حساباً ولم يوطن نفسه عليه

والأمم التي تؤمن بالعلم، وتؤمن بفعاليته القوية في ابتكار أساليب الهجوم والدفاع الناجعة، هذه الأمم تفتح المختبرات وتجهزها بالمعدات والآلات، وتغدق عليها وافر الأموال والميزانيات، وتجند العلماء للعمل فيها. وطبيعي بعدئذ أن تحيط أبحاثهم بسياج حصين من الكتمان الشديد وتحزم النشر وتقتل حرية البحث.

وقد يرضى بعض العلماء بهذا الوضع الشاذ البعيد عن روح العلم الإنسانية، فما اسهل أن تكسب الحكومات في الأزمات والضروف الحرجة عطف العلماء وتعاونهم وتآزرهم، فهم يرضون ظناً منهم بأنهم يخدمون مصلحة الأمة ويقودون الجيوش إلى غاية النصر، ويؤكدون الذات في المعترك الدولي. ونجد نفراً آخر غير قليل يجد نفسه مجبراً على هذه الخدمة القهرية والوحشية تحت ضغط النظام القاسي الذي يحيا فيه، ليؤمن أسباب الحياة التي ما كان ليبلغها لولا انسجامه مع روح العمل وتفانيه فيه. فالسلطة لا تستخدم عالماً حراً ينشئ أسرار بحثه، ويبشر بصراحة العلم المثالية؛ وإنما تلاحقه بصنوف الاضطهاد والضغط، وتسوقه للقيام بأعباء عمل آخر لا ترتاح له نفسه ولا يتسق معه طبعه.

ولذلك نجد في أيام الحرب مبرراً لهذا الجو البغيض الكريه الذي يحيا فيه البحث العلمي المنتج. ولكننا لا نجد مبرراً شرعياً يسوغ للنظام المقاسي أن لا يمتع العلماء بالجو الفسيح الطلق في أيام السلم أيضاً.

فقد درجت مؤسسات الصناعة أن تعد المختبرات المجهزة تجهيزاً فنياً حديثاً، وتعين للأشراف عليها العلماء الذين لمعت أسماؤهم في الحقل الفني الذي فيه، وترصد المخصصات الطائلة لابتكار وسائل التحسين والسرعة في الإنتاج. وتوفير المواد الخام واقتصاد الطاقة المستنفذة، وإن لم يكن لها مختبرها الخاص بها. تكلف علماء الجامعات القريبة بحل المشكلة الراهنة أو إجراء التجارب الضرورية. . وهي في كل هذا تقيد الباحث وتشترط حفظ البحث سرياً. فيحرم على الباحث أن يتصل بغيره من أنداده ويتبادل معهم الرأي والنقاش، وتمنعه أن يستعير كتابا من مكتبة ما خشية أن يشتم من مادة الكتاب رائحة البحث، تعقل لسانه فلا يصرح أو يقول. وتتمادى بعض الصناعات في هذا التكتيم والتستر، فترفض أن تجيب أي سؤال يتعلق بماهية البحث، أو عدد الباحثين في مختبراتها، أو مقدار المبالغ المكرسة للبحث، ولا تبوح بأسماء مديري المختبر فيها. ولا تعلن أخبار التحسين والكشف أبداً. . والصناعة التي تحيا في جو التزاحم والتنافس ترى أن هذا الكتمان حق مشروع لها، فهي لا تمول العلم إلا لتستغل نتائجه في التجارة والإحتكار، فلا قيمة لأي كشف تستطيع الصناعات المنافسة أن تقلده وتستفيد منه.

ولكن هذا التكتم خطر على العلم المجتمع، يعبث بمقدرات الأول، ويمنع المجتمع من النفع والكسب ويحصرهما في فئة جشعة محدودة: خطر على تقدم العلم لأن انقطاع العلماء عن المراسلة المتبادلة والتفاهم الحر يضاعف الجهود المضاعة لاكتشاف حقيقة واحدة في منشآت متعددة، والإتيان بثمر كثير. ويقطع التكتم عن العالم معين الخبرة والإيحاء الخارجيين اللذين كانا في ظروف ليست قليلة سبب الاكتشافات والاختراعات.

والأبحاث الآمنة جانب النقد والنقاش يخرج مبتورة ناقصة تضرب في طياتها الفوضى والترجيح، وخصوصاً عندما يكون مدير الشركة شخصاً لا يمت إلى العلم بصلة، كما هي الحال في أغلب الأعيان، يشيع التدجيل في البحث، ومع ذلك أخطار الخلق السيئ المتولد في نفس العالم، كالتنفس الدنيء على حقوق التسجيل وابتكار ما يساعد يد الشر ومعاول الهدم أن تعيث وتفسد وتدمر.

