مجلة الرسالة/العدد 611/على هامش النقد
مجلة الرسالة/العدد 611/على هامش النقد
التناسق الفني في تصوير القرآن
للأستاذ سعيد قطب
قلنا: إن القرآن يرسم صوراً ويعرض مشاهد، فينبغي أن نقول: إن هذه المشاهد وتلك الصور، يتوافر لها أدق مظاهر التناسق الفني في ماء الصورة، وجو المشهد، وتقسيم الأجزاء، وتوزيعها في الرقعة المعروضة.
والذي نعنيه هو:
أولاً: ما يسمى (بوحدة الرسم). وحتى المبتدئون في القواعد يعرفون شيئاً عن هذه الوحدة، فلسنا في حاجة إلى شرحها. ويكفي أن نقول القواعد الأولية للرسم تحتم أن تكون هناك وحدة بين أجزاء الصورة، فلا تتنافر جزيئاتها.
وثانياً: توزيع أجزاء الصورة - بعد تناسبها - على الرقعة بنسب معينة حتى لا يزدحم بعضها بعضا، ولا تفقد تناسقها في مجموعها.
وثالثاً: اللون الذي ترسم به، والتدرج في الظلال، بما يحقق الجو العام المتسق مع الفكرة والموضوع.
والتصوير بالألوان يلاحظ هذا الانسجام، ويقع شيء منه في بعض المشاهد المسرحية والسينمائية المبدعة. والتصوير في القرآن يلاحظ هذا كله، وإن كانت وسيلته الوحيدة هي الألفاظ. وبذلك يسمو الإعجاز فيه على تلك المحاولات.
1 - خذ سورة من السور الصغيرة التي ربما يجسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان أو حكمة السجاع. خذ سورة (الفلق).
فما الجو المراد إطلاقه فيها، إنه جو التعويذة، بما فيه من خفاء وغموض وإبهام، فاسمع:
(قُلْ: أَعوذُ بربِّ الفَلَقْ. من شرِّ ما خَلَق. ومن شرِّ غَاسِق إذا وَقَب. من شرِّ النفّاثات في العُقدَ. ومن شر حاسد إذا حسد).
فما الفلق الذي يستعيذ بربه؟ نختار من معانية الكثيرة معنى الفجر، لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام ما سيأتي: مما خلق ومن الغاسق، ومن النفاثات، ومن الحاسد، ولأن فيه إبهاما خاصاً سنعلم حكمته بعد قليل.
يعوذ برب الفجر (من شر ما خلق) هكذا بالتنكير وبما الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير والشمول يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم. (ومن شر غاسق إذا وقب) الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء، ويمسى مرهوباً مخوفاً. (ومن شر النفاثات في العقد) وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هن لا ينفثن غالباً إلا في الظلام. (ومن شر حاسد إذا حسد) والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض مرهوب كذلك.
الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض. وهو يستعيد من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء. فلم خصصه هنا (برب الفلق)؟. . . لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان المتبادر إلى الذهن أن يعوذ من الظلام برب النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكم هنا هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد. . . و (الفلق) يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور.
ثم ما هي أجزاء الصورة هنا أو محتويات المشهد؟
هي من ناحية: (الفلق، والغاسق) مشهدان من مشاهد الطبيعة ومن ناحية (النفاثات في العقد، وحاسد إذا حسد) مخلوقان آدميان.
وهي من ناحية: (الفلق) و (الغاسق) مشهدان متقابلان في الزمان. ومن ناحية: (النفاثات) و (الحاسد) جنسان متقابلان في الإنسان.
وهذه الأجزاء موزعة على الرقعة توزيعاً متناسقاً. متقابلة في اللوحة ذلك التقابل الدقيق. وكلها ذات لون واحد، فهي أشياء غامضة مرهوبة، يلفها الغموض والظلام. والجو العام قائم على أساس هذه الوحدة في الأجزاء والألوان.
ليس في هذا البيان شيء من التمحل، وليست هذه الدقة كلها بلا هدف. وليس هذا الهدف حلية عابرة. فالمسألة ليست مسألة ألفاظ أو تقابلات ذهنية. إنما هي مسألة لوحة وجو وتنسيق وتقابلات تصويرية تعد فناً رفيعاً في التصوير، يلفت النظر إذا أداه مجرد التعبير.
2 - عبر القرآن عن الأرض قبل نزول المطر، وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها (هامدة) ومرة بأنها (خاشعة) وقد يفهم البعض أن هذا مجرد تنويع في التعبير. فالنظر كيف وردت هاتان الصورتان:
لقد وردتا في سياقين مختلفين على هذا النحو:
(1) وردت (هامدة) في هذا السياق (يأيها الناس: إن كنتم في ريب من البعث، فأنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، فم من علقة، ثم من مُضْغة مُخلّقة وغير مخلقة؛ لنبيَّين لكم، ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلا، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يُرَدُّ إلى أرذل العُمر، لكي لا يعلمَ مِنْ بعد علمِ شيئاً، وترى الأرض هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج).
