مجلة الرسالة/العدد 61/مثل أوربي لعرفان الجميل!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 61/مثل أوربي لعرفان الجميل!

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 09 - 1934



منزلي هو منزلك

(قصة مقتبسة عن تمثل آراء هؤلاء الأوربيين الذين يعيشون بيننا، ويأكلون خبزنا ثم يجزوننا عن الكرم لؤماً وعن المعروف نكراناً)

- الشرق، آه على الشرق!

همست الفتاة بهذه الكلمات، وقد رأت رودلف فالنتينو في رواية الشيخ.

وكان بير ازناي المدرس في تجهيز فالاندر قد طوّحت به الحاجة مرّة إلى مصر فكان معلماً في المدرسة العلمانية الفرنسية في (النزهة؟) ولبث فيها عشر سنين. ثم عاد إلى فرنسا منذ عشرة أشهر، وليس في جيبه شروى نقير، ولم يربح إلا حكايات وتجارب حملها معه من الشرق، فلما سمع مقالة الفتاة اغتنم الفرصة فقال:

- الشرق يا سيدتي؟ هل تحبين أن أقصّ عليك حادثة وقعت لي فيه، إنها مأساة هازلة عن الصداقة العربية. كان في مدرستي الفرنسية عشرون معلماً أوربياً ومعلم واحد عربي، عربي قحّ، ذو وجه أسمر مستطيل، يلبس القفطان والجبة الواسعة، ويبدلهما كل يوم بلون جديد. وهو مدرس للغة القرآن - الإجبارية في مصر - ومعرّض دوماً لاحتقار الأساتذة الأوربيين الذين يرون أنفسهم أرفع منه، فلا يتنزلون لمصاحبته.

أما أنا فكنت أحييه التحية المعتادة لا أبالي بسخط زملائي ودهشتهم، ولا بدهشته هو المسكين الذي ما كان يجرؤ على رد تحيتي إلا بابتسامة عريضة، ونظرات ملؤها العطف والاحترام، ولا تمتد صحبتنا إلى أكثر من هذا، لأنه لا يعرف كلمة من الفرنسية، ولأنني أجهل العربية إلا المائة كلمة التي لابد منها للسير في الشارع مثل عندك هنا عربجي اسمع فين شارع فؤاد.

ثم شاء القدر أن تلتقي مرّة في شارع فؤاد صباح يوم من ديسمبر حار ملتهب كأنه الظهيرة من أغسطس في فرنسا، وكان معه ابن عم له أقل عروبة منه، له إلمام بالإنكليزية، إلا أننا لم نكن نتفاهم إلا بصعوبة، وكان علينا أن نفترق، ولكن رغبتي في تعرف الحياة الشرقية وضجري من الوحدة أبقياني معهما. والفضل في بقائي لابن عمه هذا. . وللغة الإنكليزية (وأي إنكليزية؟.) ولم تكن إلا أيام حتى كنا أصدقاء.

كان طيب القلب، بسيطاً محبباً، ولكن فيه شيئاً من العنجهية والجفاء، وكنا نذهب كل خميس وكل أحد إلى النزهة جميعاً: أنا وهو وابن عمه، فنزور معاهد النزهة ومتاحفها في عربة أو سيراً على الأقدام.

وكان ابن العم كثيراً ما يتخلف عن الموعد، هرباً من مهمته الشاقة في الترجمة بيننا، فنبقى وحيدين، وتصوري موقفنا إذن: نسير جنباً إلى جنب ونحن ساكتان، نتبادل النظرات في ابتسامة ساخرة حزينة! ونسلم على المارة، وكنت قد تعلمت التحية العربية، وهي الإشارة باليد إلى الجبهة والشفة والصدر، رمزاً إلى أن الصداقة تشغل العقل بالتفكير، واللسان بالنطق، والقلب بالعاطفة، وكان صاحبي يتعلم بالفرنسية، ولكنه كان يحفظ مقطعاً واحداً في كل ساعة بعد أن أردده عليه مرات ويعيده علي محرفاً، فأشكره بابتسامة.

وكنا إذا بلغنا مسجداً ودخل هو وقفت أنا على الباب أستشعر الزهو بأنني رومي لا كالأورام، وأنني صديق الشيخ، وأنني تشرفت بالوقوف في عتبة قبور الصالحين.

وكان مساء السبت، وكنت في المدرسة، فدنا مني أحد الطلاب وأعطاني رسالة من الشيخ، مكتوبة بالفرنسية باللغة التي يحسنها طالب صغير، ففتحتها فإذا فيها:

(يا صديقي الغربي العالم الفاضل، تفضل بالمجيء غداً إلى داري الحقيرة، لنتناول الغداء معاً، واعلم أن منزلي هو منزلك. . .)

