مجلة الرسالة/العدد 61/ما هو أدب اليوم؟. . .
مجلة الرسالة/العدد 61/ما هو أدب اليوم؟. . .
للأستاذ كرم ملحم كرم
أدب اليوم رواية وقصة،
فالمنشئون من أي طبقة كانوا لا يعتمدون في معظم مؤلفاتهم على غير الحكاية والرواية، فالفن القصصي هو السائد. وأكثر الأدب بلغوا القمة في إخلاصهم لهذا الفن. ولا بدع، فالرواية محك الأدب. المنشئ البليغ يظهر فيها، والكاتب الركيك السمج يفضح نفسه إذا توكأ عليها.
أكابر الأدب في العالم لجئوا إلى القصة يذيبون فيها بلاغتهم وقوة بيانهم. فما أحجم عنها (فولتير) ولا (جان جاك روسو) ولا (لامارتين) ولا (ألفرد ده موسيه) ولا (فكتور هوجو) ولا (فرنسوا كوبيه) ولا (تولستوي) ولا (أد جار والاس) ولا (كونان دويل)، فكلهم مال إلى القصة يعالجها.
وإذا لم تكن رواية (غرازبيلا) أو رواية (رافائيل) أسمى من شعر لامارتين فهما لا تقلان سمواً عن هذا الشعر. وإذا لم تكن رواية (البائسون) لفكتور هوجو أرفع من منظومة فلقد عادلت هذا المنظوم، ونفحت الشاعر بشهرة فوق شهرته، وزادت في تخليده، وحملت عشاق الأدب الروائي على التحدث عنها في العالم أجمع. فإن شهرة (البائسون) شهرة عالمية لا يجهلها ناد أدبي. وما يقال فيها يقال في (غرازبيلا) و (رافائيل) للامارتين، وفي اعترافات جان جاك روسو. أليست اعترافات جان جاك روسو حكاية من الحكايات وفيها يحدث الرجل عن نفسه؟. . .
نعم لقد تربع جان جاك روسو في (عقده الاجتماعي) في ذروة الفلسفة، على أن (اعترافاته) رفعت من مقامه كأديب، وباتت خالدة كمؤلفه الفلسفي، فمن شاء الوقوف على حياة الرجل فليس له إلا أن يقلب (الاعترافات) فيدرك من هو جان جاك روسو.
و (أناتول فرانس) استاذ الأدب في مطلع القرن العشرين مدين بشهرته لروايته، ومثله بلزاك، وأميل زولا، وموريس بارس، ومارسيل بريفو، وهنري بوردو، ورينه بازان، وبول بورجيه، فإن اعظم أدباء فرنسا لا تقوم شهرتهم على سوى الروايات التي أنشأوها، ومثلهم أدباء إنكلترا وروسيا. فالقصة إذا أساس الأدب الع والدين نفسه يقوم على الروايات. فما هو كتاب التوراة، وما هو كتاب الإنجيل، وما هو القرآن؟ أليس للرواية من هذه الكتب الدينية أكبر نصيب؟
وإن تكن التوراة أقدم كتاب تتداوله الأيدي ويتسنى للجميع الاطلاع عليه، جاز لنا القول أنه أول كتاب عرفه العالم مشيد الأركان على القصة. فهو يبدأ بقصة وينتهي بقصة. والكتب الخالدة في معظمها - إذا استثنينا كتب الفلسفة والعلم - كتب قصصية سواء صبت نظماً أو نثراً.
ولا شأن اليوم في المؤلفات الأدبية لسوى المؤلفات القصصية، وهذه الكتب التي تتمتع بالجوائز الضخمة، ولا سيما جائزة (نوبل)، لا تخرج في سوادها الأعظم عن النطاق الروائي.