والخطر الأكبر يحيق بالمجتمع، فالصناعة تكره العالم على الصمت حتى تحتكر السوق وترفع الأسعار وتجني الأرباح. قد ظهر هذا الخطر أوضح ما يكون في عمليات التسجيل وصناعة العقاقير والأدوية. فهذه تصنع من مواد موفورة رخيصة، ولكن أسرار صناعتها الغامضة تجعل في إمكان الصناعات أن ترفع أثمانها ارتفاعاً فاحشاً بحيث تسمح للمرض أن يزهق أرواحاً لا تعد ولا تحصى لأنها لا تجد لديها ثمن الدواء.

وتتصرف الصناعة بالمكتشفات السرية كما يروق لها، فمنها ما يقتل في المهد، ومنها ما يوضع على الرف، ومنها ما يطبّق في وقت متأخر مهما تكن حاجة المجتمع لها ماسة بالغة. وفي كثير من الأحيان ترفض الصناعة مبدأ التحسين قطعاً لئلا تموت الصناعة فلا يسمح مثلاً بتحسين مصابيح الكهرباء أو صمامات الراديو أو شفرات الحلاقة إلا ضمن نطاق مخصوص. لأن التحسين يقلل الاستهلاك والتلف فتقل تبعاً لذلك الأرباح، ولاهم للصناعة إلا أن تغمر الأسواق بالبضائع الرائجة سواء طالت خدمتها أو قصرت.

وكذلك يسيء هذا التكتم للصناعة أن تهمل التفكير بخدمة المجتمع، وتطيع قوانين المباراة التجارية قبل كل شيء آخر. وعندما تأمن ضغط المباراة التجارية كأن تعقد الشركات العامة في حقل واحد الاتفاقات بينها على تبادل البحوث واتحاد الآراء وتوحيد الأسعار، وإدخال التحسين في المصانع على نسق واحد وفي وقت واحد. وبذلك يكون هذا التكتم استغلالا بشعاً لطاقة العلماء الذهنية ومال الجمهور المستهلك

لذلك قرر مجلس جامعة كمبردج في فرصة ماضية أن تعلم العمدة بكل كشف جديد، فإن رأت أن تطبيقه يزيد في رضاء المجتمع وسعادة الأفراد، سمحت للصناعة باستغلاله واستثماره، وإن رأت غير ذلك استعملت سلطتها القانونية في كبته وقتله قبل أن تشتريه الصناعة وتفيد به، ويؤسفنا أن نقول إن النظام الرأسمالي السائد لم يسمح لهذا القانون أن يتنسم روح الحياة.

وإليك ما رد به العلامة رومور على الذين لاموه على كشفه النقاب عن أسرار صناعة الفولاذ وفضحه هذه الأسرار بعد أن مكثت سراً مكتوماً على طول الأجيال السابقة قال: (لقد وجهت إلي انتقادات متضاربة بعد اجتماع الأكاديمية، وإني لا أجد في نفسي نزوعاً قوياً للرد عليها. استغرب المنتقدون أن أفشي أسراراً كان يجب أن تبقى مكتومة محصورة في الشركات التي تستثمرها لمصلحتها أولاً ومصلحة الوطن ثانياً. . . ولكن ألا يتبرأ هذا الشعور من النبل ويناقض روح العدل الطبيعي. .؟ ومن أين لنا أن تكون مكتشفاتنا ملكاً خاصاً لنا بحيث لا يكون للمجتمع أي نصيب فيها؟! إن واجبنا الأول المهم أن نساعد المجتمع ونسعى للمصلحة العامة. . . والشخص الذي يكون بمقدوره أن يفعل خصوصاً عندما لا يكلف أكثر من أن ينطق ويقول شخص مقصر في واجب نبيل، والظروف التي تبرر له ذلك ظروف حقيرة مستهجنة. قد يكون حق في تذمر البعض من المجتمع لا يكيل المديح للمكتشفين ولا يفيهم حقهم من التقدير والإكبار، وإنما ينظر بعين التقديس والإعجاب لأبحاثهم ما دامت سراً مستغلقاً حتى إذا ما أعلنت صرخ بملء فيه (أهذا كل ما هنالك؛). . . ولكن أيكفي هذا لنمسك عن المجتمع ما هو بأمس الحاجة أليه، وما يحتمل أن يجني منه المغانم الوافرة؛ أيحق للطبيب أن يرفض تقديم الإسعاف والمساعدة لمريض مخطر حينما لا يتأكد من تقدير المريض له واعترافه بالجميل؛. . . إن نفسي لا تقر النظام الكريه الذي تبناه جيراننا في كتم الأسرار. . إن هناك ما هو أهم وأسمى من هذا كله. . . هو واجبنا نحو الإنسانية بأسرها. فالعلماء العاملون في حقل العلم لترقية وتقدمه يجب أن يكونوا اخوة ورفاقا ومواطنين في عالم واحد. . .)

إننا لننظر إلى المستقبل القريب بعين الرجاء والأمل: الرجاء بأن تزول من العالم هذه العلل المستعصية الفتاكة، والأمل بأن تكشف هذه الأزمة عن انتشار مبادئ الحق والحرية والعدل والمساواة في كل الشعوب.

(السلط - شرق الأردن)

خليل السالم

(ب. ع. من الدرجة الأولى في الرياضيات)