(ب) ووردت (خاشعة) في هذا السياق: (ومن آياته الليلُ والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذي خلقهن، إن كنتم إياه تعبدون، فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون. ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)
وعند التأمل السريع في هذين السياقين، يتبين وجه التناسق في (هامدة) و (خاشعة). إن الجو في السياق الأول جو بعث وإحياء وإخراج؛ فما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (هامدة) ثم تهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج.
وإن الجو في السياق الثاني هو جو عبادة وخشوع وسجود، فما يتسق معه تصوير الأرض بأنها (خاشعة) فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت.
ثم لا يزيد على الاهتزاز والإرباء هنا، الإنبات والإخراج كما زاد هناك، لأنه لا محل لهما في جو العبادة والسجود. ولم تجيء (اهتزت وربت) هنا للغرض الذي جاءتا من أجله هناك. إنهما هنا تخَّيلان حركة للأرض بعد خشوعها، وهذه الحركة هي المقصودة هنا، لأن كل ما في المشهد يتحرك حركة العبادة، فلن يكن من المناسب أن تبقى الأرض وحدها خاشعة ساكنة. فاهتزت لتشارك العابدين المتحركين في المشهد حركتهم، ولكي لا يبقى جزء من أجزاء المشهد ساكنا وكل الأجزاء تتحرك من حوله. وهذا لون من الدقة في تناسق الحركة المتخيلة، يسمو على كل تقدير.
ويحسن أن نلاحظ أن الهمود والخشوع يتحدان في المعنى العام، ويستدل بهما في الآيتين على قدرة الخالق على البعث، فما هما إلا سكون أو خمود، تعقبه الحركة والحياة، فلو كان المقصود هو مجرد أداء المعنى الذهني، لما كانت هناك ضرورة لهذا التنويع. ولكن التعبير القرآني لا يرمي إلى مجرد أداء المعنى الذهني، إنما يريد الصورة كذلك، والصورة تقتضي هذا التنويع، ليتم التناسق مع الأجزاء الأخرى في اللوحة، أو في المشهد المعروض
ودلالة هذا التنويع حاسمة في أن (التصوير) مقصود قصدا في أسلوب القرآن؛ وأن التعبير لا يقصد إلى أداء المعنى الذهني مجردا، إنما يعمد إلى رسم صور للمعاني، تختلف هذه الاختلافات الدقيقة اللطيفة حسب اختلاف الأجزاء والألوان
ثم لننظر الآن إلى (وحدة الرسم) في كل من الصورتين وفي أجزاء الصورة كذلك.
وحدة الصورة الأولى هي: مخلوقات حية تخرج من الموت أو مشاهد حياة، والأجزاء هي: نطفة تدرج في مراحلها المعروفة ونبتة تصير زوجا بهيجاً. وهي تراب ميت تخرج منه هذه النطفة، وأرض هامدة تخرج منها هذه النبتة والجو العام هو جو الإحياء المرتسم من هذه الأجزاء
ووحدة الصورة الثانية هي: مخلوقات طبيعية عابدة، أو مشاهد طبيعية. والأجزاء هي: الليل والنهار، والشمس والقمر، والأرض خاشعة لله. تموج فيها وتتصل بها جماعتان من الأحياء مختلفتا النوع متحدتا المظهر: جماعة من الناس تستكبر على العبادة، وجماعة من الملائكة تعبد بالليل والنهار. والجو العام هو جو العبادة المرتسم من هذه الأجزاء.
وهكذا تتناسق الجزئيات مع الجو العام، وتتحد جزئيات الصورة الواحدة تحقيقاً لوحدة الرسم وتوزع الأجزاء في الرقعة بهذا النظام العجيب.
3 - عرض القرآن في مواضع مختلفة كثيراً من صور النعمة التي أفاءها الله على الإنسان، وفي كل موضع كان يعرض مجموعة من النعم، متسقة (الوحدة) على هذا النحو الذي نعرضه في موضعين للتمثيل:
(ا) (والله جعل لكم من بيوتكم سكناً، وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم، ومن أصوافها وأوبارها أثاث ومتاعا إلى حين).
(والله جعل لكم مما خلق ظلالا، وجعل لكم من الجبال أكناناً، وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم. كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) (ب) (وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها - من بين فَرثِ ودم - لبناً خالصاً سائغاً للشاربين.
(ومن ثمرات النخيل والأعناب، تتخذون منه سكَراً ورزقاً حسنا. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
(وأوحى ربك إلى النحل: أن أتخذى من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذُلُلاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)
يلاحظ في هذين السياقين أن الأنعام مذكورة فيهما على السواء، فلننظر من أي الجوانب عرضت في كل سياق، ولماذا عرض هذا الجانب، وذلك الجانب هناك.
(ا) السياق الأول يرسم صورة أو مشهداً للبيوت، والأكنان والظلال، والسرابيل، وكلها مما يلاذ به، أو يستتر، أو يستظل أو يحتمى. ولأن هذا هو (وحدة الرسم) عرض من (الأنعام) الجانب الذي يتفق مع هذه الوحدة. عرض الجلود التي تتخذ بيوتاً تستخف يوم الظعن، والأصواف والأوبار والأشعار التي تتخذ أردية وأثاثاً.