ولقد جاء الأدب العربي في عهده الأول بما يعجز عنه الغرب من قصص وروايات. فما هي (كليلة ودمنة)، وما هي (ألف ليلة وليلة)، وما هو (عنتر)، بل ما هي (الأغاني)، وما هو (المستطرف)، وما هو (العقد الفريد)، وما هي (نهاية الأرب)؟. . . كلها روايات وقصص: وإن لم تكن كليلة ودمنة غير عربية المولد فهي لم تخلد في سوى النص العربي. وباستطاعة لغة الضاد أن تتبناها، خصوصاً ولها عليها باستبقائها يد بيضاء وما يقال في كليلة ودمنة يقال في ألف ليلة وليلة. فالأدب العربي احتضن ألف ليلة وليلة وتعهدها بالبقاء. ويمكن الإدعاء أنها عربية الوجه واللسان. أما رواية (عنتر) فقد روى أنها من سبك الأصمعي. والأصمعي - ألف رحمة الله عليه - خير من لفق وأختلق، وروى وتحدث، وسرد وأبتكر وأخترع. ولقد أتى بالعجائب وهو في تلك الصحراء الكاوية اللاذعة. فبهر العيون وملك اللباب بغزارة علمه وفرط ذكائه وعذوبة حديثه وفيضان بحره. فانه ليتدفق كالسيل في الحديث عن الأعراب وعشقهم وغرامهم. ويروي حكاياتهم بدقة وإبداع، فيسحر سميعه وجليسه، ويستدر رفد الملوك والعظماء، ويجود بالمعجزات فيقصر عنه المتطاول والمقلد واللاحق، كأن سر الرواية في الأدب العربي القديم لم يفتح على غير الأصمعي.
ولو ظهرت كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة في هذا العهد لكان الأدب العربي سيداً في الفن الروائي، حتى وإن يكن ثمة من يزعم أن الكتابين ليسا من مبتكرات الأدب العربي، فليس من أدب غير الأدب الشرقي يسبح في هذا الخيال الرحيب الخصيب.
ولا ننسى أن أداء القصة وسياقها في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يختلفان كل الاختلاف عن مثلهما في روايات اليوم. فهما جديدان مبتكران لقوة المخيلة فيهما اليد الطولي. ومن المحال أن يوفق فيهما ويهتدي إليهما من لم يكن يحلق في الأفلاك.
واختلافهما عن روايات اليوم يحببانهما إلى عشاق الروايات ويفسحان لهما المقام الأول في الأدب العالمي، ولكن أين من يقوى على توفير ذلك النسيج؟
ربما جهل الأدب العربي يوم طلعت في سمائه (كليلة ودمنة) و (ألف ليلة وليلة) قيمة هذين السفرين. ربما أعرض عنهما وشغف بمقامات الهمذاني والحريري - ومقامات الهمذاني والحريري فن روائي خاص - على أنه اليوم يدرك شأنهما ولا يتنكر لهما بل يفاخر بهما وإن يكن استمدهما من بلاد الهند وفارس كما ذاع وشاع
لقد كان الأدب اليوناني يحفل بهذه الأقاصيص البارزة في كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة. ومن هذا الأدب نهل (لافونتين) في أقاصيصه الفرنسية ذات الشعر الطليق. على أن ثمة من يقول، ويثبت ما يقول، أن (لافونتين) سمع بكليلة ودمنة فاقتبس منها وصاغ تلك الأقاصيص الواقفة في طولها عند الفتر، وإن تجاوزته فإلى الشبر، الملأي بالمغزى الرائع والإرشاد البليغ، فاستعان بالحيوانات على تأذيب الملوك شأن أبن المقفع في كليلة ودمنة. ومما يدل على اقتباس (لافونتين) من كليلة ودمنة أن بين أبن المقفع ولافونتين نحواً من ألف سنة، وأين كان الأدب الفرنسي يوم كان الأدب العربي زاهراً رياناً يناطح السماء؟. .