منزله منزلي! ولكن من الظهر إلى الساعة الرابعة، وطعامه طعامي، وكنت وا أسفاه مضطراً إلى الإجابة، لأن أي رفض مني يكسر هذا القلب الطيب، ولا أنسى ما حييت تلك الأكلة المنحوسة وهي التي يسمونها (الملوخية)، ولا أنسى كيف يأكلون من غير صحاف ولا شوكات، إنما يغمسون خبزهم جميعاً في صحفة واحدة، وكان على أن آكل بأصابعي هذه الدجاجات المحمرة التي أكرمني بها، وجعل نصيبي منها اثنتين، وقد ذهبت من الدعوة رأساً إلى الفراش، فلبثت ثلاثة أيام مريضاً!

ورأيت في هذه الزيارة عقيلة الشيخ سافرة، لأن المعلم كالقس ليس كالرجال، ولا ضرورة للتحجب دونه (هكذا. . .)

وتوثقت صداقتي مع الشيخ، فعرفني بالقاهرة وحياتها، ولم يكن غنياً، غير أنه لم يمكني من فتح كيسي مرة واحدة حينما أكون معه، بل يكون السابق إلى دفع الحساب المطلوب، كنا نزور الأهرام، ونجول في القاهرة وهي أشبه بعشرين مدينة مجتمعة منها بمدينة واحدة، بل هي عالم لا بد لرؤيته من ثلاثة أشهر. أما أنا فقد لبثت فيها مع الشيخ مدة قصيرة وإن أنس ذكراها لا أنس وقوف القطار بنا يوماً في المحطة، ورؤيتنا قريب الشيخ ينتظرنا ومعه البلح والبرتقال والموز المصري الصغير وغير ذلك مما لا أدري من أين أتى به، وما كنا نتحدث إلا بالابتسامات والجمل المقطعة والإشارات، كأن صداقتنا صداقة صامتة تتكلم فيها القلوب لا الأسنة، ولما اعتزمت العودة إلى فرنسا، في منتصف تموز، ودعني على المحطة وألقى عليّ نظرة كلها حب وعطف، وقال لي: إلى الملتقى! ولا تنس أن منزلي هو منزلك. ثم اختفى بين الجموع وإنساني البحر الواسع، وشواطئ الوطن المحبوب كل ما عداهما.

فقالت الفتاة:

- أهذا هو الشرق؟ يا ضياع أحلامي!

فهز الأستاذ كتفيه، وعاد يقول بصوت خافت: وبعد أمد من رجوعي عينت مدرساً في مدرسة ماجيدي الثانوية في الألب، فلبثت فيها مدة، وتزوجت فيها، وكنت جد مشغول بأمور المدرسة، حتى أنه لم يكن في وقتي ساعة واحدة خالية، وإذا أنا ذات يوم أفاجأ بكتاب عليه خط رديء، وطابع من طوابع (النزهة)! فإذا هو من الشيخ، وإذا هو يخبرني بمجيئه مع امرأته وولديه ليقضي عندنا عدة أشهر، كأنما جاء يتقاضاني بدل ما أحسن إلي، وتصوروا وقع هذه المفاجأة على امرأتي التي أغمي عليها من شدة الدهشة، ولم أر أبداً من الانغماس في هذه المهزلة، ولا سيما وأنهم أبحروا دون انتظار جوابي.

نزلت إلى مرسيليا أنتظرهم، فوجدت شيخاً غريباً في سراويل متهدلة وطربوش، ومعه امرأة ضخمة، على رأسها منديل أسود والى جانبها بنت صغيرة. واتفق أن تفتحت أبواب السماء يومئذ فهطل المطر غزيراً، حتى شعرنا أن السماء قد هبطت على الأرض فدخلنا مقهى قريباً، ولكن البنت ارتاعت منه، فملأت الدنيا بكاء ولم تشأ السكوت، وأخيراً أزفت ساعة القطار فركبناه إلى ماجيدي، والناس يرمقونني يحسبون أني أنقل إلى البلد (سركا) غريباً. وبلغنا المنزل، فكان استقبال زوجتي بارداً، وجاءت ساعة الطعام، فلم تألف أيديهم الأكل بالشوكات والصحاف، وانتشروا بعد الطعام في قاعة الأكل وفي الغرف المجاورة، وبكى الطفل بكاء شديداً، فبكت زوجتي أيضاً، ووقعت أنا في حيرة بينهما، فلعنت الشرق ومن شاد بذكره.

ولما كانت صبيحة الغد سمعت وأنا نائم أصواتاً غريبة تمتزج بأحلامي، فصحوت فإذا بزوجتي ترقص أمام السرير، وتغني وتصيح: لقد سافروا يا بيير، لقد سافروا!. .

ونظرت فإذا الشيخ قد ترك لي بطاقة صغيرة، فيها جملة واحدة عربية، حملتها إلى من يترجمها لي، فإذا فيها: - وداعاً! لقد علمت الآن أن منزلك ليس منزلي.

دمشق:

(ذو الطاءين)