(ب) والسياق الثاني يرسم صورة أو مشهداً لاستخراج. الأشربة: السكر الذي يستخرج من الثمار، والعسل الذي يخرج من النحل. ولأن هذه هي (وحدة الصورة) عرض من الأنعام الجانب الذي يناسب الأشربة. عرض اللبن السائغ للشاربين.
ولم تقف دقة التنسيق عند وحدة المنظر العامة، بل تمشت إلى دقائق الجزئيات: فهذا السكر يستخلص من الثمرات المخالفة في هيئتها وطبيعتها للعسل، وهذا اللبن يستخرج من بين فرْثٍ ودم المخالفين في هيئتهما وطبيعتهما للبن؛ فهي كلها تستحيل من أشياء أخرى. ثم المنظر كله منظر زراعي حيواني.
ألا أنه الإبداع في دقة التصوير، وفي تناسق الإخراج. ومثل هذه اللمسات الدقيقة التي تستوعب دقائق الجزئيات كثير في القرآن، نكتفي منه بهذه الأمثلة، ونضيف إليها المثال التالي لماله من دلالة خاصة!
4 - (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم. فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما).
فالصورة صورة مبايعة بالأيدي، ولتنسيق الجو كله، جعل (يد الله فوق أيديهم) واستخدم هذا التجسيم في موضع التجريد المطلق، والتنزيه الخالص.
وعلماء البلاغة يسمون مثل هذا: (مراعاة النظير) ويعنون منه الجانب اللفظي، لأنهم لم يحاولوا أن يلحظوا جانب التصوير، ونحن نأخذ تعبيرهم نفسه (مراعاة النظير) ونعني به جانب التناسق الفني في الصورة، للمحافظة على (وحدة الرسم) وعلى جو المشهد وعلى الانسجام العام.
ولكن القرآن لا يستخدم في التصوير هذه (اللمسات الدقيقة) وحدها، إنما يستخدم كذلك (اللمسات العريضة) (ونحن نعبر بلغة التصوير لأننا في الواقع أمام تصوير قبل التعبير) هذه اللمسات العريضة قد تجمع بين السماء والأرض في نظام، وبين مشاهد الطبيعة ومشاهد الحياة في سياق. حيث تتسع رقعة الصورة لهذا كله على أساس من (الوحدة الكبيرة) بدل (الوحدة الصغيرة)
1 - من ذلك: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت؟)
فهذه ريشة تجمع بين السماء والأرض والجبال والجمال، في مشهد واحد، حدوده تلك الآفاق الوسيعة من الحياة والطبيعة، والملحوظ هنا هو (الضخامة) وما تلقيه في الحس من استهوال، والأجزاء موزعة بين الاتجاه الأفقي في السماء المرفوعة والأرض المبسوطة، والاتجاه الرأسي بينهما في الجبال المنصوبة، والإبل الصاعدة السنام. وهذه دقة تأخذها عين المصور الدقيقة في الأشكال والأحجام.
ومما يلاحظ هنا بعين المصور كذلك أن لوحة طبيعية تشمل السماء والأرض والجبال، لا يبرز فيها من الأحياء إلا الجمال، أو ما هو في حجم الجمال! والجمل هو الحيوان المناسب، لأنه أليف الصحراء الفسيحة التي تحدها السماء والجبال!
2 - ومن هذا النحو - مع تغيير في مواضع اللمسات:
(ولقد جعلنا في السماء بروجاً، وزيناها للناظرين، وحفظناها من كل شيطان رجيم، إلا من اسْتَرَق السَّمَْع فأْتبعهُ شهاب مبين. والأرض مددناها. وألقينا فيها رواسيَ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش، ومن لستم له برازقين).
ففي السماء بروج ضخمة، وشهب تنقض على المردة. وفي الأرض الممدودة رواسٍ راسخة، ونبت (موزون) (لا (بهيج) لطيف!) وفي الأرض كذلك (معايش) بهذا الجمع والتكثير، وفيها من لا يرزقه الناس بهذا التهويل والتنكير. . . وهذه مشاهد وحدتها الضخامة الحسية والمعنوية.
3 - وقد تتسع الرقعة ويتطاول المدى وتعرض اللمسات، ولكنها تدق في النهاية حتى تتناول الجزئيات:
مثال ذلك: (إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت. إن الله عليم خبير).
فهذه رقعة فسيحة في الزمان والمكان، وفي الحاضر الواقع، والمستقبل والمنظور، والغيب السحيق، وفي خواطر النفس ووثبات الخيال، ما بين الساعة البعيدة المدى، والغيث البعيد المصدر، وما في الأرحام الخافي بلفظه وحقيقته عن العيان، والرزق في الغد وهو قريب في الزمان مغّيب في المجهول، وموضع الدفن وهو مبعد في الظنون.
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء، ولكن اللمسات العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها، تدق في أطرافها، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول، وتقف بها جميعاً أمام كوة صغيرة مغلقة، لو انفتح منها سَمّ الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ولا نكشف القاصي منها والدَّان.
ذلك أفق واحد من آفاق التناسق الفني في تصوير القرآن ووراءه آفاق أخرى وآفاق!
سيد قطب