قد نسمع ممن نحدثه عن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة أنهما شيء قديم. غير أن هذا القديم لا تخلق جدته. فهو أبداً جديد. وعشاق الروايات وقد ملوا طراز اليوم، وبعضه يشبه بعضاً، يميلون إلى الجديد. وروايات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة مما يجوز أن نسميه جديداً، وإن تكن انبثقت منذ ألف عام.
ولا نكير في أن ثمة خرافات وأساطير، على أن الخرافات والأساطير إذا عرضت على الناس في غناء مزخرف براق وكانت دسمة طيبة أزدردها الناس وهضمتها المعد. وخرافات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة كالفاتنة الحسناء، وكل ما يعاب على ألف ليلة وليلة المجهولة الأم والأب أنها ركيكة ضعيفة في قالبها، ولو أتفق لها من يصوغها في بيان ابن المقفع لنافست كليلة ودمنة في متانة تعبيرها وصحة مبناها.
ومما نستدل به على أن كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة يثيران ضجة بعيدة الصوت في الأدب العربي، لو برزوا اليوم إلى النور، ويتربعان في القمة العليا من الفن الروائي، ما يلقيان من غزو الروائيين الأجانب. فكل يوم يرزحان تحت غارة جديدة. وليست رواية (حديقة على العاصي) للكاتب الفرنسي المشرق الديباجة (موريس بارس) غير قبس من ألف ليلة وليلة. وما رواية (الأتلانتيد) لبيير بنوا غير صفحة من صفحات ألف ليلة وليلة. فكأنها مستوحى أدباء الفرنج يسلبونها أطايبها المباحة دون أن يقف في سبيلهم من يقول لهم: ماذا تفعلون؟.
ومع كل احترامنا للتوراة وتقديرنا لها نجرؤ على أن نقارن بينها وبين ألف ليلة وليلة مقارنة صادقة لا ترمي مطلقاً إلى الحط من قدر الكتاب الكريم. إن هي إلا مقارنة أدب بأدب. وكل ما نريد إثباته أن ألف ليلة وليلة أضحت لدى كتاب الغرب أشبه بالتوراة. فكما يغيرون على التوراة يستوحونها يغيرون على ما جادت به علينا شهرزاد الملسانة، أو الثرثارة، التي لا تسكت عن الكلام المباح إلا حين يطلع الصباح.
ولا تقف غارة كتاب الغرب عند ألف ليلة وليلة، بل هم يشنون أبداً الغارة علينا ويستأثرون بكنوزنا ونحن عنهم في غفلة، فلا نراهم إلا يشدون الرحال إلى هذا الشرق، هذا الشرق الحافل بكل غريب، الطافح بالأسرار، المنبثقة منه الأديان، المتصاعدة من معابده روائح البخور تنفثها المجامر الحمراء هذا الشرق القديم في حضارته وهياكله وآلهته، المثقل بالرموز والأشباح والعفاريت، المخيمة عليه حسرات داود وحكمة سليمان، هذا الشرق الراسخة فيه المساجد العالية القباب، والمآذن الناطحة السحاب، والمستوردة فيه المرأة وراء ألف حجاب وحجاب. هذا الشرق مهد الناقة والبعير، المتهادية فيه العمائم والقلانس والطرابيش، المكردسة فيه الذكريات أطباقاً فوق أطباق، من عهد الفراعنة، إلى عهد العبرانيين، إلى عهد الآشوريين، إلى عهد الفرس، إلى عهد العرب، إلى عهد الأتراك.
وعلينا ألا ننسى الصليبيين أموا هذه الديار. ومنذ أقبلوا والغارات علينا تتلو الغارات في الميادين كلها، في السياسة والأدب، فمن غزو إلى استعمار.!
ومن غزاتنا في أدبنا (بيير بنوا) القصصي الفرنسي فهو يفكر اليوم في وضع رواية فصولها جماعة الصليبيين وتدور حوادثها عليهم. فهم أبطالها وسادتها وحجر الزاوية فيها، ولبيير بنوا أن يقول في الصليبيين ما شاء. فالقول ذو سعة، مخيلة الكاتب قد تأتيه بالمبتكر، ولكن هل عوّدنا بيير بنوا الابتكار؟. . .
كل ما رأينا من بيير بنوا لا يزيد على كونه مقتبساً، وهذا الاقتباس لا غبار عليه لو عرف الكاتب كيف يتلاعب به ويمنحه من قوة الخيال والجمال ما يرفع من شأنه ويزيد في قدره، أما أن يكتفي بالاقتباس دون أن يضيف إليه الابتكار المورق السمين فأي عمل أتاه؟. . .
وبيير بنوا ليس من المبتكرين في إنشائه ولا حوادث روايته فهو من الطبقة الوسطى في الروائيين، وفي طبقة دون الوسطى في المنشئين، حتى وإن يكن يكتب باللغة الفرنسية. فليس كل ما يكتب باللغة الفرنسية وبسائر اللغات الحية بليغاً عالي الديباجة باقياً على ممر الأيام. فكل لغة حافلة بالمبتذل السخيف. كل لغة يتلاشى منها معظم ما يكتب الكاتبون وينشر الناشرون. ولا يخلد من ثمار القرائح غير جزء من عشرة آلاف جزء. وإذا بقي شيء من مواليد (بيير بنوا) الأدبية، فلا ريب بأن روايته (ربة قصر لبنان) - وقد استمدها من لبنان - ليست بذلك الجزء الباقي، فهي تحت رحمة الفتاء، وربما استطعنا أن ننعاها منذ الآن.
قد تبقى منه رواية (الاتلانتيد)، على أن رواية (الاتلانتيد) من سرقاته لا يمكن من مبتكراته. وكل تفننه فيها أنه انتقل بها إلى أفريقيا، إلى الصحراء، إلى تلك الديار القاحلة العجراء. وماذا يقال عنه فيها؟. . . يقال إنه صاحب (الاتلانتيد) ليس غير. وقد يجوز لك أن تقرأ (الاتلانتيد) كما يجوز ألا تقرأها. فإذا قرأتها خرجت منها صفر اليدين. وإذا وقفت عن قراءتها ربحت الوقت إن يكن الوقت عزيزاً عليك. وقد تسأل: كيف بلغت رواية (الاتلانتيد) هذه الشهرة العالمية؟. . . وجوابنا أن المؤلف أجاد بث الدعوة لروايته، فذاع لها الصوت العاطر في الأندية الأدبية جمعاء قبل أن تقف هذه الأندية على مضمونها. وشاق الذين طالعوها من الغربيين تلك الصبغة الشرقية فيها. وجاءت دور السيمياء ترفع من مكانتها. والحق يقال إن (الاتلانتيد) نجحت في عالم السيمياء أكثر منها في عالم الأدب.
واليوم و (بيير بنوا) يفكر في وضع روايته الصليبية سوف نرى أي وحي هبط عليه. أيدرك التوفيق أم لا يوفق، ونحن نرتاب في توفيقه لمعرفتنا شأنه الأدب ي. غير أننا لا نستطيع الإنكار أن الرجل من الغزاة الفاتحين. فهو يقبل علينا ينتزع منا موضوعاته الروائية ونحن نشاهد ما عندنا من كنوز ولا نكلف أنفسنا نبشها وإبرازها إلى النور. فالرواية في الأدب العربي الجديد لا تزال في المهد، مع أن الأعصر العباسية حفلت بها وراحت تفاخر العالم بثمارها اليانعة الشهية، ولا يبرح العالم يتذوق هذه الثمار وسيتذوقها ما دام الأدب وضاء الجبين.
وليت أدباء اللغة العربية يدركون اليوم شأن القصة، فتعالجها أقلامهم بما يعيد إلى الأدب العربي مكانته الأولى وعزه القديم. فالرواية حجر الزاوية في كل أدب، وفي كل نهضة، وفي كل دين!
بيروت
كرم ملحم كرم
صاحب جريدة (العاصفة)